الاستبداد والقسوة والاستغلال وجور القوانين في العراق القديم الحلقة الثالثة: قانون أورنمو
بيدر ميديا ..
كاظم حبيب
الاستبداد والقسوة والاستغلال وجور القوانين في العراق القديم
صدر هذا القانون في فترة حكم الملك السومري أورنمو، مؤسس سلالة أور الثالثة (2111-2003 ق.م). (أنظر: رشيد، فوزي د.، الشرائع العراقية القديمة، وزارة الإعلام، سلسلة الكتب الحديثة 75، مطبعة الحرية، بغداد، 1973، ص 13). تسلم أورنمو الحكم واسس حكم السلالة الجديدة بعد وفاة ملك الوركاء أوتوخيغال، مؤسس سلالة الوركاء الخامسة. استند الملك أورنمو إلى مبدأ حق الملك المطلق في امتلاك أراضي المعابد والدولة في العراق وإلى مبدأ تقليص “الأنسى” الحكام إلى درجة الإداريين الملكيين وتعيينهم وفصلهم وفق رغبة الملك”. (أنظر: مجموعة من العلماء السوفييت، العراق القديم، مصدر سابق، ص 296-297). وقد مارس سياسة استخدام عدد كبير من العبيد وأسرى الحروب والأحرار، أي في الأراضي التي قام بمصادرتها من المعابد ومن أراضي الارستقراطية الحاكمة ووضعها ضمن ملكيته، وسلط على العاملين في مزارعه استغلالاً شديداً، كما يشير إلى ذلك الباحثان السوفييتيان ستروف وتيومينيف. (المصدر السابق نفسه).
عند قراءة القانون العراقي الثاني الذي وصل إلينا حتى الآن، قانون أورنمو، سيجد القارئ أن بنوده تعالج ثلاث قضايا أساسية، هي:
- موقف المشرع من العلاقات الاقتصادية والملكية في المجتمع، وبالتالي، إرادة المشرع في تنظيم تلك العلاقات لصالح مالكي وسائل الإنتاج، ومنها الأرض، ومعاقبة كل متجاوز عليها. وكان الملك هو المالك الأكبر والأوسع للأرض.
- الموقف من العائلة وتنظيم شؤونها والعلاقات التي تنظم شؤون أفرادها.
- الموقف من المعابد والكهنة وملكية الملك والمعابد والكهنة، حيث سيطر عليها ووضعها تحت تصرف الملك.
في مختلف المواد التي أمكن قراءتها حتى الآن فيما عثر عليه من نسخ عديدة لهذا القانون، حيث ماتزال توجد فيها بعض الثغرات بسبب وجود فقرات تالفة، يجد الإنسان أن هناك مادة واحدة فقط تحكم باحتمال الموت، وليست حالة قطعية، وهي الرمي بالنهر للتيقن من صدق أو كذب أقوال المتهم، بسبب عجز المشرع عن وضع أسلوب آخر لاكتشاف الحقيقة أو الوصول إليها. كما توجد حالة واحدة يمارس فيها التعذيب الواضح من جانب المرأة السيدة التي تدَّعي أمَتها مساواتها بها، حيث يحق للسيدة دعك فاه الأمة بلتر أو كيلو غرام واحد من الملح. وهذه المادة العقابية تتضمن عملياً الحق في ممارسة التعذيب بسبب تجاوز الأمة لسيدتها المالكة لها. وهناك مادة أخرى يمكن أن تكون مماثلة، إذ إنها تالفة. أما المواد الأخرى فتعاقب بالغرامة المالية لا غير. إن مواد هذا القانون العقابية تشير إلى عدة حقائق مهمة، وهي:
- أن الملكية الفردية لم تكن واسعة في هذا العهد ولم تكن إشكاليات المجتمع قد استوجبت بروز مواد أكثر قسوة وتنظيماً على وفق مصالح مالكي وسائل الإنتاج. فالتعذيب الذي نعرفه اليوم لم يكن موجودا في أقدم حضارة معروفة لنا حتى الآن. خاصة وأن الملك كان هو المالك للنسبة العظمى من أرض العراق.
- وأن عقوبة الإعدام لم تكن منتشرة، بل اقتصرت على حالة واحدة لم تتوضح تماماً من النص، اعتبر فيها النهر حكما بين المدعي والمدعى عليه.
- وأن عقوبة الرمي بالنهر للتيقن من مدى صدق المدعى عليه تعبر عن سذاجة كبيرة في مستوى تفكير الإنسان حينذاك، إذ يترك للنهر أو الصدفة في الموت أو الخلاص من الموت، فإذا كان الشخص ماهرا في السباحة أو لا يجيدها أصلا، خاصة وأن سكان العراق حينذاك كانوا يعيشون على ضفاف الأنهر خاصة وأن أغلب الطقوس الدينية حينذاك كانت ترتبط بالماء وتستوجب النزول إلى ماء النهر.
