مقابلة مع د. كاظم حبيب حول أسباب تراجع اليسار في العالم العربي وسبل معالجته.
https://www.youtube.com/watch?v=lmO4Qz0MCl4
حوار قناة مؤسسة الحوار المتمدن على اليوتيوب مع الدكتور كاظم حبيب
كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 6840 – 2021 / 3 / 14 – 18:34
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
أجرى الحوار: زهير الناصري
س 1: ماهي اهم أسباب انحسار اليسار العربي عامة واليسار العراقي خاصة بعد أن كان متوهجاً؟
ج: يبدو لي إن حركة اليسار ليس في الدول العربية وفي العراق فحسب، بل وفي أنحاء كثيرة من العالم، إذ عاشت وماتزال تعيش انحساراً عاماً ومشكلات كثيرة، وأسباب هذا الانحسار كثيرة ومتنوعة من بينها أشير إلى ما يلي:
1) تصورنا ولفترة طويلة أن الأزمة في النظرية الماركسية، في حين كانت الأزمة الفعلية في مدرستنا الشيوعية، في أحزابنا الشيوعية والاشتراكية والعمالية، في قوى اليسار عموما، في مدى فهمنا واستيعابنا للنظرية الماركسية، بمعنى أخر، مدى استيعابنا لأداة التحليل العلمية الماركسية، ومدى وعينا لواقع العالم المتغير والتحولات الجارية فيه، ومدى قدرتنا على الإبداع والمبادرة في دراسة النظرية والتعمق بها وتطويرها بالارتباط مع المنجزات العلمية والتقنية وثورة الإنفوميديا، مع الاكتشافات والاختراعات والعلوم والمعارف الأكثر حداثة من أجل فهم وتحليل الواقع الذي نعيش فيه وفهمه بهدف تغييره.
2) التصاقنا الشديد بالمدرسة الفكرية السوفييتية التي تخلفت كثيرا، منذ أن أصبح الروس في السلطة، حتى في فترة وجود لينين على رأس الحزب والدولة، وتحليلاتها للعالم وروسيا ولواقع المناطق المختلفة منه، وللرأسمالية العالمية ورؤيتها المتعجلة في النهاية القريبة للرأسمالية على الصعيد العالمي، كما حصل في فترة نيكيتا خروتشيف وبليونيد بريجنيف على نحو خاص، والتي كانت، كما نرى اليوم بوضوح أكبر، أنها كانت بعيدة عن عدة مسائل جوهرية: أ) ابتعادها الفعلي عن أدوات التحليل العلمي للنظرية الماركسية وروسنة النظرية واعتبارها عالمية ووقوع أغلب الأحزاب الشيوعية في هذا المطب، وابتعادها عن الواقع الفعلي، إذ تجلت فيها رؤية ذاتية رغباتية، إضافة إلى عجزها عن إيجاد علاقة جدلية سليمة بين العدالة الاجتماعية والحرية والحياة الديمقراطية، وعن العلاقة بين الاقتصاد الاشتراكي وحركة وقوانين السوق؛ ب) عجزنا عن قهم واقع بلداننا كل على انفراد وتحليل العوامل الفاعلة فيها والتغيرات التي يفترض أن نواجهها في مسيرتنا النضالية؛ ت) كسلنا الفكري وعدم مبادرتنا في دراسة معمقة للنظرية الماركسية والمساهمة في تطويرها مع واقع الحياة الجارية، واعتبار أن كل ما كتبه ماركس وإنجلز ولينين واحياناً كثيرة حتى ستالين، هو الذي ينبغي أن ينتهج، أي أصبحنا وكأننا تابعين لدين جديد ولدينا كتب مقدسة لا يجوز المساس بها. وهو الخطأ الأكثر فداحة الذي سقطنا فيه. في حين غالباً ما أشار إنجلز إلى أن النظرية الماركسية ليست عقيدة جامدة بل أداة تحليل ودليل عمل. كما أن في ما كتبه ماركس وإنجلز ما قد شاخ في حين هناك كثير ما هو صالح حتى الآن لاسيما أدوات التحليل الماركسية.
