رحلة ذنوب…
الروائي/ عبد الجبار الحمدي
كانت رحلتي وأظنها الأخيرة حيث المكان الذي تسكن الروح فيه منه الى الخلود… محطة واسعة، الرؤوس التي تصطف في انتظام لا عد لها ولاحصر… كانت العرابات مرقمة كل واحد يركب العربة الموسومة برقم على جبهته، قطار طويل كثعبان مارد لا أول له ولا آخر، الجابي صارخا… هيا احملوا حقائبكم التعريفية فكل له بطاقة دخول واحدة هيا سارعوا.. كنا كمن ينسل من الاجداث نهرع الى حيث لاندري!؟ لكن بلا شك أننا في عالم بين الحقيقه والوهم.. صعدت الى عربتي مزهوا في مشيتي التي ما ان مددت رأسي فيها حتى تلقيت ضربة عليه أطارت العصافير التي كانت تعشعش بداخله وصارت تدور.. وتدور وهي تزقزق غير الزقزقة التي أعهد، دون أمر منى كنت جالسا في مقدمة العربة اتطلع من نافذة الى عالم كأني أراه لأول مرة، انطلق في ثانية القطار كانت الوجوه مغيبة والاماكن تتلاشى صورها، أعمدة، الجسور، المحطات، البشر، كل شيء أو هكذا تخيلته، تتخطف الصور متلاحقة اختفت ملامح كل شيء فيها… أمسكت برأسي الذي بدا غير مستقر بعد تلقيه الضربة.. اما العصافير فقد ابتعدت صارت ترفرف بأجنحتها دون صوت.. خرج علينا صارخا من بيده دفتر كبير ضخم اسود، اللحظة أكملت لكم ما كنتم تتراكضون من أجله… شعرت وهو يقولها بأن شيء ما اطبق على أنفاسي، سارعت يدي الى النافذة لأفتحها غير أن النافذة قد اختفت عمت العتمة كل المكان التحسس هو الشيء الوسيلة لمعرفة الأشياء… لكن اية اشياء!!؟ فأنا لم أرى شيئا بعد؟ شممت رائحة نتنة تمر من جانبي والاخريات يتبعنها كانت الروائح لا تطاق سارعت الى التقيؤ وانا اصيح هيه انت أيها الجابي ماهذه الرائحة؟ لقد قلبت رأسي ومعدتي، ارجوك إلا تستطيع مساعدتي… شعرت رغم ابتعاده عني قريب من أذني يهمس لي لا عليك ستتعود عليها ولا تقلق إنها رائحة الذنوب ألا تميزها؟ يا للعجب!!
- لكن ما بال الظلمة لقد بات المكان دامس العتمة وهذا يقلقني؟
- نحن الآن في نفق يؤدي الى محطات سيقف القطار فيها لنزول البعض وركوب آخرين دون ان تحس بذلك… أننا كما تقولون في مترو الأنفاق ههههههههههه إلا انه نفق من عالم آخر
- ماذا تعني بعالم آخر؟ فأنا خرجت قبل ليلتين من بيت أهلي قاصدا المقر واظنني وصلت، كانت لي رغبة ملحة أن أقضي بعض الوقت مع اصحابي بآلامي، كنا على نهر دجلة نشرب ونأكل ونقص حكايا مزدانة بالضحكات وفتيات يرقصن على الواحدة والنص، كانت سهرة جميلة كل شيء يتراقص حولنا ومعنا، حتى كابوس الحرب معنا وقد أذل كبرياء الحياة وجعلها تخرج مع مومساتها لتبيع المتعة لرجال مثلنا، ركبنا السلاح والحرب ملاعب فتنة، لا هم لنا فالموت نلبسه عتاد على خواصرنا او على اكتافن،ا ألفناه صاحبا يهرع معنا في كل متراس او حفرة او خندق، نلوذ به من شظايا قنابل و وابل رصاص.. لم يكن للوقت قيمة إلا في تلك اللحظات التي انغمسنا في الظلمة بعد ان دوت صافرة الإنذار وعمت بعباءتها تغطي سماء الوطن، سارع البعض للإختباء انغمسوا في التسبيح والتودد الى الله بأدعية وقراءة سور المعوذتين والحصن الحصين.. وقبل قليل كان الجميع يترع العرق الابيض حليب الاسود ليزأر برجولته على صدور ونهود تتقافز حتى تبتلع أحدنا كرمان بعد ان يُفَرِط حباته الى أن يصل الى حبة الجنة، هكذا كنت اسمع جدتي تقول: عندما تأكل الرمان لا تشارك احدا فيها فبداخلها حبة من الجنة لعلها تكون من نصيبك… أضحك طويلا اين انا من الجنة!؟ بل أين نحن من الجنة؟ وقد غضب الله علينا وأوسمنا برعاة غنم يسوقونا سوقها الى مقابر جماعية… سارعت وجليل بالقول: هيا تعالوا إن القصف في مكان آخر.. هيا لنكمل سهرتنا .. لكن يبدو ان لا نصيب لنا فيها، فقد كان القصف على نفس المنصة التي كنا عليها، شعرت برأسي يطير بعيدا وأكنت ارى بوضوح كل الذكريات وصور أهلي وسنيني التي قضيت تتناثر مثل أشلائي كنت ابتسم وتقول لي نفسي ما لك تضحك؟ أجبتها ابتسم لأني لا أعلم من سيجمع اشلائي وكل تلك الذكريات؟ من يضمن انها لا تختلط مع اشلاء من كانوا معي سيكون لاشك مسالة عويصة؟
- سمعته يقول: لا عليك لقد لممنا صورك وذكرياتك وكل ايامك مساؤها صباحها كل ما فيها من ذنوب وسيئات وحسنات و وضعناها لك في حقيبة اليد تلك التي الى جانبك…
- حسنا فعلتم لقد كنت حزينا ان لا اجد شيئا اتذكره او احكيه الى اهلي حين عودتي..
- لا تفكر كثيرا ستجد كل شيء مدون في هذا الدفتر…
كنت اسمعه لكن لا أرى ما قال لي عنه لا الحقيبة ولا الدفتر لكني تذكرت اني رأيت بيده دفتر ضخم اسود اللون فهززت رأسي مجيبا بنعم ولا ادري هل رآني ام لا؟
نسيت وقد ابتعد عني أن اسأله عن الرائحة النتنة التي اشمها وقد ازكمتني ودفعت بي الى التقيؤ.. ناديت أنت أيها الجابي هل لا زلت بالقرب مني؟ لكن الصمت اقرب، بدأت أضجر من العتمة رغم اني تعودت عليها وصحبي كم لذنا بها بعيدا عن عيون عدو يتسربلها لينال من احدنا السوا لون السيادة لكنه في وقت الحرب لون الموت والحزن… الحزن ذلك الوطن الذي فصل تفصيلا علينا وألبسناه القدر مصائب و ويلات، عصبت رؤوس امهاتنا بالسواد، لبسنا السواد بكاءا على الرزية التي لايد لنا فيها سوى أننا من شعيتها… إحتدت ثيران نفوسها وما تؤمن قرون ملوثة بدما من يبقرون بطونهم بحجج إصلاح وطائفية نالت من الدين دراهم معدودات وبقرت بطون الفتنة لتلد لهم شياطين وكأن الأرض لم يكن فيها من قبل ابناء للشياطين..
دوت صافرة القطار بعد ان لاح بعض من ضياء دخان الصافرة يخرج ملتويا متقطع كأنه قد أصيب بالكحة وتحشرج بلعومه… الصور التي ينثرها مع دخانه مبعثرة مثل كلمات متقاطعة… إلتفت حولي كانت العربية فارغة إلا من سواي الرائحة المنتنة لا زالت… وإن قلت لنفسي لقد خفت لم تعد بنفس الشدة.. تذكر ما قاله لي الجابي عن الحقيبة.. مددت يدي فتحتها فوجدت الكثير من الصور منذ ان وعيت حتى لحظة التطاير.. سارعت لا إراديا بتجميعها… يا إلهي إنها حياتي بكل حذافيرها.. سنيني أيامي لحظاتي، جنوني، نفاقي، غضبي، حزني، كل شيء.. كل صغيرة وكبيرة هههههههه كل شاردة و واردة.. أدركت لحظتها بأني في رحلتي الأخيرة حيث اللاعودة، سمعت صوتا يقول لي:
- أحملها معك فهي كل ما يمكنك حمله معك حيث مكانك الأخير.. هيا سارع
- لم اعد اسمع دوي العصافير فوق رأسي، لم يكن هناك صور في مخيلتي غير صور النعش الذي ركبت.. لم ألبس السواد بعد تلك اللحظة، اللون الابيض هو ما تلحفت به لأدخل عالم النهاية، لا زلت اتذكر اللحظة الأخيرة لذة طعم حبة الرمان التي كنت آكلها وأضحك لقد كانت المزة مع زجاجة العرق الذي كنت أترعها.
القاص والكاتب
عبد الجبارالحمدي