- إن التعذيب بالمفهوم السائد حالياً لم يكن معروفاً عند أسلافنا القدامى في العراق، إذ أن جل ما عرف فيه هو استخدام الملح لمعاقبة الفم الذي صدر عنه التجاوز عن الحدود الموضوعة والمسموح بها للأمة. وهي، مع ذلك، عقوبة قاسية بطبيعة الحال، وكانت كما يبدو كافية لذلك العهد. ولكن لا نمتلك ما يساعدنا على تأكيد استخدام القسوة كالإهانة والضرب أو التعذيب بأشكال أخرى في الممارسة العملية وليس عبر التشريع. ومما يمكن أن يؤكد احتمال وجود مثل هذه الممارسة الطريقة التي بدأ الحاكم أورنمو بها حكمه من حيث هيمنته على الأرض وتشديد الاستغلال على العاملين بهدف الحصول على اقصى ما يمكن من ثروة.
- لم يعرف هذا المجتمع القصاص مثل العين بالعين والسن بالسن، إذ أن عقوبة ارتكاب مخالفات واعتداءات، مثل التسبب بقطع أنف أو قطع رِجل أو كسر سن رَجلٍ آخر، كانت لا تقابل بالمثل، بل كان على الفاعل دفع غرامة مالية متباينة في مقدارها. وكان المشرع عقلانياً في ممارسة مثل هذه العقوبة.
وأن أول تشريع عراقي معروف حتى الآن في تاريخ البشرية يشير إلى ممارسة المشرع لرؤية تجريدية مهمة جداً، إذ أن المشرع لا يفرض عقوبة على حالة بعينها، بل يضع صيغة نمطية لعقوبات محتملة ومتماثلة، بغض النظر عن مكان أو زمان وقوعها. وتجد هذه الحقيقة تعبيرها في استخدم المشرع كلمة “إذا” الشرطية في بداية كل مادة من هذا القانون والقوانين اللاحقة أيضاً. (مهدي، فالح د. البحث عن جذور الدولة في الإسلام، مصدر سابق، ص 13). وهذه الرؤية التجريدية مرتبطة ايضاً بمستوى تطور معارف ووعي الإنسان وقدراته التجريدية في الرياضيات في هذا العهد من تطور العراق القديم.
ولا شك في أن هذا العهد عرف الصراعات والنزاعات بين الأفراد والجماعات وفي إطار الطبقة السائدة والحاكمة، ولكنها كانت فردية ومحدودة وغير خطرة. ويمكن القول بأن العهود التي سبقت هذه الفترة ربما كانت خالية من تلك العقوبات ايضاً، أي عقوبة إلقاء المتهم بالنهر وعقوبة فرك فم الأمة بالملح، وهما عقوبتان فجتان وقاسيتان، وبقدر ما تعبر الأولى عن سذاجة في فهم العدالة، تعبر الثانية عن روح انتقام. ويشير المشرع إلى أن هذه القوانين شرعت من قبل أورنمو وفقاً لإرادة إله مدينة أور “ننار”، وهو إله القمر، مع تمجيده للألهين أنو وانليل في مقدمة الشريعة. (رشيد، فوزي د.، الشرائع العراقية القديمة. مصدر سابق، ص 47).
الحلقة الرابعة: قانون لبت عشتار
صدر قانون لبت عشتار باللغة السومرية في الفترة الواقعة بين 1934-1923 ق.م، أي في فترة حكم الملك لبت عشتار، وهو خامس ملوك سلالة إيسن العيلامية السامية. حكمت هذه السلالة خلال الفترة الواقعة بين 2017 – 1794 ق.م في المنطقة التي كانت تدعى “تل إيشان البحيرات”، والتي تدعى اليوم عفك في العراق، وباللغة العامية عفج.