3) لقد تخلفنا وابتعدنا كثيراً عن ممارسة الصراع الفكري ضد الفكر الغيبي والميتافيزيقي، بحيث استطاع الفكر الديني المتخلف الهيمنة على عقول الناس وأفئدتهم دون أن يكون لنا دور في نقد الفكر الديني. والنقد هنا لا يعني الإساءة أو الهجوم على الدين، بل تنوير المجتمع بالدور الذي يلعبه الفكر الديني وشيوخ الدين والعواقب المترتبة عن وعلى ذلك. ولم يكن قول ماركس “الدين أفيون الشعوب” الصائب الذي فضح فيه كيف يمارس شيوخ الدين إخفاء التمايز الطبقي بين الأغنياء والفقراء، بين المالكين لرأس المال والمستغلين، وبين العمال والكادحين المنتجين للثروة، وكيف يوعظ شيوخ الدين في قولهم: إن معاناة الإنسان من الحرمان والفقر في الأرض ستعني السعادة له في الجنة، وما هي العواقب الناجمة عن محاولة تغييب الصراع الطبقي. لقد كان ضرورياً ممارسة نقد الفكر الديني، لكننا روجنا لرؤيتنا كما كانوا يروجون لرؤيتهم دون حوار ونقد لهم، في حين كانوا يسيئون لنا ويكفروننا وينادون بقتلنا في كل لحظة، كما فعل محسن الحكيم في العراق حين أفتى بأن “الشيوعية كفر وإلحاد” الت كانت استجابة لطلب البعثيين لكي يبيحوا قتل الشيوعيين بعد انقلابيهم في عام 1963 وهو الذي حصل فعلاً!
4) والمشكلة الأخرى التي واجهت الحركة اليسارية العالمية، لاسيما الحركة الشيوعية، هي قناعة أحزابها بأنها هي على صواب دائم وبقية القوى اليسارية على خطأ أو منحرفة عن جادة النظرية، وكأن هناك مقاسات معينة للنظرية. ووقعت قوى اليسار الأخرى بذات المطب. وقد أدت هذه الرؤية الضيقة إلى حصول صراعات حادة ومريرة ومستمرة ومؤذية جداً في غالب الأحيان، بدلاً من التعاون التضامن والتحالف فيما بينها. وقد استثمر هذا من جانب القوى المناهضة لليسار عموماً في الهجوم عليها والإساءة لها ومحاربتها.
5) ثم جاء انهيار الاتحاد السوفييتي والمجموعة الاشتراكية التي قصمت ظهر البعير والتي دفعت بكثير من اليساريين إلى الشك في مبادئهم الفكرية والسياسية، إضافة إلى هجوم العالم الرأسمالي المتقدم على الأفكار الشيوعية والاشتراكية، مما عمق من أزمة الأحزاب الشيوعية وعموم اليسار في العالم، ومنه الدول العربية. لنتذكر هنا أطروحات الفيلسوف الأمريكي فرنسيس فوكوياما عام 1989، ثم كتابه الموسوم “نهاية التاريخ: الصادر عام 1992، الذي روج فيه خطأ بأن انهيار الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية الأخرى يعتبر “نهاية الاشتراكية وانتصار الرأسمالية إلى الأبد”، ثم اعترف بهذا الخطأ الفادح لاحقاً. يضاف إلى ذلك تأخر كثرة من الأحزاب الشيوعية ف الاعتراف بأن الانهيار النظم الاشتراكية لم يـأت من الخارج أساساً بل من النخر الداخلي لهذه الدول ولم يكن العامل الخارجي سوى العامل المساعد في تلك الانهيارات السريعة والمتتالية ابتداء من الدولة السوفييتية التي استمرت طوال 73 عاماً.
