كاظم حبيب
الاستبداد والقسوة والاستغلال وجور القوانين في العراق القديم
5-6
أما القانون الرابع الذي صدر في أعقاب قانون لبت عشتار بحدود قرن واحد أيضا، فقد سمي بقانون أو شريعة حمورابي. ويتسم هذا القانون بخصائص جديدة تختلف كثيرا عن خصائص القوانين التي سبقته في جوانب عديدة. وهي ناتجة عن التغيرات النسبية المهمة التي طرأت على نظام الحكم وعلى الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في فترة حكم هذه السلالة، وخاصة في سنوات حكم حمورابي، إذ تميزت هذه الفترة بالخصائص التالية:
- الدولة الجديدة هي دولة الأكديين، وهم قوم يختلفون عن السومريين في تقاليدهم وعاداتهم وتراثهم والحضاري التي جلبوها معهم إلى بلاد وادي الرافدين، رغم أنهم لم يتنكروا للحضارة السومرية، بل زاوجوا بين حضارتهم وحضارة السومريين، سكان البلاد الأصليين، أو الذين سبقوهم في العيش في هذه المنطقة. والتشريع خير معبر عن هذا التمايز بين الحضارتين رغم التشابك بينهما.
- اتساع رقعة الامبراطورية البابلية الجديدة التي تم تأسيسها في مطلع القرن التاسع عشر قبل الميلاد ومن قبل مؤسسها الأول سومو – آبو، رغم الصراعات والنزاعات الشديدة التي عرفتها تلك الفترة بين دويلات المدن.
- نمو المركزية في هذه الدولة وتعزيز مركز الملك على حساب السلطات الإدارية للملوك التابعين لها في المدن المجاورة بعد أن استولى حمورابي على مدينة لارسا، وقبل ذاك على مدينتي أوروك وإيسن.
- تنامي سلطة الملك واستبداده وهيمنته المطلقة على سلطة المعبد والكهنة والمجتمع، رغم الصراعات التي استمرت قائمة بينهما، إذ اعتبر حمورابي نفسه الوسيط المباشر بين الآلهة والمجتمع، وسعى جاهداً إلى تقليص سلطة وتأثير المعبد والكهنة على المجتمع والدولة وقراراتها ومواردها لصالحه. وقد حقق حمورابي نجاحات ملموسة في هذا الصدد، إلا أنه لم يكن في مقدوره تجاوز الواقع القائم وموازين القوى لإلغاء دور المعبد والكهنة بأي حال، إذ كانت سلطته تستند بالأساس إلى المعبد وكهنته.
- حصول تطور ونمو اقتصادي في بابل ساهم في خلق انتعاش وتنوع وتوسع وتعقد العمليات الاقتصادية والمالية والتجارية ونشوء إشكاليات جديدة في المجتمع البابلي العبودي القديم، وكذلك في علاقة الدولة مع المدن المجاورة والتابعة ومجتمعاتها وآلهتها والكهنة فيها؛
- ساهم التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي شهدته الدولة والمجتمع في بابل في توسيع قاعدة وحجم الملكية الخاصة للأرض الزراعية وبعض وسائل الإنتاج الأخرى وتزايد عدد العبيد العاملين في أرض الإقطاعي واتساع رقعة الأرض التي في حوزة مالكي الأراضي، كالملك والمعبد وغيرهم، وتنامي ثروة الأغنياء، وتعاظم ثروة الملك والمعبد والكهنة بشكل خاص، إضافة إلى نمو ملموس في تقسيم العمل الاجتماعي الذي ارتبط بتطور الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. وفي مقابل ذلك، ورغم التحسن العام في الأوضاع الاقتصادية، استمرت غالبية أفراد المجتمع تعيش في وضع غير ملائم وصعب معاشياً مع تفاقم حالة التمايز بين الأغنياء والفقراء، بين المجموعة التي أثرت، بما فيها الملك والمعابد والكهنة والتجار وأصحاب الأموال، في مقابل فقر متفاقم وزيادة في عدد الفلاحين الفقراء، إضافة إلى تزايد عدد العبيد بسبب الحروب التي خاضها حمورابي والانتصارات التي حققها على المدن المجاورة وكثرة الأسرى الذين سقطوا في أيدي هذه الدولة الجديدة وتحولوا إلى عبيد يعملون لمصلحة الملك والمعبد وكهنته والسادة المالكين.