لم يختلف المشرع هذا القانون عن القانون السابق في القضايا التي تطرق إليها، ولكنه توسع في قنونة القضايا المطروحة وبحث في مسألة العبيد والعلاقات بين الأفراد في المعاملات المختلفة وقضايا العائلة والحياة الاقتصادية. تميز عنه بقضية أساسية، استنادا إلى ما وصل إلينا من مواد هذا القانون، هي خلوه من أي عقوبات جسدية ونفسية ضد الإنسان. فكل العقوبات التي ينزلها المشرع في المخالفين لبنود القانون، سواء أكانت مخالفاتهم اقتصادية ومالية وتجارية، أم نزاعات شخصية واعتداءات من طرف على آخر، كانت غرامات مالية يتحملها الفرد، كما إنها لم تكن غرامات مالية قاسية عموما. ويمكن الادعاء، وفق ما لدينا من معلومات، بأن هذا القانون قد تميز بنهج إنساني تربوي بعيد عن التهديد والوعيد أو التعذيب أو الانتقام وفرض القصاص المماثل للمخالفة أو الجريمة، إن صح التعبير، أي لم يأخذ بقاعدة “العين بالعين والسن بالسن”. حتى إن المشرع حاول أن يعتمد التقاليد والمقولات الشعبية لتأصيل وتكريس السلوكية التي يراها مناسبة والتي اعتاد عليها الناس حين ذكر في إحدى مواده النص التالي: “31- … الذي أعطاه إياه بعد موت أبيهم فأن الورثة يقسّمون ضيعة أبيهم، ولكن ميراث الضيعة لا يقّسم… إنهم “لا يطبخون كلمة ابيهم في الماء”. (أنظر: دلو، برهان الدين، حضارة مصر والعراق، مصدر سابق، ص 418). وتريد هذه المادة أن تقول بأن الورثة يحترمون وصية أبيهم وينفذونها. وهذه المادة مماثلة لما ورد في قانون أشنونا. وتستوجب هنا الإشارة إلى مسألتين، وهما:
- تميز المشرع، الذي صاغ هذه المواد باسم الملك وأشرف على صياغتها ووافق عليها وتبناها وأعلنها باسم الآلهة، بالتواضع ومحاولته الاقتراب من الآلهة، واعتبر اختيار الآلهة له بمثابة تكليف بمهمة نشر العدل والحق في البلاد، حيث يشير إلى علاقته بالآهين هما (آنو) و(إنليل)، وأن اختيارهما له جاء ليكون حاكما راعياً وعادلاً للبلاد ولقب نفسه بالملك الراعي والمتواضع لمدينة نفر، والمزارع الضليع لمدينة أور، الذي لم يتخل عن مدينة أريدو، والحاكم المناسب لمدينة الوركاء، ملك إيسن وملك سومر وأكاد”. (ذنون، عبد الحكيم، تاريخ القانون في العراق، دار علاء الدين، دمشق، 1993، ص 79).
- كما تميزت بلاده في فترة حكمه بالهدوء والنظام، واستند إلى مبدأ التسامح ومعالجة المشكلات القائمة بعيدا عن العنف. وتميزت العلاقات العائلية بالاحترام، سواء أكانت قائمة على الشرعية الزوجية، أي عقد الزواج، أم بدونها. ويبدو لمتتبع هذه القوانين أن الملك لبت عشتار في قانونه هذا كان متقدما على من سبقه ومن تلاه من ملوك مشرعين للقوانين، كما أن المجتمع حينذاك أقر صيغة الزواج أو المعاشرة بين الرجل والمرأة دون عقد زواج. والظاهرة الأخيرة تنتشر اليوم في أوروبا على نطاق واسع، باعتبارها صيغة حديثة للعلاقة العائلية.
ويشير الدكتور فوزي رشيد إلى ان “قانون لبت عشتار كان بالتأكيد مدوناً على مسلة كبيرة وكانت مقامة في مكان يؤمه الناس كثيراً. وهذه الحقيقة يمكن استنتاجها مما ورد في مقدمة القانون وخاتمته”. (أنظر: رشيد، فوزي د.، الشرائع العراقية القديمة، وزارة الإعلام، بغداد، 1973، ص 38).
لم يختلف الملك لبت عشتار عن باقي الملوك الذين دونوا القوانين حينذاك بتأكيده على أن هذا القانون وضع وفق إرادة الإله ويشير إلى مهمته التي أوكلها له الِإله وما فعله في البلاد، حيث جاء في الخاتمة ما يلي: “استناداً إلى كلمة الإله “أوتو” الصادقة تسببت في أن تتمسك بلاد سومر وأكد بالدالة الحقة، واستناداً إلى أمر الإله إنليل “أنا لبت عشتار” ابن الإله إنليل قد قضيت على البغضاء والعنف …. وعملت على إبراز العدالة والصدق وجلبت الخير للسومريين والأكديين …. ونشرت الرفاه في بلاد سومر وأكد وأقمت … المسلة”ا. (لمصدر السابق نفسه، ص 46). وضعت شريعة الملك لبت عشتار وفق إرادة إله مدينة “أيسن” الإله “نن انسنا”، ولكنها مجدت في مقدمتها الإلهين أنو وإنليل أيضاً. (أنظر: المصدر السابق نفسه، ص 47).