6) والمشكلة الأخرى المشتركة يمكن ان نجد تعبيرها في خطابنا السياسي الخشبي أحياناً كثيرة الذي يعود لعقود خلت. طبعاً هنا تبرز الاختلافات بين حزب وآخر. واعتقد أن عدداً من أحزاب اليسار في أمريكا اللاتينية هي أكثر تفاعلاً مع المتغيرات الجارية في العالم وفي منطقتها، والتي تجد تعبيرها في خطابها السياسي وعملها وقدرتها على كسب الشبيبة لها.
7) دعني أقول أيضاً بأن الأحزاب الشيوعية وقوى اليسار عموماً في الدول العربية تميزت باستعدادها للمساومة مع فئات البرجوازية الصغيرة، ومنهم العسكر أيضاً، التي وصلت إلى السلطة وتحالفت معها، سواء في السلطة أو حتى خارجها دون توجيه النقد الكافي لها مما أضعفَ دورها وتأثيرها في صفوف الجماهير، إذ لم تعد تلك الجماهير ترى فرقاً في السياسات. ومثل هذه المواقف انطلقت من قناعة خاطئة، كما أرى، بأن مصلحة البلد تتطلب ذلك والواقع وميزان القوى يستوجب ذلك، وهو تحليل وتفسير خاطئ وعواقبه كانت في الغالب الأعم مدمرة. أمثلة كثيرة في العراق وسوريا ومصر ولبنان والجزائر والمغرب على سبيل المثال لا الحصر.
8) ولكن علينا ألّا ننسى أيضاً بأن أحد العوامل الكبيرة المؤذية لقوى اليسار في الدول العربية وعموم الدول النامية يبرز في دور القوى الاستعمارية أولاً، ومن ثم دور النظم السياسية الحاكمة في محاربة قوى اليسار لا بالسياسة والحوار بل بالاعتقال والمطاردة والسجن والتعذيب والقتل، بل وتصفية قيادات وكوادر بأعداد غفيرة ثانياً. مثل على ذلك العراق في عهود عديدة، حيث تم تصفية قيادات عديدة للحزب الشيوعي العراقي ابتداءً من عام 1949 ومروراً بـ 1963 و1971 و1978/1979 وما بعدها.
9) وأخيراً وليس أخراً يبرز في ضعف عمل الأحزاب الشيعية وقوى اليسار عموماً في الوسط النسوي الذي يشكل نصف المجتمع وهن مسؤولات عن تربية الأبناء والبنات في البيت ومع المدرسة والمجتمع، وبالتالي لا بد من تكثيف عملنا السياسي والاجتماعي والثقافي مع المرأة وكسبها للعمل في الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والتنظيمات النسوية المناضلة في سبيل حقوق المرأة. إنه النقص البارز، رغم كونه أفضل من عمل القوى السياسية الأخرى بين النساء.