في ضوء هذه الوقائع التي اقترنت بتهديدات مستمرة للدولة البابلية الموحدة جعلت حمورابي يعمد إلى صياغة أو الإشراف على وضع وصياغة القانون الجديد للدولة البابلية المترامية الأطراف، مستفيدا من القوانين والتراكم التشريعي السابق، ولكنه مضيفا إليه تشريعات جديدة كثيرة، التي افترض هو والفئة الحاكمة، أنها تستجيب لمصالحهما المشتركة وتضمن حمايتهما وحماية ملكيتهما الخاصة، أي أنها كانت تتناغم مع التطور الجاري حينذاك في الملكية الخاصة والتقسيم الاجتماعي للعمل وحاجات المجتمع وتطوره الاقتصادي ووعي الطبقة الحاكمة بمصالحها الاقتصادية الاستغلالية وتوسع الدولة البابلية و. فما هي الخصائص الجديدة لهذا التشريع في ما يخص موضوع سياسة الاستبداد واستخدام العنف وممارسة القسوة والتعذيب إزاء المجتمع في الدولة البابلية؟
إن دراسة قانون حمورابي تضع الباحث أمام مجموعة من الخصائص المميزة التي لم تتوفر في القوانين السابقة والتي تعبر عن أوضاع جديدة قائمة في البلاد التي يمكن الإشارة إليها بشكل مكثف فيما يلي:
إن الفلسفة التي استندت إليها تشريعات حمورابي تبلورت في تكريس الحق الإلهي المطلق الممنوح من الآلهة إلى الملك ليحكم بموجبه المجتمع البابلي، فهو الوسيط بين الآلهة والشعب، أو بين السماء والأرض، فهو مرة ابن السماء، ومرة أخرى ابن الأرض. وبهذا كرس “العلاقة العضوية” بين الأطراف الثلاثة: الآلهة والحاكم والمجتمع. فالحاكم هو الرجل الذي اختارته الآلهة لحكم البلاد والمجتمع، ويمجد نفسه بطريقة تشير إلى شعوره بالعظمة والعملقة بطريقة غير مسبوقة، كما ورد في مقدمة القانون. فالمقدمة تشير مثلاً إلى ما يلي: “5- البذرة العتيدة للملكية … الملك القوي … شمس بابل الذي يجعل الضوءَ يندفع فوق أراضي سومر وأكد، الملك الذي أخضع أنحاء المعمورة الأربعة … أنا محبوب إينانا. حين أرسلني مردوخ لأقود الشعب في طريق الحق. ولأدير البلاد، وضعت أسس القانون والعدالة في لغة الأرض. مستهدفا صالح الشعب. في ذلك الوقت. قررت: القانون”. (أنظر: دلّو، برهان الدين، حضارة مصر والعراق، مصدر سابق، ص 422).
- وعبر هذا التكريس للعلاقة بالآلهة سعى الحاكم إلى فرض قوانينه وأوامره على المجتمع وعزز معها سلطة الحاكم إزاء المعبد والكهنة والمجتمع، فهو الحاكم المطلق الذي تتجسد فيه سلطة الآلهة المطلقة، أي عملياً ما نطلق عليها اليوم بالسلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية. ورغم إنها كانت موجودة قبل ذاك أيضا، ولكنها لم تكن بهذا الوضوح التشريعي. فالملك حمورابي محبوب الآلهة وحاكمها العادل على الأرض وراعي المعبد وحامي المجتمع وهو القادر على تحقيق مصالح الرعية، وعلى الرعية كلها أن تعبر عن حبها له واحترامها لشريعته والتزامها بتنفيذ بنودها وإطاعة أوامره في الحرب والسلم.
- إنه تشريع واسع يشمل مجمل القضايا الاقتصادية والاجتماعية والدينية والسياسية والعلاقات الداخلية للدولة البابلية بالمقارنة مع جميع القوانين التي سبقته والتي وصلت إلينا حتى الآن.
