فروسية الهنود الحمر
ضرغام الدباغ
في قراءة العديد من القصص والروايات والأفلام السينمائية تكونت لي ملاحظة (تعززت فيما بعد) أن الهنود الحمر كانوا يعشقون الفروسية وتقاليدها، نعم كانوا قساة، ونجد ذلك طبيعياً، لأن كل ما كان يحيط بهم من ظروف غير طبيعية وقاسية، والدخلاء على المجتمع لم يرحموهم، ولكن مع ذلك لم يكونوا ليتكالبوا على خصمهم بل يدعونه للمبارزة بالمصارعة، أو استخدام السكين (الحربة)، أو القوس والسهم، أو مسابقة الجري والقفز من شاهق .. وما إلى ذلك من علامات الشجاعة. ثم يتخذون موقفهم بناء على الشجاعة التي يبدونها … وفلسفتهم (ربما الغريزية بحكم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية) مؤسسة على منظومة مبادئ فحواها أن الشجاع هو حتماً كريم، والكريم مضاد للبخل الذي يورث صفات أخرى منها الخبث، والاحتيال، والكذب ….! والغدر والعدوان غالباً… وأن العادل حتما يكون شريفاً في تعامله، والعكس صحيح أيضاً … كان مجتمعهم قد تأسس بناء على تلك الاعتبارات. فيما كان الوافدون على الضد منها أيضا بحكم موقفهم باعتبارهم فارون يبحثون عن المستقبل ويسترخصون كل القيم في سبيل ذلك، فئة تبحث عن مستقبلها، وفئة تدافع عن مستقبلها، وهذا مثل جوهر التناقض الجوهري وبالتالي الصراع الذي تسيد الموقف.
في بعض القصص والأفلام الأمريكية، نلاحظ أن (بعض ..!) شرفاء البيض كان يرفض حملات الإبادة والاجتثاث والاقتلاع ضد الهنود الحمر، فيبلغ به انحيازه لمفاهيم الشرف، أن يحمل السلاح ويقاتل إلى جانب الهنود الحمر. طبعا لم يكن بين الهنود الحمر (في تلك الحقب) مفكرين وعلماء وفلاسفة يستقرأون الواقع، أما المستقبل فكان رجم في الغيب لا يبلغه حتى الخيال …. أما منتجو الأفلام الأمريكية في هوليود، فيصورون الهنود دائماً كمعتدين، رغم الوضوح والبديهية أن البيض هم من جاؤا إلى أميركا من أوربا وليس العكس ..!
منطق الاستعمار الاستيطاني كان ينص الآتي : هذه الأرض كبيرة تكفي الجميع، ونحن المضطهدون والملاحقون والمطاردون من القارة العجوز (أوربا) التي ضاقت بأحلام الطغاة والديكتاتوريين وعنصريين فجئنا إلى الأرض لنزرع البشر في تربتها ونستوطنها، ونقيم دولة الأحلام والمشروع الأزلي لدولة الحرية والمساواة والعدل وكان من بين من نزح إلى أميركا وأستوطنها، هم الكالفنيون (نسبة إلى جان كالفن Jean Calvin) الأوائل، الذين فروا من أوربا التي رفضت تطرفهم وقسوة أحكامهم والمظالم التي أقاموها في دويلة حكمت لفترة من الوقت (في سويسرا)، وأبحروا إلى الأرض الجديدة (أميركا)، وهم أجداد البيوريتانيون اللاحقون، وهناك صارت فروع لهذا المذهب اليوم، بعضها متطرف ومغال، ويمارس التميز العنصري والطائفي / الديني. وهناك من يصيغ الخرافات ويعصرنها لتكون ممكنة. لكنها تبقى متطرفة، تعتقد أنها الوحيدة على حق والآخرون على خطأ، ولا يحق لهم ممارسة الحياة بطولها وعرضها.
وبهذا الصدد نذكر، بأن هناك أجداث 60 مليون هندي من سكان أميركا الأصليين قتلوا في حملات إبادة منظمة على يد القادمين الجدد من أصل 80 مليون، كما قتل 200 – 100 مليون أفريقي أسود، اختطفوا وتعرضوا لحملات صيد البشر من أوطانهم الأفريقية ونقلوا كعبيد إلى أمريكا، ودفنوا في براري الغرب الأمريكي حيث استصلحوا الأراضي تحت سياط المستوطنين في عبودية جماعية. وهكذا شيدت أميركا هذه الدولة على جماجم الهنود الحمر والأفريقيين.
ولكن الحياة والتطور التاريخي والحتميات التاريخية لها أحكامها، لا يمكن للحق أن يشيد على أساس ظالم، والنصر مؤقت، فستبان يوماً هشاشة الأسس ويتقوض البناء، وهكذا فإن أرض الحرية التي تأسست على مبدأ الاستيطان الحر، استوعبت على مدار بضعة مئات من السنين مهاجرين من كل حدب وصوب، وكان لابد أن يكون لهذه الأرض كيانها السياسي المتميز يستطيع أن يجمع هذا الخليط البشري (اللملوم) وبينهم من المجرمين وقطاع الطرق، وثوريون وإرهابيون، وقادة وعناصر الثورات الأوربية الفاشلة، وربما بعض صغار التجار المجازفين بحثاً عم المال والأرباح، إطار يمكن إيجاده لتعايش هذه الفئات في إطار سياسي، وهو ما تحقق فعلاً في دستور وقوانين تبدو في بعضها غريبة، ولكنها مدروسة بعناية كقانون الانتخابات الرئاسية مثلاً، بوصفه رادع للنزاعات والتنافس. وبرغم كثرة الحديث عن الحرية كان العبيد يجلبون من أفريقيا ويباعون في الأسواق كقوة عمل زهيدة الثمن والتكاليف. وتجري حملات قتل منظمة لإبادة الهنود الحمر.
وبرغم كثرة الحديث عن النظام الديمقراطي ولكن النظام الأمريكي لا يشبه النظام الديمقراطي البريطاني، ولا النظام الديمقراطي الفرنسي. فمالذي يجمع بين هذه النظم الديمقراطية فعلاً، هل هو التداول السلمي للسلطة …؟ فهذا لوحده لا يعتبر الجوهر الأساسي للنظام، فالتبادل السلمي يمكن أن يحدث في مجتمعات كثيرة رأسمالية، شبه رأسمالية، نظم غير رأسمالية، والدول الأوربية مرت بتجارب غير تلك التي مرت بها الولايات المتحدة، ولو أن مرحلة الاستعمار وما تضمنته من مكتسبات اقتصادية كان لها الأثر الأكبر في التكون اللاحق لمعظم الدول الأوربية. فقد أخبرني دبلوماسي صديق، أنه أجرى جرداً وتدقيقاً فوجد أن ثراء معظم العائلات البلجيكية هي من الحقبة الاستعمارية، والأمر كذلك في فرنسا وبريطانيا.