من هم الحشوية، وكيف أنقذهم ابن تيمية من الانقراض؟
علاء اللامي*
يربط بعض الباحثين التراثيين القدماء والمعاصرين بين المدرسة السلفية الدينية في الفقه والمجتمع والسياسة كما تكرست في عهد الفقيه الحنبلي ابن تيمية الحرّاني وطائفة قديمة تدعى الحشوية؛ فمنهم هؤلاء الحشوية وكيف تأسست فرقتهم؟
الحشوية، في أحد تعريفاتها، هي فرقة أو مدرسة إسلامية في الحديث؛ تُسمى أيضا؛ المُشَبِّهَة، أو المُجسِّمة؛ ويعرفهم ابن حزم الأندلسي مستندا إلى من يسميه أبا محمد، بقوله: “هم طائفة تذهب إلى القول بأن الله تعالى جسم؛ وحجتهم في ذلك أنه لا يقوم في المعقول إلا جسم أو عرض، فلما بَطُلَ أن يكون تعالى عرضاً، ثبت أنه جسم. وقالوا إن الفعل لا يصح إلا من جسم، والباري تعالى فاعل، فوجب أنه جسم، واحتجوا بآيات من القرآن فيها ذكر اليد واليدين والأيدي والعين والوجه والجنب وبقوله تعالى ﴿وجاء ربك﴾ و ﴿يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة﴾”. ويرجع أصل تسمية ” الحشوية” إلى “جمعهم حشو الحديث من غير تمييز بين صحيحهِ وضعيفهِ؛ ويقال لأنهم أتوا مجلس الحسن البصري وتكلموا في السَّقط – وهو الذي لم تتم له ستة شهور في بطن أمه – فأمر بردّهم إلى حشا الحلقة، أي طرفها، فسُمّوا بالحشوية”1.
وتطلق بعض المذاهب، كالأشاعرة والماتريدية”2″، مصطلحَ المُجَسِّمة على الأثرية -أهل الأثر والحديث – والسلفية، لأنهم حسب قولهم “يُثبِتون أن الله يحده العرش وأنه موجود في جهة”، وأن هذا بحسب قولهم يستلزم التجسيم؛ تُطلق الأثريةُ أو السلفيةُ صفة المشبهة والمجسمة على من شبَّهَ الله بخلقه، ولكنهم يُثبتون من الأسماء والصفات ما جاء في القرآن الكريم والأحاديث النبوية من غير تأويل ولا تعطيل ولا تكييف “البَلْكَفَة” ولا تمثيل. وتطلق المعتزلةُ مصطلحَ المجسّمة على من يُثبت الصفات الخبرية أو المعنوية لله. ويحسب فخر الدين الرازي اليهودَ بجميع طوائفهم، وبعضَ فرق الشيعة القديمة عدا الشيعة الزيدية بأنها من المجسمة”3″. ولم يسلم أقطاب المتصوفة الكبار وفي مقدمتهم الشهيد الحلاج وابن عربي وابن سبعين وابن الفارض من القول إنهم من المشبهة بدعوتهم إلى مبدأ وحدة الوجود “4”. والثابت أن خصوم السلفيين يرمونهم بهذا الاسم، فعند أبي حامد الغزالي هم من أثبتوا الجهة فيقول: “أما الحشوية فإنهم لم يتمكنوا من فهم موجود إلا في جهة، فأثبتوا الجهة”5.
ومن الواضح أن التيارات السلفية القديمة المعتدلة كالأشاعرة والماتريدية تتفق مع العقلانيين كالمعتزلة اتفاقا غير مباشر، رغم ما بينهم من خلافات عميقة على مناهضة الحشوية. يقول أنصار مذهب أهل الحديث والأثر والسلفية القديمة، المُتَّهَمون بأنهم من الحشوية والمشبهة، إن هذا المصطلح تبشيعي بحقهم وهدفه تنفير الناس عن اتباعهم، فيكتب أحدهم من المعاصرين هو العراقي محمود شكري الآلوسي مؤسس “حركة التصحيح البغدادية” القائمة على تنقية التصوف، وهو من دعاة التجديد السلفي الديني (ت 1924)، يكتب: “وخصوم السلفيين يرمونهم بهذا الاسم، تنفيراً للناس عن اتباعهم والأخذ بأقوالهم، حيث يقولون في المتشابه: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ. وقد أخطأوا في ذلك، فالسلف لا يقولون بورود ما لا معنى له لا في الكتاب ولا في السنة، بل يقولون في الاستواء مثلاً: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر. إلى أن قال: والمقصود أن أهل الباطل من المبتدعة رموا أهل السنة والحديث بمثل هذا اللقب الخبيث”6.