- وفيه تقديس وحماية للملكية الفردية وملكية العائلة في آن واحد، إضافة إلى ملكية المعبد والملك.
- وفيه تمييز في إنزال العقوبات بحق المخالفين للقوانين أو مرتكبي الجنح فيما بين الكهنة والسادة والمواطنين الاعتياديين والعبيد.
- وفيه تمييز واضح ومخل في غير صالح المرأة.
ولكنها تتضمن أيضا مجموعة من العقوبات التي لم ترد في القوانين السابقة، كما أنها لم تمارس مجتمعيا قبل ذاك، إذ لو كانت موجودة لانعكست بطريقة ما في صياغة القوانين السارية حينذاك. وهذه المجموعة الجديدة من العقوبات ترقى إلى مستوى التعذيب الجسدي والنفسي والإهانة المباشرة والموجعة لكرامة الإنسان. فهي إلى جانب أحكام الموت بطرق جديدة غير معهودة في القوانين السابقة، ولم تعرفها مجتمعات ودويلات المدن العراقية السابقة أو حتى الدولة المركزية التي أقيمت في فترة السومريين والأكديين في العراق قبل ذاك، تتضمن ولأول مرة عقوبات التعذيب ضد الإنسان وعقوبات القصاص المماثل للمخالفة التي وقعت من شخص على آخر، سواء أأكان ذلك بالنسبة للمعاملات الاقتصادية والمالية والتجارية أم بالنسبة للمخالفات العائلية والاجتماعية والسياسية المختلفة. فهي تتضمن عقوبة القتل والإجلاس على القازوق حتى الموت، وعقوبة الحرق بإلقاء المعاقب في النار، أو عقوبة القتل وحشره بالصدع الذي أحدثه في المنزل وسدّه عليه، أو قتل المخالف وتعليقه على باب بيته، والرمي في النهر، والدمغ بميسم الإماء أو العبودية، وعقوبة قلع العينين، وقطع اللسان، وقطع ثدي المرأة، وجدع الأنف، وصمل الأذن، وقطع اليد، وكسر العظم، أو السن، والجلد، وقص نصف شعر الرأس وعقوبة الجلد)، وفرض القيام بأعمال السخرة في أملاك الملك، إضافة إلى تطبيق مبدأ القصاص، أي “العين بالعين والسن بالسن“. ومن العقوبات القاسية جداً تلك التي كانت توقعها القوانين بالأولاد المتبنين، في حالة إخلالهم بشروط التبني، فإذا رفض أبوة متبنيه يعلَّم جبينه ويباع في سوق النخاسة. (الهاشمي، رضا جواد، القانون والأحوال الشخصية، في حضارة العراق، الجزء الثاني، مصدر سابق، ص 104). [ملاحظة: أود جلب انتباه القارئة والقارئ إلى ضرورة المقارنة هنا بين القوانين التي أصدرها حمورابي حول أحكام الإعدام بحق المخالفين، وبين القوانين والممارسات التي أصدرها ونفذتها أجهزة النظام الاستبدادي البعثي في العراق بعد ما يقرب من 37 قرناً، وهي ليست متقاربة في المضمون فحسب، بل وفي عدد المواد الخاصة بحكم الموت في شريعة حمورابي أيضاً. ك. حبيب]. ويمكن اعتبار قانون حمورابي الأساس الذي استندت إليه كثرة من القوانين التي صدرت فيما بعد أو التي تضمنتها “الكتب السماوية!”، ومنها بشكل خاص العهد القديم (التوراة) والإنجيل والقرآن، في مختلف المسائل، ومنها عقوبات التعذيب السادية، التي تهدف إلى إهانة كرامة الإنسان وتشويه جسده ووضعه النفسي واسقاط معنوياته كإنسان، وإنزال القصاص المماثل للمخالفة، أو حتى العقوبات الخاصة بقضايا الملكية والعبيد وغيرها.
ويستطيع الإنسان أن يلاحظ بما لا يقبل الشك بأن هذه العقوبات القاسية لم تنزل من السماء بل وضعت من قبل الفئة الحاكمة بقيادة الملك حمورابي لتأمين عدة أهداف جوهرية:
- تكريس فكرة إن الملك هو الممثل الفعلي والوسيط بين الآلهة والإنسان أو المجتمع، وأحكام الملك، وهي أحكام الآلهة، تعتبر مطلقة وقطعية ولا مرد لها وتشترط الخضوع الكامل لها.
