مقدمّة كتاب محمد السعدي: بيني وبين نفسي حكايات من الأرشيف الشخصي للحركة الشيوعية العراقية / بقلم عبد الحسين شعبان
مقدمّة كتاب محمد السعدي: بيني وبين نفسي حكايات من الأرشيف الشخصي للحركة الشيوعية العراقية / بقلم عبد الحسين شعبان
مجلة الشراع 7 آذار 2021
– I –
حين طلب منّي الرفيق محمد السعدي “أبو بيدر” كتابة مقدّمة لكتابه الجديد “بيني وبين نفسي – حكايات من الأرشيف الشخصي للحركة الشيوعيّة العراقية”؛ عدت إلى قراءة كتابه السابق “سجين الشعبة الخامسة”، لارتباط الكتابين بتجربة شخصيّة لمناضل في صفوف الحركة الشيوعية، سواء في حركة الأنصار أم في ظروف العمل السرّي، في فترة من أخطر المراحل السياسيّة في تاريخ العراق؛ ولعلّ تجربته الغنيّة هي جزء من تجارب شخصية لمناضلين شيوعيين في مستويات مختلفة، ومن مواقع عمل عديدة، تبقى بحاجة إلى دراسة ومراجعة وتمحيص وتدقيق ونقد لأخذ العِبرة منها بما لها وما عليها.
ويروي محمد السعدي كيف وقع في فخّ الاستخبارات العسكرية في العام 1987 بخديعة أو تواطؤ أو قُصر نظرٍ على أقلّ تقدير، لا فرْقَ في ذلك فقد كان لُقمة سائغة بيدِ الخصم، ليجد نفسه “نزيلًا” في الشعبة الخامسة لمدة 87 يومًا تعرّض فيها لأنواعٍ شتّى من التعذيب، وضغوط جسدية ونفسية اضطر فيها الاعتراف بمهمّته والكشف عنها، حيث اقتيد إلى “محكمة الثورة” مع 7 أو 8 أشخاص من حزب الدعوة، ومن حُسن الصُدف كما يقول أن تأجّل البتّ في قضاياهم، فأعيدوا من حيث أتوا لتتمّ مساومته بإطلاق سراحه مقابل التعهد بالعمل لصالح الاستخبارات العسكرية، وهي طريقة اتّبعت في الكثير من الأحيان مع من يلقى القبض عليهم، خصوصًا ممّن كانوا يتوجّهون إلى داخل العراق لإعادة بناء التنظيم، وفي الكثير من الأحيان كان هؤلاء تحت عين الأجهزة الأمنية بأنواعها واختصاصاتها التي غالبًا ما كانت تخترق خطوطًا حزبيّة وتتغلغل فيها وتسهّل مهمّاتها لتكون في حدود السيطرة باللحظة المعنيّة، وقد استدرجت إدارات حزبية متقدمة وهيّأت لها أماكن إقامة و”بيوت حزبية” راصدة جميع تحرّكاتها واتصالاتها متعقّبة أثرها، في أكبر عمليّة اختراق في مطلع التسعينات.
كتابَا الرفيق أبو بيدر جعلاني أتوقّف عندهما، في مراجعة محطات مهمّة من تجربته الشخصية، خصوصًا وأنّهما يكمّلان بعضهما البعض ويتداخلان أحيانًا في بعض التفاصيل، بل أنّ تكرار المشاهد يجعلك تتصوّر أنّك تقرأ في كتاب واحد، وإن جاء كتابه الذي أتحدّث عنه ليستعيد فيه طفولته ونشأته وحياته في قرية “الهويدر”، حيث بساتين البرتقال والأشجار الباسقة، والمقاهي الشعبية والأصدقاء وحركة الناس، لينتقل إلى بدايات وعيه السياسي واندفاعاته وحماساته وتطلّعاته ومدارسه في إطار تأمّلات سوسيولوجيّة ولفتات ذكيّة ومواقف لا تخلو من أخطاء ومراجعات ونقد، ومن ثمّ تناول بدايات نشاطاته الطلّابية والنواتات الحزبية والمواجهات المباشرة وغير المباشرة في إطار الاصطفافات السياسية في القرية مع البعثيّين ومنظّماتهم أيام الجبهة الوطنية التي انفرط عقدها في أواخر العام 1978 والثلث الأول من العام 1979.