س 2: في ظل المتغيرات الحالية، عصر العولمة والثورة الرقمية والتغييرات البيئية، الا يحتاج اليسار الى تغيير أليات عمله وفقا لهذه المتغيرات، برأيكم كيف وماهي الآليات العملية التي يمكن ان يكتب لها النجاح في تعبئة الجماهير الشعبية؟
ج: الدول العربية كلها تقريباً ما تزال تعيش في مرحلة متأخرة من التطور الاقتصادي والاجتماعي وطبيعة علاقات الإنتاج السائدة فيها. فرغم التباين القائم فيما بينها وبنسب متفاوتة. فهذه البلدان ما تزال في أغلبها يعاني من بقايا علاقات ما قبل الرأسمالية، كما في اليمن وليبيا والسودان الصومال وموريتانيا بشكل خاص، كما نجدها في مناطق عديدة من دول أخرى، ومنها العراق. كما تسود في أغلبها علاقات إنتاجية رأسمالية طفيلية في قطاعات المال والتجارة والعقار، وفي بعضها الآخر قد تطور رأس المال الصناعي نسبياً ولكنه يعتمد على إنتاج السلع شبه المصنعة، كما في مصر وسوريا ولبنان. نحن أمام تنوع في التخلف عموماً لم يرق إلى تطور علاقات إنتاجية رأسمالية، كما في بعض دول أمريكا اللاتينية. وهذا الواقع أثر ويؤثر على البنية الطبقية الاجتماعية للسكان وعلى وعي السكان في آن واحد. وكثير من اقتصاديات هذه البلدان ريعية، كما في اقتصاد السعودية والعراق ودول الخليج والجزائر وليبيا، التي تعتمد على النفط الخام في تشكيل نسبة عالية من دخلها القومي ونسبة أعلى من حجم صادراتها السنوية. وعلينا أن ندرك العواقب السلبية الناجمة عن الاقتصادات الريعية، بما في ذلك الاستبداد وتغييب الديمقراطية وحقوق الإنسان وزيادة حرمان الفئات الكادحة والفقيرة وتفاقم التمايز الطبقي.
وعلى العموم فأن الطبقة العاملة في أغلب هذه الدول ماتزال قليلة العدد وضعيفة التنظيم النقابي والسياسي، وتعاني أحزابها السياسية اليسارية من الضعف والمحاربة والتشويه.
ومع ذلك يمكن لعدد من هذه الأحزاب القائمة فعلاً أن تلعب دوراً أكبر في حياة البلاد السياسية وتؤثر على مجرى تطورها أن تسنى لها أن تجدد نفسها وخطابها السياسي والأدوات والأليات التي تستخدمها في عملها اليومي وفي علاقاتها مع المجتمع بفئاته المختلفة. وبعض هذه الأحزاب بدأ فعلاً في محاولة ناجحة نسبياً في استخدام التقنيات الحديثة وشبكات التواصل الاجتماعي المتعددة والمتنوعة والمهمة والفيديوهات وتغيير خطابها السياسي وتنشيط العمل الفكري وفي صفوف الشبيبة والنساء، سواء بين الطلاب والطالبات أو الشببة العمالية والفلاحية أو في المدن العشوائية حيث تعيش نسبة عالية من الفئات الفقيرة والكادحة. ولكن هذا النهج الجديد بحاجة إلى مزيد من:
– تشخيص الأهداف الأساسية لكل فئة من الفئات الاجتماعية التي يفترض أن تدرس واقعها ومطالبها الفعلية وحاجاتها أولاً، وسبل التحرك عليها مع استخدام التقنيات الحديثة للوصول إليها، ثم ربط هذه المهمات بالقضايا العامة الأساسية التي تمس المجتمع بأسره أو الوطن كله، بما يحقق التفاعل والتكامل بين الأهداف المهنية والأهداف الوطنية والعدالة الاجتماعية ورفض المساومة على مصالح تلك الفئات والأهداف العامة.
– لا بد من ممارسة تبادل التجارب والخبر بين القوى اليسارية في البلد الواحد وتعاونها وتضامنها في النضال المشترك، والسعي لتوحيد تلك الأهداف، كما لا بد من التعاون والتضامن بين قوى اليسار في الدول النامية، ومنها الدول العربية، إضافة التعاون والتعلم من خبر وتجارب ومعارف الدول المتقدمة وفي آليات وأساليب وأدوات عملها.
– صحيح إن نضال القوى اليسارية يجري في كل بلد من هذه البلدان، ولكن هذا وجه واحد للنضال، والوجه الثاني هو التضامن العالمي بين قوى اليسار على الصعيد العالمي لا على أساس خلق مركز جديد للحركة الشيوعية أو اليسارية العالمية، بل من أجل التفاعل والتبادل الخبر والتجارب والمعارف والتضامن النضالي الأممي.
