العِبْرية: عداوة الخطاب أم اللغة؟
لنعد إلى العقل والجدل الفعليين بدل الغرق في توزيع شهادات حسن السلوك السياسي، وشهادات القبح على كل من يختلف عنا. ما نراه اليوم من تجريم وتخوين، وادعاءات التطبيع لقطاعات إبداعية وفكرية واسعة في تونس أو في غيرها من العالم العربي، بسبب ترجمة بعض الأعمال الأدبية العربية إلى اللغة العبرية، يجعلنا نقف مشدوهين أمام ما يحدث. تراجيديا ثقافية بائسة، يقاد فيها مفكرون ومبدعون كبار نحو مسلخ البلادة. وبدأت تُستخرج قوائم الذين تُرجموا إلى اللغة العبرية، وتم نشرها على الملأ بوصفها تعبيراً عن التطبيع. صراع لغوي لا مبرر له إلا التمادي في الانحطاط الثقافي والفكري، والغرق في صراعات ثانوية لا تساوي جناح بعوضة أمام القضية الكبرى: فلسطين، وهي تواجه احتلالاً بغيضاً وعنصرياً دفاعاً عن حق مسلوب في الحياة والعيش الكريم على أرض الأجداد، وحقّ العودة. القضية بهذا المعنى لا تهم الفلسطيني وحده، وإن كان هو صاحبها الأساسي، ولا العربي وحده الذي يتم اليوم تحييده بإغراقه في حروب أهلية مدمرة، ولكنها قضية إنسانية، تهم البشرية كلها في صورتها العادلة، بما في ذلك اليهودي العقلاني الذي لا يقبل بالظلم، اللهم إلا إذا سلمنا بأنه لا يوجد يهودي واحد مع الحق الفلسطيني، ومحونا بجرة قلم جيلاً من السياسيين والمثقفين والكتاب والفنانين، وقفوا مع الحق لدرجة أن عانوا من مضايقات الموساد وتهديداته، حنا أراندت، نعوم شومسكي، وبعض المؤرخين الجدد يقف على رأسهم آيلان بابي.
أن تترجم إلى لغة أخرى، كيفما كان الوضع التاريخي، لا يعني الشيء الكثير سوى أن نصاً انتقل من لغة إلى أخرى، لأن مترجماً ما رأى أنه يفيد، أو جيد أو إنساني، أو بكل بساطة يدخل في الخط الذي رسمته دار النشر. والعبرية لا تخرج عن هذه السياقات، فهي واحدة من هذه اللغات الإنسانية التي تكلم ويتكلم بها جزء من البشرية، واسعاً كان أو محدوداً، لا يهم، إذ لا توجد لغة صغيرة ولغة كبيرة، ولغة مقدسة ولغة مدنسة، لغة شياطين ولغة ملائكة. هناك لغات لها مساحات كبيرة وأخرى مساحاتها محدودة لعوامل تاريخية كثيرة، منها تاريخ الإمبراطوريات التي تفككت في القرن التاسع عشر أو قبله، الإمبراطورية الإسلامية التي جعلت من اللغة العربية في وقتها لغة أمم كثيرة، لدرجة أن كتب بها الكثيرون القادمون من أديان وثقافات أخرى يكفي أن نذكر كتاب «دلالة الحائر» لموسى بن ميمون اليهودي، المتأثر بشكل قوي بابن رشد لدرجة أن اعتبره الشيخ مصطفى عبد الرازق فيلسوفاً إسلامياً، كما فعل الشهرستاني مع حنين بن إسحاق النصراني.
الإمبراطورية النمساوية المجرية منحت الغة الألمانية امتداداً واسعاً، والإمبراطورية الروسية رسخت للغة السلافية في مناطق كثيرة من العالم، والإمبراطورية البريطانية والفرنسية وغيرها جعلت من لغاتها مرجعاً، قبل أن تتفكك آخر هذه الإمبراطوريات إبان الحرب العالمية الأولى. كل لغة مهما كانت صغيرة فهي تتساوى مع غيرها، لها قيمتها ما دام شعب على وجه الأرض يتكلمها ويعيش من خلالها.