أما من تولى الدفاع بجدارة وكفاءة عن الحشوية قديما فهو ابن تيمية؛ وفي هذا السياق، أثار الباحث الأردني حسام عبد الكريم، موضوع العلاقة بين الحشوية وابن تيمية قبل فترة في مقالة صحافية له، واعتبر أن هذا الأخير هو الذي أنقذ الحشوية من الانقراض وأعادها الى الحياة، وسنقارب ما طرحه عبد الكريم “7”في السطور التالية:
لقد كان لابن تيمية دور كبير وفعال في توسع وانتشار السلفية الإسلامية قديما وحديثا؛ ويذهب عبد الكريم إلى اعتبار ابن تيمية هو مطور وناشر مذهب “الحشوية” الأقدم منه؛ و“الحشويّة” كما استقرأنا محتوها وسماتها قبل قليل تسمية واسعة؛ كانت تطلق على بعض المتفقهين المسلمين في القرون الأولى من العصر الإسلامي، ممن كانوا يفهمون هذا الدين السماوي الجديد عليهم فهما بسيطا ومحدودا، ومتأثرا إلى هذه الدرجة او تلك بالأجواء الدينية “غير التوحيدية” التي كانت سائدة لقرون عديدة قبل الإسلام والقائمة على التجسيم والتشبيه الوثني.
لكن الباحث عبد الكريم يحصر التعريف حصرا شديدا من حيث المحتوى العقيدي، وأوسع – عمليا – مما هو في الواقع، فيقول عن الحشوية بإطلاق الصفة على مكونات هذا التعريف من حيث الفرق والجماعات المختلفة المحسوبة عليه، إنهم “يتمسّكون بظاهر النص الديني ويرفضون العقل والتفكير في شؤون الدين تماماً، أي القشور والظاهر دون الجوهر والغايات… وقد أودى بهم تزمّتهم وانغلاقهم العقلي إلى وضعية صاروا فيها محلّ سخرية وهزء من أغلب مذاهب الإسلام”. ويبدو أن هذا التعريف الحاصر عقيديا والمطلق من حيث الموضوع يحتاج إلى الكثير من التدقيق والمعالجة قبل الموافقة المنهجية على محتواه، إذْ لا يمكن -إذا أخذنا بكلام عبد الكريم بحرفيته – اعتبار الفرق الباطنية المشهورة والمحسوبة على الحشوية جزءا من الظاهرية التي تقوم عليها الحشوية مثلا، فهما متضادان متعاكسان!
يكتب الباحث حسام عبد الكريم واصفا حال الحشوية: “بقي حال الحشوية كذلك، فئةً صغيرةً وغير مؤثرة في عالم الإسلام، إلى أن جاء ابن تيمية في القرن السابع الهجري الثالث عشر الميلادي لينقذهم ويخرجهم مما هم فيه من تقوقع”، يعتقد الباحث أن ابن تيمية كان عبقرياً، وصاحب قدرات عقلية عظيمة؛ ولكنه “سخّر مواهبه الفذّة تلك وعقله الجبّار في محاربة العقل ذاته، وقد تولى مهمة عُظمى وشاقة نفّذها بنجاح كبير: تقديم دفاع شرعي ومنهجي قوي جداً ومتماسك عن كل مقولات مذهب الحشو والحشويّة. لقد قام ابن تيمية بالرد على كل خصوم الحشوية من مذاهب الإسلام كلها، ونجح في تهذيب وتشذيب مقولات الحشوية بحيث صارت أكثر قبولاً وأقل تنفيراً ونشوزاً، من دون المساس بجوهرها”8.
صحيح أن ابن تيمية (ت 1823)، قارب وطوَّر تجسيم الله عبر نظرية البلكفة “تجسيم الله بلا كيف تأويلي” ولكنه فعل ذلك بكثير من الغموض. ونضيف لما طرحه الباحث الآتي: فمن الثابت أن ابن تيمية هو القائل بمبدأ رفض الفتنة، التي يقصد بها -غالبا – الثورات والانتفاضات، ووجوب طاعة الحاكم الظالم، وهو المبدأ الذي سوف تستغله السلفيات المعاصرة للدفاع عن عروش طغاة قساة وأنظمة حكم ظالمة وتابعة للغرب الإمبريالي في عصرنا.
ويختم الباحث حسام عبد الكريم رأيه في العلاقة التأسيسية بين الحشوية والسلفية في نسختها “التيمية” بالقول: “وبناءً على ذلك، صار للحشوية «مذهب» متكامل الأركان، وصار عندهم حجج وقدرة على المناظرة والرد على الخصوم، بعدما كانوا لا شيء. وحشويّة زماننا من سلفيّة ووهابيّة كلهم عالة على ابن تيمية، ومذهبهم يرجع إليه، بالفاصلة والحرف”9.
في مقابل هذا الرأي الذي يراه حسام عبد الكريم ويدافع عنه فإن عددا من السلفيين المعاصرين نفوا صفة “الحشوية والتجسيم” عن ابن تيمية وقالوا إنه لم يقل بها صراحة، ولكن “العبارة المنقولة في السؤال – والمنسوبة إلى ابن تيمية – ليس المراد بها إثبات الجسمية لله تعالى، أو نفي الذم عن المجسمة”10. ولكن هذا النفي ضعيف ومتناقض، أذ أن من الثابت أن ابن تيمية يذهب مذهب أهل الحديث في أسماء الله وصفاته، حيث يُثبت لله ما جاء في القرآن والسنة النبوية من أسماء وصفات “من غير تعطيل ولا تحريف ولا تبديل ولا تأويل ولا تشبيه ولا تمثيل”، وله في ذلك أقوال كثيرة منها: «فما وصف الله من نفسه وسماه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم سميناه كما سماه، ولم نتكلف منه صفة ما سواه – لا هذا ولا هذا – لا نجحد ما وصف، ولا نتكلف معرفة ما لم يصف”11، ويقول: «وقد عُلم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل”12.
