الشاوي يتصدّر كوكبة لامعة من تدريسيي القانون الدستوري
الشاوي يتصدّر كوكبة لامعة من تدريسيي القانون الدستوري
شيرزاد أحمد النجار
أثار ما كتبه الأخ المفكر د.عبد الحسين شعبان في جريدة الزمان الغراء في 15/3/2021 حول: الشاوي: ذاكرة جيل أكاديمي، حين تتلاقح الفلسفة بالقانون، شجوناً في نفسي مليئة بالذكريات والألآم حول ” قدر” الأكاديمين العراقيين ( بالإضافة إلى قدر الكبار من الأدباء والشعراء والصحفيين العراقيين) في أن يرحلوا من هذه الدنيا في الغُربة والبُعد عن الأهل والوطن، كأنما هم معاقبون بـ “صخرة سيزييف” في أن يعيشوا حياة ليس فيها إلا ما يوحي بـكونها ” حياة مأساوية”.
وهنا أرى في نفسي إلتزاماًأخلاقياً وعلمياً في أن أكون وفياً لمن علموني يوما ما وأرشدوني فيما يمكن أن أقوم به في الحياة العملية والأكاديمية والفكرية. وفي فترة متقاربة ودعنا اثنان من كبار مفكرينا وأساتذتنا: البروفسور والفقيه الدستوري البارز منذر إبراهيم الشاوي (93 عاماً في 24-2-2021 ) والمفكر الاقتصادي اللامع خيرالدين حسيب (في 12/3/ 2021- 92 عاماً)، مما خلق لدّي أحزاناً وألآماً لا يمكن وصفهما، ولذلك وددتُ من أعماق قلبي أن أنعيهما بكتابة شيء يعكس مدى الاحترام الذي أكنّه لهما منذ أن تعلمت على أيديهما.
في هذه الحلقة أكتب ما يمكن كتابته عن أستاذي القدير المرحوم د.منذر الشاوي، وفي حلقة أخرى سوف أكتب عن أستاذي المرحوم د.خيرالدين حسيب.
(I)
كوكبة لامعة من الأساتذة
كنّا من الجيل العراقي الجديد الذي أنهى توّاً الدراســــــــــة الإعدادية 1964- 1963 ، وتمّ قبولنا في جامعة بغداد التي إلتأم شمل كلّياتها في العام 1956، وكانت مدرسة الحقوق التي تأسّست في العام 1908 بمستوى الكليّة، وأصبح البروفسور متّي عقراوي أوّل رئيس للجامعة، وأعقبه عالم الفيزياء الشهير البروفسور عبدالجبار عبدالله 1958? وهو أحد تلامذة ألبرت أنشتين، وعندما بدأنا حياتنا الجامعية 1964 كان البروفسور والمؤرخ البارز د.عبدالعزيز الدوري رئيسا للجامعة.
في أول أيام الدراسة الجامعية في كلية الإقتصاد والعلوم السياسية- قسم العلوم السياسية (هذه الكلية كانت تقبل فقط أعلى درجات التخرج من الإعدادية) بعميدها الأستاذ د. محمد يعقوب السعيدي الذي أصبح فيما بعد وزيراً للتخطيط في وزارة المرحوم اللواء الركن ناجي طالب عام 1965، حيث تولى بعده الأستاذ الأنيق دوماً د. محمد عزيز العمادة. لم يكن الإندماج بهذه الحياة الجامعية الجديدة ” سهلاً “، حيث جئنا من مدينة أربيل التاريخية العريقة ذات الطابع المحافظ والديني مع وجود نشاطات وحركات تميل إلى الصبغة اليسارية والوطنية والقومية، وواجهنا مجتمعاً منفتحاً حراً وغير متعصّب، واختلطنا مع طلبة أكثرهم من بغداد العاصمة الجميلة الجذابة الراقية وكذلك من مدن عراقية أخرى، سواءً في الوسط أو الجنوب أو الشمال ( وهنا من باب الوفاء للزمالة الجامعية أذكر البعض من أسماء هؤلاء الطلبة مع الاعتذار لمن خانتني الذاكرة لمرور فترة طويلة على مفارقتهم: عبدالحسين شعبان، أزهر الجعفري، إشراق قاسم خليل، إلهام عطا عجاج، صفاء المرزوك، صباح حسن الشامي، صلاح عبدالجبار مندلاوي، إنعام قنديلجي، أمل حسين،أحمد سعود الذكير، صباح الشلال، صباح فاضل شاكر، مضر يعرب البيّاتي، صبار أحمد الأحبابي، سهيلة سلمان، خليل العبيدي، حسن الربيعي، حازم الأعظمي، تغلب أحمد الجادر، ماجد مكي الجميل، طيب محمد طيب، أوليفيا داود، زاهرة عجينة، سويم العزي، سميرة محمد نيازي، هشام الحاج علي، عصام مهدي،ماجد كحلة، إدهام خميس الضاري،حنان، سهام عبدالغني هويدي، جليل الشيخ راضي، نزار حبيب الخيزران، بشرى السالم، حسين الجميلي، مؤيد الجنابي، فاضل الشهابي، وطلاب من اليمن والجزائر وفلسطين والأردن.