صدر قانون أشنونا في أعقاب تشريع القانون الأول بحوالي قرن واحد، أي في حدود 1950 ق.م وقبل صدور شريعة حمورابي بقرنين تقريباً. وضع هذا القانون من قبل الملك بيلا-لاما، رابع ملوك أشنونا بهدف تنظيم الحياة الاقتصادية والاجتماعية في مملكته. وجاءت بتأثير ملموس من قانون أورنمو السومري وقانون لبت عشتار. وتضمن هذا القانون عقوبة جديدة لم يأخذ بها المشرع في مجتمعات الفترة السابقة ولم تنعكس في تشريعاتها، ونعني بها عقوبة القصاص، أي العين بالعين والسن بالسن. وفيما عدا ذلك ركز المشرع عقوباته على الغرامات المالية بالنسبة للمخالفات الاقتصادية والمالية والنزاعات والاعتداءات الشخصية. واتسم هذا القانون بالوضوح والبساطة واستخدام عبارات شعبية ما تزال تمارس شعبياً في المجتمع العراقي كقوله “لا يطبخون كلمة أبيهم في الماء”، أي أنهم سيلتزمون بوصية أبيهم، دون أن يهددهم المشرع بعقوبة معينة لممارسة تقليد تنفيذ الوصية. وعلى العموم تضمن قانون أشنونا ثلاثة تغييرات ملموسة بالمقارنة مع قانون أورنمو الأول أو الأقدم، وبالتالي وجدت الفئة الحاكمة نفسها أمام حاجة لتشديد القانون الذي تعمل به لضمان مصالحها، وهي:
تنامي ملموس في الملكية الخاصة واتساع دورها ومكانتها في المجتمع وتقسيم عمل اجتماعي، مما أوجد أوضاعاً ماليةً أفضل للسكان عموما مع وجود تمايز في الحالة الاقتصادية والاجتماعية للسكان؛
- بروز عقوبات بالموت لحالات أكثر من السابق، وشملت لأول مرة عقوبة الموت لمن يقتل شخصا آخر.” فالمادة (25) التي فرضت حكم القصاص بالموت على الشخص الذي يضع يده على زوجة رجل من الموالي أو على ابنه (بصفتهم رهينة)، وقام باحتجاز هذه الرهينة وحبسها في بيته، ومن ثم تسبب في موتها، اعتبر المشَّرع أن هذه القضية هي قضية (قتل) ويجب الاقتصاص من الفاعل بنفس الجرم الذي كان قد بدأ به”. (أنظر: ذنون، عبد الحكيم، تاريخ القانون في العراق، مصدر سابق ص 78).
- بروز حالات تشير إلى ممارسة العنف فيما بين أفراد المجتمع مثل عض الأنف أو الأذن التي لم ترد فيما سبق. ومع ذلك لم يمارس المشرع هنا عقوبة القصاص إلا في حالة واحدة، ولكنها كانت البداية لمواد أخرى في القوانين اللاحقة التي صدرت في العراق القديم، أي قاعدة العين بالعين والسن بالسن، كما مورست فيما بعد، بل أعتمد الغرامات المالية، والتي لم تكن مرتفعة بسبب الأوضاع المعاشية فيها، ولم تكن تختلف كثيرا بهذا الصدد عن قانون أورنمو.
- ويعبر هذا القانون الجديد، بما وردت فيه من تشريعات وتنويع في العقوبات وتشديدها، عن حالة من التلاقح والتفاعل بين الحضارة السومرية وبين الحضارة الأكدية التي بدأت تتسرب إلى العراق وتهيمن على الحياة وتتجلى في التشريعات ايضاً. وهي كما يبدو لنا أنها مرحلة انتقالية تجلت في القانون اللاحق أيضاً، ثم اتخذت في قانون حمورابي صيغتها الأساسية ذات الطبيعة الردعية القاسية جداً. والتي تعبر بدورها عن التحولات التي حصلت في المجتمع العراقي القديم بين الحضارة السومرية والحضارة الأكدية، رغم أن الأخيرة لم تتخل عن كل التقاليد السومرية بل امتصتها وتمثلتها في تشريعاتها إلى حدود غير قليلة.
واشترك هذا القانون مع القانون الأول في تأكيد العلاقة القائمة بين الآلهة والملوك مشيراً إلى أن الحاكم أو الملك هو الذي تسلم القانون من الإله وهو الذي ينفذ إرادة الآلهة على الأرض وبين الناس، وأن مهمته هي السهر على تنفيذ تلك القوانين ورعاية مصالح الناس، كما يمجد ذات الآلهة التي مجدتها القوانين التي سبقته.