ولعلّ المرحلة الثانية من نشاطاته وحركّيته جاءت حين انتقل إلى بغداد للالتحاق بالجامعة في العام 1980 والتي تداخلت مع الحرب العراقية – الإيرانية، حيث انتظم في نواةٍ شيوعية أطلق عليها “منظمة الصدى” ليلتحق بقوات الأنصار في العام 1983 وهنا يستعيد أسماء الشهداء ويُعدّد المواقع والقرى الكردية وخطوط التواصل وحياة الأنصار والصعوبات التي يمرّون بها والبطولات التي يجترحونها والتضحيات التي يقدّمونها، ثمّ يخبرنا عن تكليفه بالتسلّل إلى بغداد في مهمّات خاصّة يستغرب هو الآن تنفيذها بكل رحابة صدرٍ وكأنّه يتوجّه إلى نزهة، في حين أن الموت كان ينتظره عند أيّ منعطف أو محطة ولأيّ خطأ يقوم بارتكابه أو سهو يقع فيه، ويذكر الحِرمانات التي عاشها دون أن ينسى تلك الرومانسية الحزينة التي لم تتركه، ودون أن يهمل الأخطاء والعيوب والإخفاقات والبيروقراطية وإسقاط الرغبات على الواقع.
ويتوقف السعدي بذهول أحيانًا عند بعض المحطات المهمّة في تجربته الفتيّة، حين التقى بعض قادة الحزب الذين كان يسمع عنهم، ومنهم أمين عام الحزب الأسبق بهاء الدين نوري (من العام 1949 وحتى العام 1953) الذي تمّ عزله ومقاطعته اجتماعيًّا والتشهير به، وكيف كان “يخاطر” بالذهاب إليه والإلتقاء به، ويستعرض بشكل متفرّق حيثيّات ما حصل في بشتاشان حين شنّ الاتحاد الوطني الكردستاني “أوك” هجومًا غادرًا ضدّ أنصار الحزب الشيوعي راحَ ضحيّته عشرات الرفاق ويتناول الحساسيات التي حصلت جرّاء مواقف البعض الضعيفة.
أمّا بخصوص المؤتمر الرابع للحزب فيتناول تعقيداته وملابساته وما أثاره من انقسامات، خصوصًا في التحضير له حين ألقى عزيز محمد (الأمين العام للحزب حينها) كلمة قال فيها “اجتمعنا ليُلغي نصفنا النصف الآخر”، واتّضح أنّها خطّة للتضحية والتفريط بقيادات تاريخية وكوادر متقدّمة ومجرّبة بسبب وُجهات نظرها الفكرية والسياسية، لا سيّما بصدد الموقف من الحرب العراقية – الإيرانية، كما يسلّط الضوء على الاختراقات العديدة لأجهزة المخابرات والأمن العراقية التي تمّ اكتشاف بعضها والتحقيق مع عدد من المتّهمين بعد إخضاعهم للتعذيب، حيث اعترفوا بتعاونهم مع الأجهزة العراقية، وصدر قرار بإعدامهم دون أن يذكر مصدر هذا القرار ومَن قام بتنفيذه لكنّه يلمّح له، علمًا بأن ثمّة أسماء تردّدت على هذا الصعيد من خلال روايات عديدة لم يتمّ الإفصاح عنها أو كشفها على الرغم من مرور ثلاثة عقود ونيّف من الزمان.
