هل النظام الرأسمالي ديمقراطي حقاً..؟
ضرغام الدباغ
هل الغرب الرأسمالي ديمقراطي حقاً … ؟ ألم يحدث في التاريخ كثيراً وما يزال يحدث، أن يبالغ أحدهم بالتهريج ليغطي على حقيقة صارخة كامنة فيه …؟ أو يجيد التمثيل حتى تتحول عنده لحرفة … في تهريج يختلط فيه بعض من الحقيقة بكثير جداً من إتقان دور الدولة ” كأداة للقهر الطبقي “.
هل الديمقراطية هي تبادل سلمي للسلطة أم هي قبل ذلك نظام اقتصادي، الطبقة المسيطرة تقول للمجتمع دعونا ننهب، وهذا بأسم الحرية والديمقراطية، وستصلكم حصصكم، ولا يحتج أحد منكم وإلا سيسجل ذلك على أنه إرهابي ؟
الأنظمة السياسية في أوربا (العالم الرأسمالي) انبثقت من رحم تطور الأنظمة السياسية الأوربية، مثلت التعايش بين : الكنيسة، الأمراء، الملوك، أمراء الاقطاع. حتى عصر النهضة الذي قد قاد في تطوراته اللاحقة، بحكم الاستكشافات الجغرافية، إلى عصر ازدهار التجارة عبر البحار (الميركانتيلية ـ Mercantilism)، ثم إلى الثورة الصناعية، وهنا بدأت سطوة الكنيسة والكهنوت بالتلاشي والاضمحلال ولكن ليس بصفة حاسمة، بل في تراجع مكانتها التراتبي في التحالف الثلاثي الذي يقود الدولة والمجتمع والاقتصاد المؤسسة الدينية، الملوك والقياصرة، ونبلاء وأمراء الإقطاع، وسيتواصل التراجع دون توقف حتى الإنهاء الكامل لنفوذ القوى الأخرى.
وأمام غياب نصوص مسيحية مقدسة من الإنجيل أو أقوال للسيد المسيح عامة عن وجود حدود واضحة بين سلطة الله والدين التي تمثلها الكنيسة ورجال الدين، وسلطة البشر الدنيوية التي يمثلها الملك، وحيث لا ينبغي الجمع بين السلطتين، فتلكم كانت المشكلة التي تثار. فكل من السلطتين تطمحان للمزيد من الصلاحيات وقد أشير بالرموز إلى السلطتين بنظرية السيفين، غلاسنوس ) Glasnia ( سيف الكنيسة وسيف الدولة، ولكن التطور التاريخي كان يشير إلى تقدم سلطة الملوك وإلى تراجع سلطة الكنيسة، وعبثاً كانت تجري محاولات البابوات في استعادة هيمنتهم ونفوذهم الآخذ بالانحسارفقد اندثرت نهائياً فكرة السلطة الكلية للبابوات التي أطلق عليها أولترامونتيه (Ultramontis) (التأييد لسلطة البابا المطلقة) وكانت تسعى إلى إخضاع الكنائس الكاثوليكية حيثما كانت لسلطة البابا في روما، ودافعوا عن حقه في التدخل في الشؤون الدنيوية للدولة.
وكانت نظرية السيفين(غلاسنوس) تنطوي على غموض في توزيع السلطات والاختصاصات، وعلى عدم الاستقرار نتيجة للتنافس بين السلطتين على النفوذ والهيمنة. وكان هناك بالطبع من يروج لفكرة أن يجتمع السيفان في يد واحدة، الملك أو الكنيسة. ولكن من الواضح أن الحركة كانت تدور لصالح الملوك، لذلك كانت الكنيسة وفلاسفتها يرفضون فكرة اجتماع السيفين في يد واحدة، لأنها ستعني سلطة الملك المطلقة وتضاؤل دور الكنيسة قائلين: ” من المستحيل على السيفين أن يجتمعا بيد واحدة، فما منحه الله ليس لأحد سواه أن يأخذه”.
ولكن تطور الفكر الاقتصادي الليبرالي وصار الكتاب المقدس للأنظمة البورجوازية، وفي مقدمة هؤلاء المفكران الإنكليزيان، آدم سمث (1723 ــ 1790) الذي وضع شفرة الأنظمة الديمقراطية بقاعدته الشهيرة ” دعه يعمل دعه يمر ” وهذه قاعدة اقتصادية لا علاقة لها بنظم تبادل السلطة. (سنة 1776) حين أصدر كتابه (بحث في طبيعة وأسباب ثروة الأمم)، حيث ضمنه مبدأ أنصار “المذهب الحر/الطبيعي” الأساسي: دعه يعمل دعه يمر، الحرية التامة لاقتصاد السوق وابتعاد الدولة عن التدخل. والمفكر الآخر هو دافيد ريكاردو (1772ـ 1823).