وابتدأنا نتلقى محاضرات من السنة الأولى فصاعداً وفي مواد جديدة لم نكن قد سمعنا بها من قبل (النظم السياسية، مبادىء العلوم السياسية، القانون الدستوري، مدخل إلى القانون، الجغرافية السياسية، الأحزاب السياسية، الاقتصاد، علم الاجتماع، الدبلوماسية، العلاقات الدولية، الفكر الاقتصادي، المشكلات السياسية…) والتي كانت تُلقى علينا من قِبل أساتذة أجلاء مقتدرين ومنهم: د.فاضل زكي محمد، د.شمران حمادي، الأستاذ عبدالباقي البكري، د.خطاب العاني، الأستاذ صالح عجينة، د.عدنان البكري، د.منذر الشاوي، الأستاذ هشام الشاوي، د.منذر عبدالسلام، د.نزار طبقجلي، د.حسن الجلبي، د.عبدالرسول سلمان، د.إبراهيم درويش، د.حسن العطار، د.لؤي يونس بحري، د.طارق الهاشمي (الذي كان له قصّة محزنة مع العقيد الركن عبدالغني الراوي،الذي شغِل منصب نائب رئيس الوزراءفي الوزارة التي شكلها المرحوم عبدالرحمن عارف رئيس الجمهورية في أيار 1967 واستقالت في تموز من نفس السنة، حينما وجّه له ” إهانة” غير مبرّرة أثناء إلقائه مداخلة علمية في اجتماع في قاعة الشعب في باب المعظم ببغداد عام 1967)…
عن طريق هؤلاء الكبار( الذين درسوا وتخرجوا من جامعات مرموقة في فرنسا، بريطانيا وأمريكا) انفتحت عقولنا على عالم جديد من الأفكار والاتجاهات والتحليلات وزرعت لدينا الشجاعة في قول ما نفكر به بطريقة علمية ومنهجية. كل ما كان يُذكر في المحاضرات جديداً ومثيراً ومحركاً للعقل، تعلمنا كيف نناقش ونطرح آراءنا، ونتقبّل وجهات نظر الآخرين تدريجيّاً.
تقدمنا في دروسنا والمراحل الدراسية وبدأنا نتعمق في علم السياسة ونُلِم بخفايا السياسة وأصبحنا قادرين على أن نُعطي تعاريف لها ولعلمها من خلال ذِكر تعاريف علماءها ومفكريها، وأول كتاب علمي درسناه بهذا الصددكان كتاب عالم السياسة الأمريكي (رايموند كيتل) الموسوم (العلوم السياسية/ جزءان) ومن ترجمة أُستاذنا الفاضل المرحوم البروفسور فاضل زكي محمد ( الذي ارتبط تاريخيا بمدينتنا إربيل حيث كان تعيينه لأول مرة عام 1948 كمعلم في إحدى مدارس المدينة)، وبدأنا نتعمّق في المعرفة العلمية بالسياسة في محاضرات النظم السياسية والأحزاب السياسية والدبلوماسية والمفاوضات والإدارة العامة والتطّورات السياسيّة في الوطن العربي وكذلك عن طريق المحاضرات باللغة الإنكليزية عن علم السياسة والعلاقات الدولية التي أُلقيت علينا في المراحل الثلاثة الأولى من قبل الأستاذ المرحوم د.عدنان البكري، ومن ثم محاضرات عن المشكلات السياسية التي ألقاها بروفيسور د. إبراهيم درويش( أستاذ مصري أُعيرت خدماته في تلك الفترة إلى جامعة بغداد وبعد ذلك عاد إلى مصر وأصبح من أبرز أساتذة علم السياسة والقانون الدستوري في جامعة القاهرة وأُختير عضواً في المجلس الدستوري المصري وما زال، أطال الله في عمره المديد).