وبعد إطلاق سراحه بالمساومة المذكورة وجدها فرصة مناسبة للهرب في اليوم التالي والوصول إلى مدينة كفري في كركوك حيث حلّ ضيفًا على عطاالله الطالباني مدير بلديّتها الذي كانت تربطه به علاقة سابقة عبر نجله آشتي رفيقه الذي كان يلتقيه في المعهد البريطاني في بغداد، وهناك التقى مكرّم الطالباني (القيادي الشيوعي السابق) وقصّ عليه ما حصل له، فشجّعه على ذلك ونصحه بالابتعاد عن كل ما له علاقة بتلك الأجواء، وهكذا إلتحق بالجبل مرّة أخرى ليروي ما جرى له لقيادة الحزب وللرفيق طه صفوك (أبو ناصر) الذي اعتُبر من العشرة “المبشّرين بالجنّة” الذين اختارهم عزيز محمد ليصبحوا أعضاء في اللجنة المركزية دون أن يعلن عنهم بحجّة العمل السرّي، لكن الدنيا ضاقت بالسعدي بعد أشهر وأخذ يفكّر بترك موقعه والتوجه إلى الخارج فعسى أن يجد في حياته الجديدة ما يعوّضه عمّا تعرّض له وما خسره وما عاناه خلال اعتقاله، إلّا أنّه فوجئ بعدم تقديم أيّ مساعدة له، فاتّخذ قراره بعبور الحدود إلى إيران معتمدًا على نفسه وعلى بعض الأنصار من أصدقائه ومن بيشمركة الأحزاب الكردية، ومن هناك رتّب أموره ووصل إلى سوريا واستقرّ فيها لبضعة أشهر وحصل على جواز سفر يمنيّ بواسطة عامر عبدالله ومنها توجّه إلى براغ ومن الأخيرة إلى السويد طالبًا اللجوء السياسي ليستقرّ في مدينة مالمو منذ العام 1989 وحتى الآن، وهي رحلة شاقة ومضنية قطعها مئات الرفاق الذين وجدوا أنفسهم في المنافي البعيدة بعد تبدّد أحلامهم وتشتّت شملهم.
– I I –
أربع ملاحظات أساسية أتوقف عندها خارج الآراء السياسية أو الحزبية التي وردت في الكتابين، سواء بالاتفّاق أو بالاختلاف أو بالتناول والتقويم.
أوّلها – الكتابان عرّفاني بالرفيق محمد السعدي أكثر ممّا أعرفه، وكنت أوّل مرّة قد تعرّفت عليه بواسطة الرفيق عامر عبدالله الذي استقبله في الشام ليستمع إلى تجربته المؤلمة، فضلًا عن كون الشهيد الجنرال خزعل السعدي خاله، إضافةً إلى معرفة لاحقة بواسطة الرفيق طه صفوك “أبو ناصر”، واكتشفت أنّ لديه رغبة في التعلّم وحبّ المعرفة، والمعرفة حسب كارل ماركس تعني “الذهاب للقاء بالواقع”.
وقد حاول السعدي في الكتابين أن يعرض تجربته بأسلوب قصصي لا يخلو من حبكة دراميّة واستخدم الحكاية بطريقة موحية، وقد جاء الكتابان بصيغة مجموعة حكايات أو قصص أو حتّى أقصوصات منفصلة ومتّصلة أحيانًا في إطار هارموني متآلف ومتخالف أيضًا، وهو أسلوب استخدمه للتخفيف من عبء الكتابة بمعناها الحرفي والمهني دون أيّ ادّعاءات أو تضخيم للذات.
وثانيهما – امتاز محمد السعدي بجرأة وشجاعة نادرتَين بكتابه الأول والثاني، حين اعترف بالكثير من أخطائه ومثالبه وعيوبه، ومنها تعاونه مع أجهزة الاستخبارات العسكرية حين تمّ اعتقاله وذلك إنقاذًا لنفسه بعد أن لم يتمكن من الصمود في التعذيب إلى النهاية، حيث قرّر قبول عرض الاستخبارات بعد أن رفضه في السابق بإصرار، ولكنّه في الوقت نفسه قرّر تضليلها ثمّ الهروب في أوّل فرصة سُنحت له إلى الجبل مرّة ثانية وإخبار الحزب بجميع التفاصيل التي جرت له، خصوصًا وأنه يمتلك خزينًا هائلًا من المعلومات عن بعض من أُلقي القبض عليهم وتعاونوا مع الأجهزة الأمنية، ويعتقد أنّ قسمًا منهم أخفى المعلومات عن الحزب وهو ما يزال يعمل في مواقع متقدّمة دون أن يبلّغ عن ذلك، علمًا بأنّ من يُلقى القبض عليه وتتم مساومته ويوافق على ذلك يُطلق سراحه بسرعة ليعود إلى وضعه الطبيعي وكأنّ شيئًا لم يكن، حيث يكون نقطة استقطاب لكشف المزيد من الذين يكلّفون بمهمات داخل العراق فيكون تحت علم وبصر الأجهزة الأمنية.