إلا أن الأمر لم يبق كذلك بشكل خالص، فاندلعت الخلافات على كافة الصعد وفي المقدمة التنافس الاستعماري، ثم التنافس على الثروة والنفوذ، وتشكلت مراكز رأسمالية، والأمر في جوهره لم يعد في إطار التنافس الحر الخال من الأطماع.
تبلور الفكر الليبرالي
كانت أوربا متعبة من الحروب الدينية / الطائفية، والبورجوازية الصاعدة تعد المجتمعات بالكثير من المنجزات والتقدم، ولكن هذا الأمر كان يتطلب دولاً قوية واستبعادا للعناصر التي تمثل العوائق أمام التقدم، ولم تكن تلك العناصر سوى الكنيسة والإقطاع الذي كان بدوره يترنح تحت وطأة التحولات الجديدة، حيث هجر أعداد غفيرة من الفلاحين الريف متجهين صوب المدن للعمل في الورش والمانفكتورات (Manufactour) التي بدأت أعدادها تتزايد ويتحول البعض منها إلى معامل يدوية كبيرة يعمل فيها أعداد غفيرة من العمال، والذين سيصبحون في المراحل المقبلة الرقم الصعب في المعادلة الاجتماعية وشأناً سياسياً مهماً.
وكانت الليبرالية Liberation (قوة التحرر) الكلمة السحرية التي شاعـت في الأعـمال والفعاليات الاقتصادية والاجتماعية على حد السواء، حتى غدا مفهوماً عاماً. ” فالليبرالية بهذا المعنى هي أن يمتلك الإنسان ذاته، وبنفس الوقت القواعد المتعلقة بازدهاره وهيمنة سلطته على العالم بإخضاع الطبيعة والسيطرة عليها “. وعبر آدم سمث (أحد أهم مفكري تلك المرحلة)، أن المصالح الخاصة للأفراد تتناسق فيما بينها، والمصلحة الشخصية هي المحرك لمسيرة الإنسان وبالتالي لمسيرة العالم، وإن كل إنسان طالما أنه لا يخرق قواعد العدالة، سوف يترك حراً بشكل مطلق في أتباعه لمصلحته الخاصة كما يروق له. وقد جسدت هذه النظرية قاعدة ” دعه يعمل دعه يمر”.
هذا النظام الرأسمالي تأسس على بقايا عصور الملوك (تمكنت بعض الملكيات من مسايرة هيمنة البورجوازية الصناعية: بريطانيا (كندا، استراليا، نيوزيلندة)، هولندة، بلجيكا، الدنمرك، السويد، النرويج)، وبإزاحة شبه شاملة لسيطرة ونفوذ الكنيسة، ثم بتقليص كبير لأمراء الاقطاع، ومنهم من تحول إلى الصناعة، والمضاربات العقارية، ولكنهم فقدوا تدريجياً نفوذهم السياسي بالكامل.
انطلقت الليبرالية، كتيار، كمارد أفلت من قمقمه، فلم يحده إطار وصار التحرر شعاراً وحركة وسوف تلد الثورات والانتفاضات، والتحولات الخطيرة على كافة الأصعدة، بل سوف تتغلغل إلى الكنيسة ذاتها وستخلق فيها التيارات، فقد كانت الليبرالية تياراً ثقافياً، أندفع فيه بحماسة أدباء وفنانون في تمجيد الإنسان وقدراته والإبداع الفني، أكدت فيه، أنه لا يمكن للإنسان أن يعمل إذا كان مقيد اليدين، كما لا يمكنه أن يبدع وأن ينجز طالما كان مقيداً بقيود الفكر والإرادة والحركة.