(II)
الشاوي ونظرية الدولة
إن قدرة الإرغام هي ليست نافعة فقط، بل إّنها ضرورية لحياة وتطوير الفئة الاجتماعية، إذ لولاها لتفككت الفئة أو ابتلعتها أخرى. ولكن لا وجود لقوة الإرغام الا عندما يكون هناك تمييز سياسي. هذا يعني…رؤية فئة من الناس في وضع يمكنهم من فرض إرادتهم بالفعل على الآخرين من أعضاء المجتمع. هؤلاء … هم الحكام، … القابضون على القوة الكبرى.
منذر الشاوي، في الدستور، بغداد، 1964
حسبما هو مدرج في جدول المحاضرات، كانت الحصة الدراسية الثانية مخصّصة لمادة (القانون الدستوري) وكان إسم الأستاذ المحاضر مدرجاً أيضاً: الدكتور منذر الشاوي. وبالضبط دخل الأستاذ الشاوي القاعة الدراسية على الساعة التاسعة صباحاً. إنسان أنيق، بهندام جذّاب، البدلة الجميلة الراقية وربطة العنق المنسجمة مع البدلة القهوائية المائلة للسواد، ونظارة طبية جميلة. دخل القاعة والطلاب صامتون ينظرون إلى أستاذ جديد ذو هيبة واحترام وها هو يجلس على منصة الأستاذ وينزع ساعة اليد ويضعها أمامه ويحيي الطلبة بصوت ناعم موسيقي: صباح الخير ويرد الطلبة التحية بأحسن منها.
عن هذه اللحظة، يكتب وبحق الأخ والصديق المفكر د.عبدالحسين شعبان ما يأتي:
” أُعجبتُ والعديد من زملائي بشخصية منذر الشاوي الكارزمية وفكره التنويري ودعوته إلى الحداثة وارتباط ذلك بفلسفة التغيير، بل أنه كان يمثّل لجيلنا نمطاً جديداً من الأساتذة، الأنيق، الوسيم، المستقلّ، غير التقليدي، المنفتح، المشجّع على الحوار، القريب من الحس والشعور بالتجديد، وكانت حصته الدراسية منتدىً للحوار والاثارة ومنها مواضيع يشتبك فيها القانون بالسياسة…”
وبهذ الصدد، يكتب الصديق الأستاذ د. سعد ناجي جواد ما يأتي:
” عند التحاقي بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية…، تشرّفت بأن أكون طالباً لدى مجموعة من الأساتذة الكبار، وظل بعضهم كبارًا رغم تغير الظروف والأحوال. وكان الأستاذ الدكتور منذر إبراهيم الشاوي واحداً منهم. كنّا في بعض الأحيان ننزعج من صرامته، بل كنا نعده من المغرورين، ولكنه كان يبهرنا بمحاضراته القيمة وأسلوبه الشيق في إلقائها وبحرصه على الالتزام بالقيم الأكاديمية. ثمّ اكتشفنا ونحن على وشك التخرج أن فيه طيبة كبيرة توازي علمه الغزير.”
بدأ، الأستاذ الشاوي، المحاضرة الأولى بمقدمة وجيزة عن محتوى المادة التي سيدرسها طوال السنة الدراسية، ثم تطرق إلى موضوع الدولة، حيث أعطانا تعريفاً جديداً و “غريباً إلى حد ما “، حيث قال: أن الدولة هي تمييز سياسي بين الحكام والمحكومين.إذن، الدولة ليست فقط تلك المؤسسات التي نحتك بها يوميا، بل أنها تعبير عن واقع آخر: وجود حكام يفرضون سلطتهم على الآخرين عن طريق امتلاكهم القوة (سواء القوة المادية أم الفكرية).ولكن من هم هؤلاء الحكام ومن أين يأتون وكيف؟ هذا التساؤل الذي كان يُشغِل أفكار الطلبة، كان تساؤلاً طبيعياً وناتجاً عن أن الجيل الجديد لم يكن يعرف من طرق تولي السلطة في العراق سوى طريقة واحدة وهي: فرض السلطة بالقوة، أما الحديث عن طريقة أخرى تتعلق بالإنتخابات والإختيار الحر، فلم يكن له مكان في العراق آنذاك، على الرغم من وجود توجهات ديمقرطية في البلد كانت تنادي بالديمقراطية والتداول السلمي للسلطة.