- تكريس وتعزيز سلطة الملك وهيمنته التامة على المجتمع وتجنب احتمالات الإخلال بها من خلال الكهنة أو الناس، ومنهم العبيد أيضا، وبالتالي، تكريس الاستبداد الفردي والحكم المطلق، أي تكريس فكرة الملك المستبد المطلق والمسؤول عن كل شيء الذي بيده يمسك زمام السلطة التشريعية والتنفيذية والإدارية والقضائية، ويتحكم بمصائر الناس وفق الشريعة التي قدمت له من إله الشمس والتي شُرّعت وفق إرادة الإله مردوخ إله مدينة بابل.
- سيادة علاقات الإنتاج العبودية في الدولة البابلية في تلك الحقبة الزمنية وتكريس التراتبية الاجتماعية واعتبارها تعبر عن إرادة الإله التي تجلت في التباين في أحكام القانون إزاء المخالفات المتماثلة من أفراد ينتمون إلى فئات اجتماعية مختلفة.
- حماية الملكية الخاصة ومصالح الملك والكهنة والأثرياء في المجتمع من غضب الفلاحين والعمال الفقراء، خاصة وأن التناقضات الاجتماعية والنزاعات كانت في تفاقم بسبب الفجوة في مستوى المعيشة والاستغلال والاضطهاد، واتخذت أبعادا جديدة لا في مركز الدولة فحسب، بل وفي أطرافها والمدن التابعة لها أيضاً.
- ضمان الحصول على جيش جرار في حالات الضرورة للمشاركة في عمليات الغزو والحروب وزيادة ثروة الملك والفئات العسكرية والغنية.
- ويفترض أن نفسر مفهوم العدالة الذي يرد في قوانين تلك الفترة استناداً إلى القوانين الصادرة عن الملك أو الفئة الحاكمة، إذ أن الملك كان يقصد بالعدالة تكريس واقع التمايز القائم في المجتمع وليس ضده، وأن أي خرق لذلك التمايز “وهو تمايز غير عادل”، يعتبر تجاوزاً على القانون ويعاقب عليه المخالف. فمفهوم العدالة هنا طبقي أو فئوي ونسبي بالارتباط مع الواقع القائم أو العلاقات الاجتماعية السائدة في المجتمع والقوانين المحددة لها.
تشير المعلومات المتوفرة عن العراق القديم إلى أن المنافسة بين أفراد عائلة الملك للحصول على المراكز، أو الصراع بين الأمراء لتولي التاج، كانت كثيرة وكانت تتسبب في قلق الملوك وسعيهم لمعرفة من يقف وراء ما يحاك من مؤامرات ضد الملك. ولم تبرز في الشرائع التي سبقت شريعة حمورابي أية إشارة إلى وجود عقوبات لمن يلقى القبض عليه متآمراً ضد الملك. وفي شريعة حمورابي وجدت مادة واحدة هي المادة 109 ضمن المواد التي يطلق عليها بمجموعة مواد ساقية الخمر أو صاحبة الخمَّارة. نصت المادة على ما يلي:
المادة (109) “إذا تجمع محتالون (مجرمون) في بيت بائعة الخمر ولم تلق القبض على هؤلاء المحتالين ولم تقدمهم إلى القصر، فأن بائعة الخمر هذه تعدم”. (أنظر: رشيد، فوزي د.، الشرائع العراقية القديمة، مصدر سابق، ص 107. ملاحظة: جاء في مصدر أخر ترجمة أخرى لشريعة حمورابي استبدلت كلمة “محتالون” بـ “متشردون”، فالنص الآخر المترجم يقول “إذا تجمهر بعض المتشردين في حانة بائعة الخمر ولم تقبض عليهم ولم تأخذهم إلى القصر فإنها تقتل”. راجع دلو، برهان الدين، حضارة مصر والعراق، مصدر سابق، ص 430. ويبدو لي أن النص الأول هو الأكثر دقة).