وقد سعى الليبراليون إلى تحطيم فكرة الحق الإلهي للملوك، وسوف لن تقبل بسلطة مطلقة للملك، إلا أن تكون مقيدة بالدساتير، فهذه مسيرة قد انطلقت ولا سبيل لإيقافها، وليست المسألة سوي وقت فحسب. وستكون تلك من مهام المرحلة المقبلة، وكذلك تحرير الإنسان وإنهاء الهيمنة الدينية وتسلطها على الدولة والمجتمع والأفكار. كما كانت لهم أهدافهم السياسية التي تمثلت بالمساواة، حق الملكية الخاصة واحترامها، حرية الرأي والمعتقد والتفكير، حرية النشر، إبعاد الكنيسة عن التدخل بشؤون الدولة، احترام حقوق الإنسان، والإعلان بأن حقوق الإنسان والتحرر هي من الحقوق الطبيعية، طلب العلم والمعرفة، هي من حقوق المواطن الأساسية، حرية التجارة وعدم تدخل الدولة في الفعاليات الاقتصادية(وفي ذلك مذاهب اقتصادية شتى)، حرية الملاحة في البحار، المطالبة بنظام عالمي للقوانين وصولاً إلى القانون الدولي.(2)
في نهاية المطاف تبلور الموقف: النظام البورجوازي(الرأسمالي) لم يكن ليقبل وجود شركاء ولا حتى بنسب بسيطة، الكل أو لا شيئ، وعلى هذا الأساس لم تقبل بالنظم الأخرى، كالنظم الاشتراكية، حتى بعد بدأ النظام الاشتراكي (الأنظمة الشيوعية، قبلت بتعديلات على نظامها منها إلغائها شعار ” ديكتاتورية البروليتاريا” ) ولكن الأنظمة الرأسمالية العالمية كان في غضون ذلك قد استكملت بناء نظام المتروبولات، المراكز والنظم المحيطة، بعد أن كانت قد استكملت بناء كياناتها السياسية بكافة تفاصيله ومفرداته، بما يهدف إلى شيئ رئيسي وسواه تفاصيل تحتمل المناقشة، هو أن يكون النظام رأسمالياً وفق قواعد وقوانين النظام الرأسمالي قولاً وفعلاً.
من ذلك مثلاً أنها لم تكن (الدول الرأسمالية القيادية) لتقبل اعتبار النظام الألماني (العهد النازي) رأسمالياً بصفة تامة (رغم أنه كان رأسماليا في لحمته وسداه)، وكذلك النظام الإيطالي الفاشستي (عهد موسوليني)، أما عندما أبدى هذا النظامان الرغبة والإرادة في التوسع و دخول ميدان القوى العظمى على أسس قومية، وتعديل خارطة توزيع القوى، قادت تحالفات سياسية لإنقاذ خارطة المصالح، فكانت بريطانيا وفرنسا ضامنتان لسيادة بولونيا، منعاً لتوسع ألماني في أوربا سيعدل ميزان القوى في أوربا وفي العالم، فأندلعت الحرب العالمية الثانية مع القوى الفاشية والنازية، رغم أن النظامان (النازي الألماني والفاشي الإيطالي) كانا رأسماليان تقود الاحتكارات الاقتصاد ..
كافة الحروب العالمية والإقليمية هي حروب توسع قامت بها الأنظمة البورجوازية، أو بدفع منها، أو كأثر من آثار سياستها الاستعمارية. الاشتراكية لا تلجأ للحروب لأنه يخالف طبيعتها، كما يخالف منهجها في البناء والاعمار. وحتى التدخل العسكري السوفيتي في أفغانستان كان بقوة محدودة ولدعم الحكومة الوطنية بوجه التدخلات التي قامت بها الدول الغربية بحجة دعم المسلمين، ولكن التاريخ أثبت زيف هذا الزعم، وها هي الولايات المتحدة وحليفاتها يسحقون أفغانستان بلا هوادة.
النظام الرأسمالي بعد قرون كثيرة، أدرك أن الزمن والممارسة تكشفان عن ثغرات، ولذلك يصلح نفسه والثغرات التي تنشأ بمرور الوقت (ويفعل ذلك بصورة متواصلة)، حتى أصبح له نظام حديدي مدعم بقوة القانون. ونظام متقن البناء في الداخل، وفي الخارج السياسة المحيطية العالمية يمنحون بها الحق لأنفسهم بالتدخل في أرجاء العالم كافة وجعل ذلك كبديهية تحت شعار (المصالح).
واهم من يعتقد أن الدول الغربية تسمح بالنشاط الفكري والحريات (الديمقراطية) على هواك، بل هناك نظام صارم جداً للاحتجاج، وسبله وأشكاله، وللتظاهر، وإصدار البيانات، وتوزيعها، وتأسيس الأحزاب والجمعيات، وكل هذه الأنشطة الاجتماعية وغيرها تدور وفق نظام دقيق، بما يجعل للاحتجاج والموقف السياسي صرخة خافتة لا تصل الباب الرئيسي للبيت …! ويواجه المخالف بإجراءات قانونية قاسية.
ــ هناك حرية واحدة مقدسة في الدول الرأسمالية، هي مطلقة وليست نسبية، وهي العمل الاقتصادي والربح بلا حدود، ولكن مع الخضوع لقواعد العمل : القوي مالياً بوسعه أن يأكل الأضعف مالياً في إطار منافسة يحرسها القانون، لذلك تفلس سنوياً ألاف الشركات وتستسلم لمن أكبر وأقوى منها.