– لا بد من متابعة العلوم والمعارف الحدثة لتكون جزءاً أساسياً من ثقافتنا وأساليب طرحنا للقضايا التي نناضل من أجلها في تغيير بلداننا والعالم.
– يرى البعض بأن دور الأحزاب السياسية قد انتهى وأن العمل الحديث يجري عبر منظمات المجتمع المدني. هذا الطرح ليس غير صحيح فحسب بل ويلحق أضراراً بالنضال الوطني والاجتماعي. فنحن بحاجة إلى الأحزاب السياسية اليسارية والديمقراطية، كما نحن بحاجة إلى منظمات وتجمعات المجتمع المدني الديمقراطي التي تلعب دورا مهماً في النصال المهني الخاص بالفئات والجماعات المختلفة من جهة، والأهداف الوطنية والديمقراطية العامة من جهة أخرى، ولكن منظمات المجتمع المدني أو التجمعات النضالية لا يمكنها الوصول إلى السلطة ما لم تنظم نفسها في أحزاب سياسية يسارية وديمقراطية قائمة أو تقيم أحزاباً جديدة ذات برامج نضالية واضحة وغير معقدة وديناميكية وليس جامدة تغرق في جزئيات التنظيم وتعقيداته، وأن تتضامن وتتحالف مع بقية الأحزاب اليسارية والقوى الديمقراطية في الوصول إلى السلطة وتغيير واقع بلدانها.
س 3: هل يوافق اليسار بالتخلي عن القوالب الجاهزة والخطاب القديم للوصول للقاعدة الجماهيرية والشباب بشكل أفضل ومن اجل انتشار اوسع؟
تؤكد المعطيات التي لديًّ بأن هناك محاولات تجري في هذا الصدد، ولكنها حسب تقديري الشخصي ما تزال ضعيفة وبطيئة في كل الدول العربية أولاً، وما تزال متمسكة بأساليب العمل اللينينية كالمركزية الديمقراطية وضد النقد العلني لسياسات أحزابها من أعضاء أحزابها وضد النقد الحر والحوار المفتوح، أو اتخاذ عقوبات زجرية بحق الرفاق المختلفين في الرأي لأنهم نشروا رأيهم خارج الأطر الحزبية، أو عدم الاعتراف الفعلي الصريح بضرورة وإمكانية وجود أحزاب يسارية أخرى بجوار بعضها البعض وألّا ستتهم بالانحراف عن الماركسية. علينا أن نعي تماماً بأن أي حزب يساري لا يمتلك حق الرقابة وإصدار الأحكام على من هو ماركسي ومن هو غير ماركسي أو منحرف عنها. وهي مرتبطة بالقراءات المختلفة للماركسية ومستوى فهمها واستيعابها واستيعاب الواقع المعاش في بلدانها. هناك رؤية قديمة ماتزال مترسخة في أذهان كثرة من الشيوعيين القدامى من كبار السن من أمثالي، الذين ليس في مقدورهم التخلي عن تلك الرؤية القديمة الاستعلائية على الآخرين أو التحدث باسم الطبقة العاملة كلها دون أن تقول نحن نسعى إلى التعبير عن مصالح الطبقة العاملة، وهي ليست ممثلة لها. إنها أساليب قديمة لم تعد مؤهلة للأخذ بها في عصرنا الراهن، شئنا ذلك أم أبينا.
هناك قوالب فكرية وأخرى تنظيمية وأساليب عمل قديمة، وهناك خطاب سياسي، هذه كلها يفترض أن تدرس ويعاد تقويمها وتغيير ما لا يمكن ممارسته في الوقت الحاضر مع التغيرات الهائلة الجارية في العالم والمحيط العربي وفي الدول العربية ذاتها، واختيار غيرها يمكنها التحفيز على العمل السياسي والنضال الوطني والطبقي.