قرأ الدكتور سامي سعيد الأحمد هذا النص على النحو التالي: “يظهر أن معارضة السلطة كانت خلال هذه الفترة جريمة كبرى فنصت المادة 109 من شريعة حمورابي على إعدام صاحبة حانة الخمر التي لم تخبر باجتماع المتآمرين على الدولة في حانتها ولم تلق القبض عليهم. ونقرأ في نصوص فألٍ من هذا العصر ما يلي (وريث للملك سوف يقتل والده ويجلس على العرش) و(الوزير سوف يجلس على عرش سيده) و(وجيه سوف يقتل الملك) و(الملك سوف يطرد ولكنه سوف يصبح قوياً مرة ثانية في البلاد) الخ التي تدل على قلق الملوك وكثرة ما حدث من حركات خلع وتآمر عليهم”. (أنظر: الأحمد، سامي سعيد د.، الإدارة ونظام الحكم، العراق القديم، في كتاب حضارة العراق في 13 جزء، الجزء الثاني، دار الجيل-بيروت، بغداد، 1985، ص 24). كما تشير النصوص إلى وجود “مجلس بكل مدينة يتكون من رجال البلدة، ولم تكن النشاء ممثلة فيه، حسب ما يظهر، ويقضي بالمسائل القضائية ولخ حق الحكم بالموت.”. (المصدر السابق نفسه).
6-6
الحلقة السادسة: اللوائح الآشورية
إذا انتقلنا إلى قوانين الدولة الآشورية فسنجدها في ألواح بلغ تعدادها أحد عشر لائحة تتضمن الحقوق المختلفة التي عالجتها شريعة حمورابي أيضاً، ولكنها أضافت إليها في مجال الاستبداد والتعذيب صورا جديدة أكثر قسوة لم نجدها في شريعة حمورابي. وهو تعبير آخر عن اتجاهات تطور الملكية والحكم ومشكلات المجتمع التي كانت تدفع بالحكام إلى ضمان مصالحهم وهيمنتهم وفرض المزيد من العقوبات وتنويعها، خاصة تلك التي تمارس تعذيبا جسديا ونفسيا على الناس، فهي تعبر عن ممارسة أساليب العنف السلطوية التي برزت في عهد الدولة البابلية وأجبرت الناس على مواجهتها بأساليب مقاربة لها، ثم تطورت هذه الأساليب فيما بعد في الدولة الآشورية، ومن ثم في فترة حكم الكلديين (626-539 ق.م.) التي يصطلح عليها بـ “العهد البابلي”. (أنظر: رضا جواد الهاشمي، التجارة، الفصل السادس، الجزء الثاني، حضارة العراق في 13 جزءاً، بغداد، 1985، ص 201).
أخذ مشرع اللوائح القانونية الآشورية بكل العقوبات، بما فيها عقوبات التعذيب المغالية، التي وضعها الحكام الأسلاف في الدولة السومرية على قلتها، وفي الدولة الأكدية البابلية، ولكنه أضاف إليها مجموعة أخرى لم تكن معروفة في العراق في الفترة التي سبقت الدولة الأكدية أو العراق البابلي، أي أن بعضها لم يعرفه أو يمارسه الحكام البابليون. نورد هنا أمثلة على ذلك: قطع أحد الأصابع، سحب الشفة السفلى للمخالف بواسطة حد سلاح بلطة وقطعها، الأخصاء، ثقب الأذنين وربطهما بالخيط وعقده عند ظهره، قلع الشعر وتشويه الأذنين بثقبهما، إجلاس المرأة على خازوق حتى الموت وعدم دفنها. وجميع هذه العقوبات تأتي في باب المشكلات الاجتماعية والعائلية، وبضمنها المخالفات الجنسية. أما في الحقل الاقتصادي فكانت العقوبات في الغالب الأعم عقوبات مالية وجلد للمخالف أو فرض العمل بالسخرة عند الملك ولفترات متباينة. ويشمل هذا تلك العقوبات التي ينزلها القانون بالعبيد.