وكما يقول أبا بيدر فإن الغالبية الساحقة من الذين توجّهوا إلى الداخل وقعوا في شرك الأجهزة الأمنية، قسم منهم استشهد والقسم الآخر أُطلق سراحه باتفاقات معها، وعلى هذا الصعيد يذكر العديد من الأسماء وبعض مهمّاتها واستدراجاتها، وتحفظُ ذاكرته أسماء عشرات الشهيدات والشهداء الذين ذهبوا ضحيّة الغدر والخيانة وضعف اليقظة، ويتناول أخطاء بعض إداريّي الحزب وصراعاتهم ومنافساتهم غير المبدئية التي سهّلت على هؤلاء الذين عملوا لمصلحة الأجهزة الأمنية التحرّك بحرّية، بل إن البعض كان يُبدي إعجابًا بشجاعتهم، ولولا بعض المصادفات لكان هؤلاء قد استمرّوا وألحقوا أضرارًا لا يعلم بها إلّا الله مُستدرجين عشرات آخرين من الرفاق.
وثالثها – أنّه ينتقد تجربته، لا سيّما مشاركته في التحقيق “الحراسة” ضدّ آخرين أو قبوله بفكرة تعذيب آخرين لانتزاع اعترافات منهم، سواءً كانوا يعملون لمصلحة الأجهزة الأمنية أم رفاق اتّهموا بالتكتل أو الاحتجاج ضدّ ممارسات بيروقراطية وسياسات خاطئة، كما حصل للضحيّة المغدور مشتاق جابر عبدالله “من مدينة الثورة” واسمه الحركيّ “منتصر” الذي استشهد تحت التعذيب على أيدي رفاقه، وستّار غانم “سامي حركات” الذي استشهد خلال تسلّله إلى الداخل على يد المخابرات العراقية، وأحمد الناصري “أمين” الذي هو أحد الشهود الأحياء على ما حصل له ولرفاقه من سوء معاملة وتعذيب، وسبق له أن روى قصته ومفارقات تعذيبه على أيدي البعثيّين وعلى أيدي رفاقه الشيوعيّين.
ويذكر محمد السعدي عددًا من الأسماء التي شاركت بالتعذيب أو التحقيق وفي اتخاذ القرارات صراحةً أو تلميحًا، وكان الرفيق قاسم سلمان “أبو الجاسم” قد عرض أدوات التعذيب والوسائل التي استُخدمت لانتزاع اعترافات من الرفاق المعارضين أمام الرفيق عزيز محمد (الأمين العام الأسبق) في اجتماع أمام جمع من الرفاق الأنصار، وهو ما تمّ تداوله في حينها ونشرته بعض المطبوعات الحزبية.
ورابعها – إنّه يشخّص عددًا من المسؤولين عن النواقص والعيوب والثغرات بما فيها الأمنية إمّا لعدم خبرتهم أو قلّة معرفتهم أو حتى جهلهم، ناهيك عن أنّ بعضهم يريد تحقيق مكاسب أو منجزات ليُدرج ذلك في سجلّه الشخصي. ويعرض السعدي حكايات وقصصًا عن الاختراقات وبدائيّة التعامل معها، حيث يتناول سذاجة بعض المسؤولين وانفصالهم عن الواقع، ناهيك عن “المغامرة” بالرفاق تحت عنوان إعادة التنظيم، وحسب بعض التقديرات، فإنّ بضع عشرات من هؤلاء غيّبوا في السجون ولم يُعرف مصيرهم حتى الآن، بمن فيهم رفيقات بطلات، دون أن تكون النتائج مُجزية، وكان يمكن ادّخارهم لليوم المناسب. وهكذا لم تكن حسابات الحقل منسجمة أو حتى متوازية مع حسابات البيدر، ولكن الغريب هو الإصرار بعد كل هذه الخسائر على إرسال الرفاق إلى الداخل كما يقول.