منطقة الشرق الأوسط كلها بحاجة إلى مزيد من النشاط الفكري والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبيئي والرياضي والفني والأدبي وتحديث العلاقات والنشاطات الاجتماعية التي تهم وتحرك الشبيبة من البنات والأولاد باستخدام التقنيات الحديثة المحركة للفكر والمغيرة للسلوك والمعبأة لهم. وأن تجد الشبيبة، نساءً ورجالاً، مواقعها المتقدمة في قيادات تلك الأحزاب والقوى اليسارية والثقة بهم وبمبادراتهم وإبداعهم الفكري والسياسي والجماهيري. علينا أن ننطلق من واقعنا المادي القائم، وأن تكون النظرية هادية لنا ودليل عمل وليس مقيدة لفكرنا وسلوكنا وعملنا وأساليب تحقيق مهماتنا.
س 4: الإسلام السياسي مناهض لكافة القوى التقدمية والعلمانية وخاصة اليسارية، كيف ترى تحالف بعض القوى اليسارية مع الإسلام السياسي والقوى اليمينية في المنطقة؟
ج 4: تؤكد تجارب شعوب الدول العربية أن الأحزاب الإسلامية السياسية، السنية منها والشيعية، لا تؤمن بالنظام المدني الديمقراطي، ولا بالدولة الديمقراطية أو المجتمع المدني، بل همها أولاً وأخيراً إقامة الدولة الثيوقراطية وشعاراتها: الحاكمية لله والإسلام هو الحل، وكل ما هو غير ذلك كفر وإلحاد! مثل هذا النظام يتعارض مع روح وحضارة العصر الحديث ومع طبيعة الإنسان وتنوعه وثقافاته واتجاه وقوانين تطور المجتمعات الشرية. ومثل هذه القوى لا تعبر عن كل مسلمات ومسلمي الدول العربية أو الدول ذات الأكثرية المسلمة، بل عن أولئك الذين ارتبطوا بتلك الأحزاب. وبالتالي لا بد لنا هنا من التمييز بين أتباع الدين الإسلامي من النساء والرجال وبين قادة وجمهرة من أتباع الأحزاب الإسلامية السياسية الذين يعملون بتصميم وسبق إصرار على محاربة الأحزاب اليسارية والعلمانية واتهامها بالكفر والإلحاد.
في قناعتي الشخصية وإدراكي لما يجري في الدول العربية فأن التحالف مع هذه القوى يجلب معه أضراراً كثيرة بالقوى اليسارية والمدنية عموماً وبالمجتمع وبالنضال ضد التخلف والرجعية والفكر الظلامي الضال. ولكن لا مانع من العمل مع المسلمات والمسلمين المستقلين ممن لا يتطلع إلى إقامة دولة دينية ثيوقراطية مستبدة، بل إلى دولة مدنية علمانية حيادية إزاء جميع الديانات والمذاهب. فالدولة شخصية معنوية لا دين لها ولا مذهب. إن العمل مع هؤلاء يعزز مواقعها ويمنحها الشرعية غير المبررة ويؤذي عملية النضال السلمي والديمقراطي ضدها لإزاحتها من الحكم. وقد برهن العمل مع التيار الصدري في سائرون مثلاً على خطأ هذا التعاون ومخاطره على وحدة الحركة المدنية والديمقراطية في العراق، وقد أعاق العمل المشترك فترة غير قصيرة. وقد عبّرت عن ذلك بشتى السبل في عدد غير قليل من مقالاتي التي نشرت أولاً في موقع الحوار المتمدن. ولقد برهنت الحياة على عدم مبدئية هذه القوى وتقلبها ولعبها على حبال عديدة، لأنها من حيث المبدأ والواقع مناهضة للديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات وأتباع الديانات والمذاهب الأخرى أولاً، ومعادية لقوى اليسار كلها دون استثناء ثانياً، وبالتالي فأن العمل مع قوى معادية ترتدي لباس المدنية ومعاداة الطائفية والسلام والمودة المزيف تكون له عواقب كارثية على الدولة والمجتمع واليسار بشكل خاص.