كتب الفقيه الشاوي في كتابه المهم (في الدولة، 1965)، بأن دراسة الدولة لا يمكن أن تُدرس بالطريق التقليدية بعد أن اكتشف الفقيه الفرنسي الشهير (ليون دوكيه) كنه الدولة عندما عَرفها بكونها تمييز بين الحكام والمحكومين، والذي أقتبسه بروفيسور الشاوي منه وعَلّمَنا به، ولكنه لم يتوقف عنده، بل أنّه انطلق من تلك الأفكار ودفعها إلى أقصاها: إنه حكم المنطق، وكان هذا إحدى إبداعاته الفكرية الرائعة.
(III)
الشااوي ونظرية الدستور
في القسم الثاني من محاضراته في (القانون الدستوري)، بدأ بروفيسور الشاوي في توضيح مفهوم الدستور، إقامة الدستور، مفهوم السلطة المؤسسِة والسلطة المؤسسّة،تعديل الدستور ونهاية الدستور, هذه كانت قضايا كبرى في فلسفة الدستورإنشغل بها كبار فقهاء القانون من أمثال: دوكيه، هوريو، كاره دى مالبيرك، إسمان، بيردو،هانس كيلزن، لآباند، يلينيك، وكذلك الفقيه الشاوي الذي في أرائه وتصوراته حول الدستور تَفوّق على الفرنسيين أنفسهم وأحرز جائزة الأطروحات في جامعة تولوز عن إطروحته الراقية: إسهام في دراسة السلطة المؤسسِة عام 1961.
سألنا: ما الدستور؟ لم يتلقّى الإجابة التي ترضيه، لذا بدأ وبطريقته الرائعة بشرح الدستور: إنّه القاعدة التي تعلو على الحكّام، وهو أصل كل السلطات العامة في الدولة، وبالتالي فالدستور هو القاعدة العليا للنظام القانوني. ويستمر الشاوي في الشرح والتوضيح حيث يقول: إنّ بعض الفقهاء، وخصوصاً الفقيه بِردو، يرون في الدستور الفعل الخالق للدولة، أي الفعل المؤسس للدولة وبالتالي فإنه مصدر كل السلطات فيها، فتكوين الدولة يتبلور في فعل قانوني هو الدستور(بِردو). هذه الفكرة تتضمن (العلوية الدستورية)، بمعنى أنّ كل شيء في الدولة خاضع لفعل سابق هو الدستور. وهكذا يشرح الشاوي الأعمال التشريعية الاعتيادية التي ينبغي أن تخضع للدستور، ولكن هذا الوضع يتطلب منع التجاوزات على الدستور من قِبل المشرع الاعتيادي، وهذا يعني ضرورة تقييد هذا المشرع، وهو ما لا يقبله الفقيه الشاوي، الذي يستند في رؤيته على طرح مفهومه الخاص للدستور وهو مفهوم سياسي محض، وهذا أيضاً أحد إبداعاته الفكرية العميقة في نظرية الدستور.
في محاضراته المعمّقة حول الدستور، بيّن الدكتور الشاوي أنّ قواعد الدستور عبارة عن أبنية توازن سياسي أكثر من أن تكون أساساً للشرعية، وفي هذا استند إلى رأي الفقيه الفرنسي المعروف (جورج سيل)، استنادا إلى مظهرين – الأوّل: مظهر إستاتيكي ثابت في حفظه للتوازن بين القِوى الحاكمة؛ – والثاني: مظهر دايناميكي كونه ينظم طريقة ممارسة السلطة، وهكذا تتوضّح صورة المفهوم السياسي للدستور: الدستور مجموعة القواعد المكتوبة أو العُرفية التي تُبيّن الطريقة التي بواسطتها تمارس القوة الحاكمة من الأفراد القابضين عليها.