– I I I –
في الكتابين دعوة للنقد الذاتي لكشف الحقيقة ومصارحة الرفاق والاعتذار لمن تمّت الإساءة إليهم أو لعوائلهم في حالة استشهادهم، والكفّ عن مثل هذه الأساليب التي لا تخدم إلّا أعداء الحزب والشيوعيّة، وقد عبّر السعدي عن انتقاده الشديد لمن أنكر أو سكت معتبرًا ذلك تواطؤًا لا بدّ من كشفه وقد بدأ بانتقاد نفسه على ذلك، ويأمل أن يتحلّى آخرون بالشجاعة ليقولوا الحقيقة وهو ما استوضحتُهُ منه، وحسب شكسبير “فالحقيقة تُخجل حتى الشيطان”، وقد وجدت في اعترافه بأخطائه وندمه على القيام بذلك فضيلةً، وكما يقال “فالاعتراف بالخطأ فضيلة” وهو أوّل الطريق للمصارحة والمكاشفة بممارسة رياضة روحية مع النفس للتطهّر وعدم تكرار ما حصل.
ومهما كانت المبادئ سامية إلّا أنها تتعرّض للتشويه حينما تتحوّل إلى أيديولوجيا “صمّاء” وهي ما تستخدمه إدارات الأحزاب لتبرير انتهاكاتها، سواء كانت في السلطة أم خارجها، ولفرض هيمنتها، فحتى الأحلام الوردية واليوتوبيا ليست معصومة من ارتكاب الآثام والجرائم، ولعلّها ذاتها تصبح أداةً للجريمة طالما تضع الفكرة بمقام أسمى من الإنسان، وهذا الأخير حسب كارل ماركس “أعظم رأسمال”؛ ووفقًا للفيلسوف الإغريقي بروتوغراس “الإنسان مقياس كل شيء”. ولعلّ التبرير بامتلاك الحقيقة وادّعاء الأفضليات يُعطي المسوّغ لبعض المتأدلجين باستخدام جميع الوسائل للوصول إلى غاياتهم عن طريق العنف أو الخداع والكذب والتدليس، إضافة إلى استغلال “إيمانيّة” و”براءة” البعض الذين يعتبرون ما يرِدهم “حقائق مطلقة” حتى دون أن تستفزّهم طوابير الضحايا، فالأمر ليس مهمًّا بقدر المستقبل المنشود.
وباختلاف الفعل عن الفكرة السامية أو القصد الأصلي تتّسع دائرة الافتراق بين الغاية والوسيلة، فلا غايات شريفة وعادلة دون وسائل شريفة وعادلة، فالوسيلة من شرف الغاية، علمًا بأنّ الوسيلة ملموسة وعملية في حين أنّ الغاية بعيدة ونظريّة وحسب المهاتما غاندي رائد المقاومة المدنية اللّاعنفية “الوسيلة إلى الغاية مثل البذرة إلى الشجرة” أي أنّهما مرتبطان عضويًا ولا يمكن فصلهما.
بتقديري إنّ الممارسة هي مصدر كل حقيقة ومعيارها وفقًا لماركس، لأن النظرية لا تنفصل عن الفعل وهي حسب وصفه “توصل المجتمع إلى الوعي بذات المجتمع”، والممارسة تمثّل “حياة الفكرة” مثلما الأخيرة “دليل الممارسة” ومفتاحًا لكل الأقفال.