طبعاً من المفيد والضروري أن تلعب دوراً في تفتيت هذه القوى الإسلامية السياسية وشق وحدتها وتضامنها لا من خلال التحالف معها، بل ربما حين تلتقي بعض أهداف اليسار الآنية مع اهداف بعص القوى الإسلامية المستقلة التي لا تؤيد قيام دولة دينية في البلاد.
إن من مهمات قوى اليسار هو التحالف فيما بينها ومع بقية القوى المدنية الديمقراطية لمواجهة النظام السياسي الطائفي القائم في العراق مثلاً والقوى والأحزاب السياسي الداعمة لهذا النظام، أو في دول أخرى.
س 5: نشهد ألان تراجعاً كبيراً في دور المرأة في قيادة الأحزاب اليسارية، ما هو سبب ذلك، وكيف يمكن تعزيز مكانة المرأة في قيادة تلك الأحزاب؟
ج 5: كلنا يعرف بأن مجتمعاتنا ما تزال في مرحلة اقتصادية متخلفة جداً بالمقارنة مع الدول الصناعية المتقدمة لا من حيث أسلوب الإنتاج بشقيه قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج فحسبـ، ولا من حيث الدخل ومستوى الحياة والمعيشة فحسب، بل من حيث المعرفة والبحث العلمي والتقني ومن حيث الوعي الفردي والجمعي الاجتماعي. وفي مثل هذه المجتمعات تسيطر الذكورية القديمة على ذهن وسلوك وأفعال الناس. وهذا يبدو واضحاً في موقف الرجل الأب والأبن والأخ من الزوجة والأم والبنت والأخت من جهة، ودور التربية والتعليم في المدرسة والكليات والجامعات والمؤسسات والحوزات الدينية والدولة والقوانين التي توضع ضد المرأة ثانياً، من جهة ثانية، والمجتمع الظالم وغير المتوازن إزاء المرأة والرجل لصالح الرجل وضد المرأة من جهة ثالثة. وفي مثل هذه المجتمعات تكون القوانين السائدة هي من صنع الذكور وبتأثير الديانات التي لا تمنح المرأة مكانة سوية بالرجل، بل تقدمها كإنسان ضعيف وناقص عقل ويحتاج إلى من هو قوام عليها. وهذه الرؤية الدونية هي التي ماتزال سائدة في مجتمعات الدول العربية وشعوب المنطقة عموماً. ومن هذا الواقع تناضل المرأة بصعوبات كبيرة لانتزاع حقوقها.
ومنذ الربع الثاني من القرن العشرين بدأت قوى اليسار في الدول العربية نضالها التنويري في المجتمع ولصالح المرأة، وخاضت قوى يسارية وديمقراطية ومن ثم شيوعية من أجل حقوق الإنسان ومنها حقوق المرأة وحقوق الطفل.
أن التراجع في حقوق المرأة في اغلب الدول العربية قد اقترن بتراجع الحركة الوطنية والديمقراطية منذ ستينيات القرن العشرين وتفاقم شيئاً فشيئاً مع عدة ظواهر هي:
أولاً: وجود نظم سياسية رجعية ومحافظة أو قومية شوفينية متطرفة على رأس السلطة في الدول العربية ومناهضة لحقوق المرأة الأساسية، رغم إن بعضها لم يعترض على تعليمها وتدريسها بل وتوظيفها، ولكن بحدود ضيقة إذ تبقى خاضعة وتابعة اقتصادياً عموماً للرجل.
ثانياً: التراجع الشديد في الحركة الوطنية المعادية للاستعمار والرجعية في منطقة الشرق الأوسط عموماً والمنطقة العربية خصوصاً، والذي اقترن أيضاً بتراجع حركة اليسار وتدهور قدراتها النضالية.