وبهذا المفهوم ينكر الفقيه الشاوي صحة المفهوم القانوني للدستور. ولذلك فإن الدساتير حملت معنىً سياسياً حيث إستُعملت كأداة لتكريس سلطة فرد أو فئة أو طبقة؛ إذن هذه الدساتير تمثل وثائق نصر لقوى سياسية على أخرى. أحياناً تكون الدساتير وسيلة لـ ” توازن سياسي”، عندما يقبض عدد من القوى السياسية على السلطة في الدولة، أي سيكون هناك إسهام مشترك في ممارسة السلطة.
بهذا الشكل المعمق والدقيق، كان أستاذنا يطرح علينا أسئلة معظمها “إستفزازية” بالمعنى الإيجابي للكلمة، ولكنّه كان يقصد إثارة النقاش ليستمع إلى وجهات نظرنا وطريقة تفكيرنا حول الكثير من المواضيع.
أتذكّر في إحدى محاضراته أواسط عام 1966? طلب فجأة أن نكتب السؤال التالي: من أنتَ؟ واشترط في الجواب أن لا يزيد عن صفحة واحدة. كان تحدياً فلسفياً لكي يعرف نوعية أفكارنا ومدى سِعة معارفنا ودقّتنا في الإجابة، وخصوصاً بشأن الهويّة. وفي محاضرة أخرى قدّم لنا قائمة بعناوين 10 كتب يجب علينا قراءتها بإتقان وكان من بين هذه الكتب: القرآن الكريم، العقد الإجتماعي – روسو، رسالتان عن الحكم المدني- جان لوك، رأس المال – ماركس، الدولة والثورة – لينين، روح الشرائع – مونتسكيو.
(IV)
الشاوي وتأملاته الجامعية
تأمل أستاذنا الشاوي وضع الجامعات وحالة التعليم العالي في العراق، وكون أنّ الدراسة الجامعية، بشكل أو آخر، أصبحت استمرارا للدراسة الثانوية، ولذلك طرح آراءه في الإصلاح الجامعي في ورقة مهمة عام 1989 حملت عنوان” الإصلاح الجامعي في العراق” حيث وضع ” أُصبعه على الجرح”. في هذه الوثيقة بيّن الشاوي أن “البناء المادي للمجتمع يعتمد على التعليم الذي يزوّد الإنسان بالمعرفة والمهارة ويرسّخ فيه قيماً، ويحدد سلوكاً، ويثبت فيه رؤية للإنسان و مصير للإنسان”.وفي هذا الإطار فإن التعليم ” يهدف إلى تغيير المجتمع نحو الأفضل، من خلال بناء الإنسان الأفضل”. إذن، هدف التعليم هو ” بناء الإنسان”، وهذا ما أكد عليه الشاوي حينما زرناه كمجموعة من طلبته في شقته المتواضعة في عمّان (تموز 2019 ) والتي كانت بمثابة ” زيارة وداع”.
إذن، فالحاجة إلى إصلاح التعليم العالي هي ضرورية ومُلِّحة، والإصلاح “عملية دايناميكة مستمرة ومتصاعدة”، ولعامل الزمن أيضاً دوره المهم في تسهيل وتطبيق الإصلاح المنشود، الذي يتضّمن ” مواجهات واعية وموضوعية وصريحة لمشكلات التعليم العالي في العراق”. وهذه المواجهات هي بداية إنطلاق نحو آفاق جديدة من العلم والمعرفة وأيضاً في بناء الإنسان.
(V)
الشاوي ورأيه في الديمقراطية
إهتمّ أُستاذنا الشاوي بمسألة الديمقراطية منذ زمن دراسته أواخر خمسينات القرن الماضي بجامعة تولوز في فرنسا، عندما ناقش في إطروحتيه في علم السياسة وعلم القانون، فكرة الحكام وطريقة توّليهم السلطة، وبعد ذلك تعمّق في فكرة الديمقراطية وفلسفتها في عدد من مؤلفاته:
الدولة الديمقراطية، بغداد 1998? بيروت 2000
مفاهيم أساسية في الديمقراطية، بغداد 2005
فلسفة الدولة، عمان 2012
فلسفة الحياة السياسية، بغداد 2015
قراءة في الفلسفة الديمقراطية السياسية والقانونية، عمان 2014
إنطلق الأستاذ الشاوي في طرح مسألة الديمقراطية بالقول: ” تاريخ الفكرة الديمقراطية تاريخ طويل ومثير. والديمقراطية تستلهم الحرية، والحرية تعني قبل كل شيء حرية الفرد”. وأنّ ” المذاهب الديمقراطية منذ بداياتها وفي تطورها تهدف إلى إقامة حواجز ضد الطغيان”.