– IV –
إذا كان الرفيق أبي بيدر قد عانى أشد المعاناة وتركت تجربته تلك ندوبًا نفسيّة وجسديّة على حياته اللاحقة، إلّا أنها فتحت عينه على آفاق جديدة، وهو ما يتّضح من بعض استنتاجاته، سواء التي توصّل إليها أم تلك التي تترشّح من بين السطور، ومنها ما جدوى مثل تلك المغامرات؟، حيث تبقى تعتصر قلبه على فقدانه مقاعد الدراسة في كلية الآداب “قسم اللغة الروسية”، ويتذكّر عدد من أساتذته بمن فيهم حياة شرارة التي ودّعها حين قرّر الصعود إلى الجبل فعلّقت “إنت همْ راح تهرب مثل جماعتك؟” وهي الأخرى كانت عانت من مرارة علاقتها الشيوعية مع البيروقراطية الحزبية عند دراستها في موسكو، وضياء نافع وجليل كمال الدين ومحمد يونس الساعدي.
لكنّ التعويض الأهم لكل تلك العذابات والمظالم بما فيها من ذوي القُربى “رفاق الدرب” جاءه من الحبيبة والزوجة التي مسحت دموعه ونوّرت حياته وأزهرت مستقبله، وكانت بمثابة البلسم الذي داوى جروحه، حيث ظلّ لسنوات، بل لحدّ اليوم يستيقظ مرعوبًا وفزِعًا حين يشاهد كوابيسًا مخيفة في أحلامه، ليجد زوجته (جنان) إلى جانبه، فتهدّئ من روعه وتناوله قدح ماء ليلتقط أنفاسه ويستعيد توازنه، خصوصًا بلمسة دافئة وكلمة حلوة.
– V –
تجربة محمد السعدي تُقرأ دون إسقاطات مُسبقة بالـ”مع” أو “ضد”، وحتى خارج نطاق السياسة لأنّها تجربة إنسانية وهي تصلح أن تكون فيلمًا دراميًّا بغضّ النظر عن سوداويّتها، فثمّة كوّة ضوء ويقظةٍ لأملٍ جديد وروح جديدة. إنها تجربة حيّة لنصيرٍ وشيوعيّ رواها بصدقيّة كما أعتقد، وسيكون مفيدًا لمن عايشه في تلك الفترة أن يدلي بدلوه بما تناوله من حكايات وسرديات، إن كان إضافة أو حذفًا أو تصحيحًا أو تدقيقًا أو حتى تخطئةً، لأنّني أعتقد أنّها تجربة تستحق القراءة والنقد هي ومثيلاتها، فقد حاول عرضها بطريقة لا تخلو من عفويّة وخارج دائرة القيود والتستّر.
لم يُهمل السعدي نقاط ضعفه ولم ينشغل بتلميع شخــــــــــــصه، ولم يدّعِ بطولة، بل عرضَ بعــــــــض مغامراته تلك بتلــــــــــقائيّة لا تخلو من براءة وطفــــــــــوليّة لاعتقــــــــاده أنه كان يقوم بعــــــملٍ مـــــــــــهمّ يؤدّيه بإخــــــــــلاص كواجبٍ محــــــــبّب، ولو اســـــــــتعدنا الزمن فإنّ ما فعله في تلك الأيام باعتباره عملاً اعتياديًّا سيتوقّـــــــــف عنده كثيرًا، بل سيتردّد أكثر وربّما سوف لا يُقدم عليه لأنّه قد لا يجده ضروريًّا، بل إنّه انجراف غير محسوب النتائج، وتلك واحدة من دروس الحياة.
بتقديري، ليس المهم الحركة، بل لا بدّ معرفة ما الهدف من الحركة؟ وماذا يمكن أن تنتج؟ وكيف يمكن تحقيق الهدف؟ وهل الأساليب المُستخدمة تنسجم مع الواقع والتطوّر؟ فقد كانت الخسائر تكبر دون نتائج ملموسة تُذكر، وأستعيد هنا قولًا أثيرًا كان عزيز شريف (أبو عصام) غالبًا ما يردّده بعقلانيّته المعروفة: “نحن الشيوعيّين مثل واحد راكب درّاجة لا يريد أن يتوقف خوفًا من الوقوع ويبقى يتحرك بكل الاتجاهات، ولكن دون هدىً خشية من التوقّف”، أقول ذلك لأن على القائد السياسي أن يراجع نفسه باستمرار وخطط عمله وأساليبه وتكتيكاته كل يوم، بما لها وما عليها، خصوصًا وأن متغيّرات عديدة وسريعة تحصل وظروفًا وأوضاعًا كثيرة تتبدّل، وعليه التفكير والتحرك بطرق واقعيّة ورسم سياساته في ضوء المتغيّرات.