تميزت الدولة الآشورية بسعة المناطق التي تحت سيطرتها وبتقدمها في التقنيات العسكرية والتخطيط للمعارك وتطوير الأسلحة وخوض المزيد من الحروب في سبيل الهيمنة على مناطق وشعوب ودويلات مدن أخرى، وعرفت في الوقت نفسه تطورا ملموسا في أسواقها التجارية وعلاقاتها الداخلية والخارجية وتنامي المشكلات الاجتماعية والاقتصادية وواقع التمايز الاجتماعي، وتنامي عمليات القرصنة على الطرق وبروز مشكلات مع الدول المجاورة، وجدت نفسها أمام حاجة ماسة إلى وضع القوانين التي تحافظ على الدولة ومصالحها ومصالح القوى المهيمنة فيها، وخاصة العائلة المالكة والحاشية والقواد العسكريين والأثرياء. ولكنها بالغت في تلك العقوبات التي أصبحت، كما هو حال الدولة البابلية، تشريعات جائرة وغير عادلة وغير إنسانية، إذ تحمل كثيراً من الشراسة الحكومية التي كان لا بد لها أن تتجلى مرة أخرى في سلوك الأفراد الذين يواجهون مثل هذه العقوبات الحكومية. إن أساليب الاستبداد والعنف والتعذيب التي مارستها دويلات المدن أو الدولة المركزية بعد توحيدها في فترات مختلفة من تاريخ العراق القديم، ارتبطت عضويا بعدة حقائق مهمة، هي:
ظهور وتطور الملكية الخاصة ووجود الأسرى العبيد وما اقترن بذلك من تكون دويلات المدن وحماية تلك الدويلات والملكية الخاصة ومصالح رئاسة العشيرة أو القبيلة الواحدة وإخضاع العبيد واستغلالهم لصالح الملك والمعابد والكهنة وما إلى ذلك. يشير الأستاذ الألماني المتخصص بأثار منطقة الشرق الأوسط بارتيل هرودا إلى “أن العبيد في مجتمعات العراق القديم، وكانوا يشكلون الطبقة الدينا في المجتمع، وكان أغلبهم من أسرى الحروب أو مُهجّرين قسراً أو مطرودين من مناطق سكناهم أو ممن عجزوا عن دفع ديون كانت بذمتهم، لم يلعبوا دوراً كبيراً في هذه المجتمعات، كما لم تتعامل هذه المجتمعات بتجارة العبيد. وكانت الفئات الاجتماعية المختلفة لا تمتلك عبيداً في ما عدا فئة النبلاء والتجار الأغنياء بحدود معينة. وكانوا يعاملون عموماً على أنهم خدم السيد لا أكثر”.
(Hrouda، Barthel Prof. Dr. Mesopotamien-Die antiken Kulturen zwischen Euphrat und Tigris. Verlag C. H. Beck. München. 1997. S. 65).
- ممارسة حكام العراق أساليب ووسائل استبدادية وتعذيب ولجت العراق من مناطق أخرى عبر النازحين الجدد إليها وعبر العلاقات التي كانت تنشأ بينها وبين جيرانها من القبائل والدول، علما بأن أسباب ظهور الاستبداد والعنف والتعذيب عندها لا يختلف في أسبابه ومظاهره عن تلك التي عرفها العراق أيضاً.
- تشكلت أساليب الاستبداد والعنف والتعذيب عبر التطور والتراكم التشريعي في الدولة والمجتمع، خاصة وأن القضايا المحلية لم تكن وحدها العامل المؤثر، بل العوامل الخارجية أيضاً، ولكنها كانت تأتي بالدرجة الثانية، إذ أن الأساس هو العوامل الداخلية والتحولات التي كانت تجري في مضامين العلاقات الإنتاجية والاجتماعية التي أشرنا إليها سابقا وفي العلاقة بين السلطة والمجتمع، وبين الدولة والسلطة والدين والمجتمع، وبين الأغنياء مالكي وسائل الإنتاج والأموال وبين المنتجين من العبيد وغير العبيد والفقراء حينذاك.