وبالعودة إلى كلام الباحث حسام عبد الكريم نقول: إن التشابه الجوهري والعقيدي بين الحشوية والسلفية المعاصرة ذات الجذور التيمية قوية وواضحة دون شك، غير أن السياق التاريخي والاجتماعي لظهور الظاهرة السلفية نفسها يوجب علينا أن نكون أكثر حذرا ودقة في قراءة التفاصيل ونميز بين ما هو ثابت وجوهري وآخر طارئ ومتغير. فالأسباب والظروف التاريخية التي ساعدت على ظهور الحشوية والتيمية قبل أكثر من ألف عام ليست هي نفسها في عصرنا ولهذا فإن الفروق و التماثلات في التفاصيل والحيثيات والأسباب مدعاة إلى البحث العميق في جذور هذه الظواهر وعدم الاكتفاء برصد تماثلاتها الشكلية، فمن الأسئلة التي ينبغي الإجابة عليها مثلا هل جاءت الحشوية وما بعدها من مشابهات بتصوراتها الأولية عن الله والبشر والدين من العدم أم أنها وجدت ذلك في تأويلات حرفية وظاهرية لنصوص دينية قرآنية وحديثية قبلها؛ وإلى أية درجة اقترنت الظاهرة السلفية القديمة كفكر ديني وسياسي بظروف صد العدواني “الإفرنجي الصليبي” قديما وظروف العدوان الغربي الإمبريالي المعاصر على شعوب المشرق العربي وشعوب الجنوب عموما؟ وإلى أية درجة خدمت السلفية القديمة أو المعاصرة العدوان الخارجي حتى لو قاتلته فعليا أو زعمت أنها تقاتله وتتصدى له، وهي في الحقيقة، ونحن شهود على ما حدث ويحدث منذ بدايات القرن الحادي والعشرين، تقاتل وتدمي شعوبها أضعاف ما تفعل مع القوات الغازية والمحتلة، وقد أخَّرت بفكرها ودمويتها عملية الانتصار على العدوان والتحرر من براثنه؟ هذه الأسئلة وكثير غيرها هي مما ينبغي مقاربته وتحليله وتسليط الضوء العقلاني عليه.
الهوامش:
1- الدمشقي ابن عساكر – تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري – ص 11- الموسوعة الحرة.
2-الماتريدية: نسبة إلى إمامها ومؤسسها أبي منصور الماتريدي، الذي ينتهي نسبه إلى الصحابي أبي أيوب الأنصاري؛ وهي مدرسة إسلامية سنية، ظهرت في أوائل القرن الرابع الهجري في سمرقند من بلاد ما وراء النهر. دعت إلى مذهب أهل الحديث والسنة بتعديل يجمع بين الحديث والبرهان.
3-الرازي فخر الدين -اعتقادات فرق المسلمين والمشركين، ص:97 –الموسوعة الحرة.
4- وحدة الوجود: مذهب فلسفي يقول إن الله والطبيعة حقيقة واحدة، وإن الله هو الوجود الحق، ويعتبرون الله صورة هذا العالم المخلوق، أما مجموع المظاهر المادية فهي تعلن عن وجود الله دون أن يكون لها وجود قائم بذاته. ويعتقد بعض الباحثين أن فكرة وحدة الوجود لم تظهر في صورة نظرية كاملة متسقة قبل محيي الدين بن عربي (ت 638 هـ)، وإن ظهرت بعض الاتجاهات نحو هذه النظرية بين حين وآخر في أقوال الصوفية السابقين عليه.
5- الغزالي أبو حامد – الاقتصاد في الاعتقاد (1 / 23). الموسوعة الحرة.
6- الآلوسي محمود شكري – مسائل الجاهلية، شرح مسائل الجاهلية (1/ 169). الموسوعة الحرة.
7- عبد الكريم حسام – صحيفة “الأخبار” البيروتية عدد 30 آذار 2021.
8- المصدر السابق.
9-المصدر السابق.
10- بيان بطلان دعوى نسبة التجسيم إلى شيخ الإسلام ابن تيمية – الفتوى 313828 –موقع إسلام ويب.
11- ابن تيمية – مجموع فتاوى ابن تيمية – العقيدة، كتاب الأسماء والصفات “الجزء الأول”، الجزء الخامس – السعودية: مجمع الملك فهد. صفحة 45.
12- ناصر بن عبد الكريم العقل – شرح التدمرية – المكتبة الشاملة. -صفحة 8. مؤرشف من الأصل.
*هذا النص جزء من دراسة طويلة بعنوان ” نقد الخطابين الاستشراقي العنصري والسلفي الانتحاري وهي واحدة من عدة دراسات في كتابي قيد التأليف ” ملفات ساخنة في التاريخ والتراث”.