“أيّها السائر ليس ثمّة طريق… السّير يصنع الطريق… كلّ شيء يمضي… كلّ شيء يبقى” حسب الشاعر الإسباني أنطونيو ماتشادو الذي توفّي في فرنسا هاربًا من حصار قوات فرانكو إلى مدريد بعد نشوب الحرب الأهلية الإسبانية؛ ولذلك على قيادات الأحزاب أن تبتدع طُرقها الخاصة بما في ذلك اختلاف مرحلة عن أخرى، فما كان يصلح لزمن الرفيق فهد ربّما لم يعد يصلح في زمن الرفيق سلام عادل، وما هو صالح في العهد الملكي ليس صالحًا في العهد الجمهوري على سبيل المثال، كما أنّ ما هو صالح للعهد الجمهوري الأول لم يعد مناسبًا لعهديّ البعث، سواء بالستراتيجيّة أم بالتكتيكات، وما يصلح في مواجهة أنظمة وطنية بما فيها فرديّة أم ديكتاتورية، ليس هو ما يصلح لمواجهة الاحتلال، فتغيّر الأحكام بتغيّر الأزمان.
في كتاب محمد السعدي ثمّة دهشة مستمرّة لكلّ ما حصل، وهي دهشة كبيرة ما تزال تتوالد أحيانًا، فقد كان يقيس حياته بما يحصل في قرية “الهويدر” وإلى حدٍّ ما في محافظة ديالى “بعقوبة” وحتى بغداد التي تردّد عليها طالبًا أو متسللاً ليعيد بناء التنظيم الجديد لم يعرفها كثيرًا، لكنّ قنديل الطفولة الذي بداخله يريد أن يبقى مضيئًا، وإذا به “لا يضيئ زنزانة خالية، بل يضيء كتابًا” حسب باشلار، فتلك الباقة من الحكايات والمرويّات أراد لها أن ترى النور، في منولوج داخلي بينه وبين نفسه ولمن يرغب في قراءتها؛ أو أنه كان يقيس حياته بملعقة القهوة وفقًا للشاعر ت.س.إليوت، وإذا بالحياة أكثر إدهاشًا وأشدّ تعقيدًا من كلِّ ذلك في مواجهة الجمال للقُبح والخير للشرّ والعدالة للظُلم والحقّ للباطل والعمران للخراب، لكن الخطأ والخطيئة ومحاولات إذلال الإنسان وجدت طريقها إلى تلك الدروب الوعرة والألغام الكثيرة والمرايا المحطّمة والمصائر المُحزنة، وهو ما يكشف عنه في أرشيفه الشخصي.
{ أكاديمي ومفكّر من الجيل الثاني المجدّدين العراقيّين والعرب، ويُعدّ من روّاد حركة المجتمع المدني العربية، وحائز جائزة أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي (القاهرة 2003) بدفاعه عن الحقوق والحريّات، ولا سيّما في المجالين العربي والدولي.
له أكثر من 70 كتابًا ومؤلّفًا بدءًا من حقل اختصاصه الأساسي في القانونين الدولي والدستوري إلى حقول الفكر والسياسة والثقافة والأدب والأديان، كما له مساهمات وانشغالات خاصة بقضايا التجديد والتنوير والحداثة والفكر الاشتراكي والأديان والتسامح واللّاعنف.
ومنذ مطلع الستّينات عمل في صفوف الحزب الشيوعي لكنّه لم يتقيّد بتعاليم المدرسة الماركسية التقليدية ولم يلتزم أُطرها التنظيمية التي تمرّد عليها.
ويُعدّ من المثقّفين الماركسيّين الإشكاليّين الذين سلكوا طريق التجريب متخلّيًا عن اليقينيّات الإيمانية مختارًا طريق العقل والأسئلة والنقد، لا سيّما محاولاته إعادة قراءة الماركسية وتجاربها العمل.