فهل جريمة أن تترجم بعض النصوص العربية (وهي قليلة جداً بالقياس إلى المنتج العربي) إلى اللغة العبرية؟ أين هو الضرر؟ لأنها اللغة الرسمية للاحتلال؟ هل هذا كاف لتجريم لغة تاريخية قديمة ولدت قبل الاحتلال الإسرائيلي؟ بهذا المنطق، فإن اللغة العبرية تحمل عناصر العداوة في جوهرها. كيف نسمي هذا؟ علينا في هذه الحالة حرق نصوص محمود درويش لأنها ترجمت في وقت مبكر إلى العبرية، وسميح القاسم وإميل حبيبي، وغسان كنفاني، وكل ميراث الجيل المقاوم الذي صنع المجد الثقافي الفلسطيني أدبياً وثقافياً وحضارياً، بل علينا بحرق إدوارد سعيد الذي ساجل وحمل قضيته في الجامعات الأمريكية، والمنابر العالمية وسط عداوة مستشرية. ما هذا؟ ألا يعبر هذا التصور الجاهز عن قصور حقيقي في الرؤية الثقافية العربية؟ حالة نزلت بالفعل الثقافي العربي إلى العنصرية المقيتة؟ لا توجد لغة عدوة في المطلق، يوجد مضمون عدواني ونقيضه في أي لغة كانت. كل اللغات تتساوى في النهاية، لا يفرق بينها إلا المحمول الذي تتبطنه. لغة فولتير المناصرة للعقلانية والحداثة والحق والمساواة، تقابلها داخل اللغة نفسها، لغة أباطرة الحقد العرقي، ولغة العمالة عند فيشي والتطرف والحقد العرقي عند عائلة لوبين. لغة زولا المتسامحة في دفاعه عن دريفوس هي نفسها لغة كبار عتاة معاداة السامية الذين قادوا شاباً عسكرياً يهودياً واتهموه بالخيانة العظمى، وحملوه الهزيمة أمام الألمان، بينما الخائن الحقيقي كان هو الضابط استرهازي. في الفضاء اللغوي الألماني، لغة ماركس وأنجلز، وغونتر غراس تقابلها لغة هتلر، وغوبلز ومجرمي الحرب العالمية الثانية. لغة الفردوسي، في الثقافة الفارسية، وإسحاق الموصلي، والموسيقي محمد رضا شجاريان، والمفكر داريوش شايغان، تواجهها لغة القتلة، الشاه وفقهاء الظلام الذين دمروا كل تفكير عقلاني. المتنبي، في اللغة العربية وابن رشد، وسيد درويش، ونجيب محفوظ، هي نفسها اللغة كنظام لساني، التي تكلم ابن لادن والزرقاوي والظاهري الذين أبادوا أي بذرة حياة على الأرض العربية وحولوها إلى رماد.
أصل إلى العبرية، بيت القصيد في هذا الجدل، أليست عبرية أنبياء الله سدينا إبراهيم أبو الأنبياء جميعاً، وسيدنا موسى، ويوسف، وعبرية ألموس عوز، وغروسمان، وأيلان بابيي هي نفسها عبرية نتنياهو والايتايليشمنت العسكري الإسرائيلي، ومع ذلك فهي تختلف عنها جوهرياً. ما أردت قوله، داخل كل لغة محمول وخطاب محدد، قد يكون إنسانياً كما قد يكون عدوانياً. كيف يمكننا جمع ناس متناقضين في الخانة نفسها فقط لأنهم تكلموا نفس اللغة؟ بهذا المنطق، سنعادي كل أنبياء اليهود لأنهم تكلموا العبرية القديمة. وسيعادي الجزائري كل رواد الحركة الوطنية ومثقفيها الكبار لأنهم تكلموا لغة المستعمر وكتبوا بها، ووجهوها ضده. سأجعل من العربي بن مهيدي الذي عُذب حتى الموت، والمحامي الشهيد بومنجل الذي كان يرافع من أجل الوطنيين باللغة الفرنسية، وجميلة بوحيرد التي حكم عليها بالإعدام، والشهيدين موريس أودان، وإيفتون، أعداء، في نفس خانة زبانية القتل، بيليسيي صاحب محرقة جبال الظاهرة (1845) وبيجار، وأوساريس، فقط لأن لغتهم كانت الفرنسية؟ جنون حقيقي. الصراع ليس مع اللغات في المطلق، ولكن ضد الذين يجعلون من هذه اللغة أو تلك، ومنها العبرية، أداة طحن يومي للفلسطيني. لا يمكن وضع الصديق والعدو في سلة العداوة اللغوية نفسها. المحدد في النهاية ليست اللغة، ولكن محمولها الأساسي. المجد للأدب، وحده من يخترق اللغات والبلدان والحدود المغلقة، وبيوت الأصدقاء والأعداء، ودواخل الناس التي يشرق فيها الفرح، أو تعشش فيها الضغينة.