ــ تأسيس الأحزاب له أصوله وقواعده، وكذلك خوض الانتخابات، بكافة مراحلها. وظاهرياً يحق لكل فرد أن يرشح لرئاسة الجمهورية مثلاً، ولكن عملياً يخضع ذلك لقواعد وآليات تجعل من المستحيل أن تتحقق هذه المجازفة، والدليل أنها لم تحدث في التاريخ ..! وبنفس الاستحالة تقريباً الترشح للمقاعد البرلمانية، وأقل منها في الهيئات المحلية (التدرج في الصعوبة وارد).
ــ العاملون لهم حقوقهم التي تجعلهم بصحة جيدة للأستفادة من قوة عملهم لأقصى زمن، يعيش طالما ماكنة العمل بحاجة له، بعدها (المرض ــ البطالة ــ التقاعد) تبدأ بعدها حقوقه بالتضاؤل حتى تصبح أنها تدعه يبقى على قيد الحياة فقط. الثروة وحيازتها لا يحددها قانون مثلاً لا حدود للثروة كأموال منقولة وغير منقولة، ولا حدود للراتب، ولكن الفقر له قوانين معقدة، يبقيه في العمل وفي الحالات الأخرى (البطالة ــ المرض ــ التقاعد) ما يبقيه على قيد الحياة فحسب ..!
ــ في أوربا الغربية هناك تأمين صحي للأثرياء، وأماكن شراء وتسوق خاصة بهم، وأحياء لا يقطنها غيرهم (بسبب ارتفاع أسعار العقار والإيجارات)، ولهم طائراتهم الخاصة، وأماكن إجازاتهم، وفنادق فخمة، ولا يقضون سهراتهم مع عامة الناس، بكلمة أخرى أن المجتمع الرأسمالي هو طبقي حتى أبسط الملامح الاجتماعية.
ــ مرتبة المدراء في الشركات الكبرى، رواتبهم خيالية تبلغ حتى 600,000 يورو شهرياً (أقل بقليل من مليون دولار !) .. مع إضافات ومكافئات ومزايا أخرى … ولا يسمح لجهة بمناقشة هذه المعطيات بما في ذلك تحت قبة البرلمان …! الذي يحق له (نظرياً) أن يناقش كل شيئ ..!
ــ ليست هناك قيم عدا القيم المادية الصرفة والقانون. ولكل إنسان قيمة مادية فقط، هو بقدر ما يقدم من عمل، العواطف والقيم المعنوية لا مكان واقعي لها، قد يجري التنويه بها (مجرد تنويه) لكن بدون أثر مادي.
ــ لا يصل أحد إلى درجة الوزير أو نائب في البرلمان، دون أن يكون قد تدرج في الوسط السياسي بدرجة يكون بعدها قد أصبح “مضموناً “، لذلك تجد الدولة متماسكة (إلى حد كبير) لذلك يندر أن يخرج موظف بدرجة متقدمة عن طوع القرار السياسي حتى لو أنطوى على خطأ فادح.
القوانين هي الجهة الوحيدة المحترمة، وفي الواقع يستمد النظام الرأسمالي قوته وثباته من رسوخ القانون وسيادته، ولكن واحدة من الأشياء المحيرة، هي كيف تتطور القوانين، وتتشدد أحياناً، وتنفرج حيناً، من وراء هذه … نظرياً بأن المحاكم الدستورية هي وراء ذلك، ولكن من يقرر أن هذا الفعل لم يعد يستحق المحاسبة والعقاب، أو فعل آخر يستحق التشديد .. مثلا هناك ميل لتخفيف مساءلة قضايا زنا المحارم، وهناك تشريع لقضايا المثليين، لدرجة إقامة الزوجية. ولكن تشديد العقاب بالسجن لمن ينكر الهولوكوست …، ولكن حرق القرآن والتشبيه والسخرية بقصد إلحاق الإهانة تعتبر وجهات نظر تستحق الاحترام ..! ولكن معاقبة الفتيات اللاتي يرفض دروس السباحة وارتداء المايوه، ومعاقبة الأطفال الذين يرفضون تناول لحم الخنزير .. وقد تذهب الأمور لما هو أبعد من ذلك …!
ولكن لابد من الاقرار، أن المجتمعات الرأسمالية (الديمقراطية) وبسبب الاستقرار لقرون كثيرة قد اكتسبت الإدارة شيئ من المصداقية، وأن بعض المجتمعات منها كتلك الموجودة في بعض الدول الأوربية التي تأثرت بالفلسفات الاجتماعية، تقدم رعاية للمسنين، والعاطلين عن العمل، والذين دمرت وسائل وسبل العيش، فتقدم دعماً في السكن والحاجات الرئيسية.