ثالثاً: تصاعد نشاط قوى الإسلام السياسي السنية والشيعية في إيران والسعودية وباكستان ومصر ودول عربية أخرى والدعم الذي تلقته من قبل الدول الإمبريالية من جهة، وانهيار الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية الأخرى في الواقع، بالارتباط مع بروز التنظيمات الإرهابية الإسلامية على الصعيد العالمي بدعم أمريكي-سعودي-باكستاني-خليجي منظم ومتفق ومخطط له، والذي تبلور في تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية وتنظيمات إرهابية إسمية فاشية أخرى في أنحاء أخرى من العالم. وهم معادون جداً لحقوق المرأة المسلمة، وينبغي أن تكون مغطاة بالعباءة من قمة رأسها إلى أخمص قدميها. كما نراه في أفغانستان مثلاً.
رابعاً: تخلف حركة التنوير الديني والاجتماعي في الدول العربية وذات الأكثرية المسلمة وفي الموقف من المرأة عموماً ومن حقوقها المشروعة كإنسان بشكل خاص.
كل هذا عرقل كثيراً نضال المرأة وانتزاعها لحقوقها المشروعة في الدول العربية. ومع ذلك فنحن أمام إصرار تنظيمات نسوية غير قليلة تمارس النضال بعناد وجرأة وتضحية في الدول العربية وتقدم تضحيات غالية حقاً، كما في تونس والعراق والسودان والجزائر على سبيل المثال لا الحصر. وما مشاركة المرأة وتضحياتها الكبيرة في العراق في تشرين الأول 2019 إلّا الدليل على أنها لن تسكت وستبقى تناضل مع المتنورين والعلمانيين واليساريين من الرجال لصالح حرية المرأة التي بدونها ليس للمجتمع حرية فعلية.
هناك مقاومة كبيرة ومتسعة من جانب المرأة في عدة مسائل أساسية منها: انتزاع حقوقها الكاملة غير المنقوصة، وضد العنف الموجه ضد المرأة وضد القتل بذريعة “غسل العار وتنظيف الشرف المدنس!!!”، وحرمانها من النشاط الاقتصادي واستقلاليتها الاقتصادية ومشاركتها في أجهزة الدولة بسلطاتها الثلاث، ومشاركتها الفاعلية والمؤثرة والنشطة في الحركة الوطنية والديمقراطية والتحولات التقدمية المطلوبة في مجتمعاتها.
اعتقد بأن الضرورة النضالية تستوجب تجديد خطاب المرأة وأساليب نضالها واستخدامها للتقنيات والآليات الحديثة الجديدة والاهتمام بالشبيبة من النساء واعتمادهن في هذا النضال والمشاركة في نضال الحركة الوطنية والديمقراطية، إضافة إلى تنشيط تنظيماتها النسوية الخاصة وتوحيدها وتبادل الخبرة والتجربة والمعارف فيما بينها، إضافة إلى ربط المهمات النسوية المباشرة بالمهمات الوطنية والديمقراطية العامة. يلعب التعليم ومحاربة الأمية بين النساء والدورات التدريسية عبر التقنيات الحديثة ومشاركتها في نشاطات اجتماعية وزيارات ميدانية او سفرات للدول الأخرى للاطلاع على التجارب العالمية في هذا الصدد. لا بد من الإكثار من الندوات التلفزيونية والفيديوهات والأفلام التوضيحية القصيرة والنشر والنقاش في شبكات التواصل الاجتماعي وإصدار الكراسات التوضيحية الصغيرة المصورة وغير المملة للنساء العاملات والفلاحات والكادحات وفي المدن والمناطق الفقيرة والمحرومة. كما لا بد من التصدي للفكر المتخلف المناهض لحقوق المرأة ومساواتها الكاملة والتامة بالرجل. والكشف عن أسباب ذلك بجرأة ومسؤولية. برلين في 13/03/2021