- إن أوضاعاً اجتماعية نشأت في هذه الدولة أجبرت المجتمع على ممارسة أشكال مختلفة من النضال للتخلص من تلك الأوضاع، منها مثلا الانتفاض ضدها، أو مساندة محاولات انقلابية ضد الحاكم من جانب معارضيه، أو التصدي لها بأساليب فردية أو التحايل عليها، مما ساهمت بدفع الحكام، ومنهم حمورابي، إلى التفكير بوضع قوانين شديدة وقاسية في عقوباتها من أجل منع وردع أي تجاوز على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج أو التعرض للفئات الحاكمة والغنية في المجتمع أو الانتفاض ضد المستغلين وبشاعة تعاملهم مع العبيد والفئات الفقيرة الأخرى في المجتمع أو التطاول على المعبد وكهنته.
وباختصار كان الملك أو الحاكم يرى نفسه الوجه الثاني للعملة، أما الوجه الأول لها فهو الإله أو الدين، وبالتالي فالخضوع لهما من جانب المجتمع واجب مقدس لا يمكن ولا يجوز مخالفتهما، فهما أساس الملك وقاعدة السلطة الثابتة. وعبَّر عن هذه الرؤية كتاب أردشير خير تعبير حيث جاء فيه قوله: “يجب عليك أن تعلم أن المُلك والدين أخوان توأمان أحدهما يستند إلى الآخر، فالدين أساس المملكة والملك حارس الدين، وبالنتيجة فإن من ليس له حارس مفقود، ليس له أساس مهدوم”. (أنظر: مهدي، فالح، د.، البحث عن جذور الدولة في الإسلام، مصدر سابق، ص 38).
إن متابعة تطور المجتمعات العراقية القديمة عبر القوانين المنظمة للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية تؤكد بأن السلالات المبكرة التي عاشت في العراق، ومنها السلالات السومرية والأكدية لم تعرف صيغ التعامل الاستبدادي والقسوة والجور في العلاقات العائلية أو في إطار العشيرة في فترة المشاعية البدائية أو حتى في مرحلة التحول إلى المجتمع العبودي. وكانت حالات الدفاع عن الأرض أو مواجهة الغزو الخارجي على قبيلة من قبل قبيلة أخرى تواجه بالدفاع والاقتتال المتبادل. وكان الأسرى من النساء والرجال يتحولون إلى عبيد يعملون مع بقية الفلاحين والفلاحيات في الأرض العائدة للقبيلة المنتصرة. إلا أن التحولات التي جرت في تقسيم العمل الاجتماعي وبروز فائض الإنتاج ومن ثم نشوء الملكية الفردية لوسائل الإنتاج ومنها الأرض، والإنتاج، وأسواق محلية، استوجب نشوء قواعد وقوانين جديدة تحكم تلك العلاقات وتنظمها. وفي الفترات الأولى كما رأينا لم تكن القوانين قاسية بل اعتيادية ومحاولة لمعالجة المشكلات بطرق اعتيادية بضمنها الغرامات العينية. كما لم يكن الموقف من المرأة شديد القساوة كما حصل بعد ذلك. ولكن تطور دولة المدينة ونشوء ملكيات كبيرة، بما فيها ملكية الملك والمعبد والقادة وتفاقم استغلال المنتجين قد دفعت باتجاه تشديد القوانين دفاعاً عن تلك الملكيات وحماية مصالح الفئات المالكة التي انعكست بدورها في ظواهر الاستبداد والقسوة في العقوبات والقوانين الناظمة لها. وهي عملية تطور لم يعرفها العراق وحده، بل عرفتها جميع شعوب العالم تقريباً في تطورها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. ومن هنا لا يمكن الادعاء بأن المجتمع العراقي القديم كان متفرداً بممارسة الاستبداد والعنف والقسوة والاستغلال الاجتماعي (الطبقي) في حياته العامة، أو في العلاقة المشوهة غير المتساوية بين الرجل والمرأة، وفي العلاقة ما بين أفراده أو إزاء الآخرين، بل هي مرتبطة بطبيعة علاقات الإنتاج السائدة في المجتمع من حيث الإنتاج وتوزيع الثروة ودور السلطة السياسية في التعامل مع مختلف فئات المجتمع وطبيعة علاقات الإنتاج ومستوى تطور القوى المنتجة والوعي الفردي والمجتمعي، إضافة إلى العادات والتقاليد الموروثة في المجتمع من النظم الاجتماعية والسياسية السابقة.