الديمقراطية كفكرة وكأيديولوجية تعني أن الشعب هو صاحب الإرادة وأن هذه الإرادة تحكم المجتمع، إذن، الديمقراطية، يوضح الشاوي، تعني ” وحدة صاحب السلطة وموضوع السلطة.”وعليه، فالسلطة في الديمقراطية هي ملازمة للشعب وليست خارجة عنه أو تعلو عليه. وفي الديمقراطية فإنّ الأفراد (أو الشعب ) يقيمون القانون ويخضعون له بإرادتهم.
وهنا تبرز مشكلة تتعلق بإمكانية التوفيق بين حرية وإستقلال الفرد من جهة، والخضوع للقانون من جهة أخرى. هذا التناقض أو الثنائية بين المواطن والرعية هي ” مفتعلة وغير واقعية “، حسب تعبير الأستاذ الشاوي، وللحل يلجأ إلى ما كتبه (ماركس) عن فكرة المواطن، حيث يكتب في كتابه (فلسفة الحياة السياسية، 2015، الذي أهداه وبكل إحترام وتقدير إلى أستاذه بالصيغة الآتية: إلى أستاذي أوليفيه دبيرو الإنسان والفقيه والمعلّم) ما يأتي: ” التحرر الإنساني لا يمكن أن يتحقق إلا حين يستغرق الفرد الحقيقي المواطن المجّرد، إلا عندما يصبح الإنسان الفرد في حياته الواقعية، في عمله و في علاقاته الفردية، كائناً إنسانياً واعياً.”(وهنا أرى من الواجب ذكره أن التوجهات اليسارية التحررية للفقيه الشاوي كانت واضحة في كتاباته القانونية، السياسية والفلسفية وفي طرحه لأرائه ممزوجاً بالتوجه القومي الإنساني، وفي إشاراته ومناقشاته مع المفكرين الماركسين الكِبار: كارل ماركس، أنجلز، لينين ومع كبار فقهاء القانون ذوي النزعة التحررية الإنسانية من أمثال: ليون دوكيه، جورج بِردو، حيث يستخلص إنّ الماركسية هي فلسفة أو مفهوم كامل للعالم والإنسان)
وهكذا كان الإنسان الواعي هو أصل هدف الشاوي في بناء الإنسان الذي يمكن عن طريقه بناء الديمقراطية.وهذا الإنسان الواعي الحر هو أساس النظام السياسي الديمقراطي، وهنا، كما يشير إلى رأي الفقيه النمساوي (كلسن)، تَظهر القيمة الأخلاقية للديمقراطية.
إن الديمقراطية، وحسب الفقيه الفرنسي (بِردو)، تهدف إلى التوفيق بين حرية الإنسان ومتطلبات النظام السياسي.
وبعد مناقشات طويلة مع فكرة الديمقراطية ومشكلتها، يقدم الشاوي رأيه كالآتي: ” في الحقيقة إن مشكلة الديمقراطية هي مشكلة الإنسان ومشكلة الرهان على الإنسان. فالديمقراطية هي مشكلة الإنسان ككائن اجتماعي، كجزء من كلّ، وهي كذلك مشكلة الإنسان ككيان قائم بذاته له مصالحه وله طموحاته وفيه نزعات الخير والشر.” ويضيف: ” الإنسان اليوم والإنسان في الغد: ماذا تريد الديمقراطية منه و ماذا يريد هو من الديمقراطية؟ سؤال يستححقّ أن يطرح لأنّ في طرحه مواجهة لمشكلة الإنسان في حاضره وفي صيرورته.”
(VI)
الشاوي وشخصيته الفريدة
وفي الختام ومع توديع أستاذنا الشاوي ونهاية حياته الماديّة وحيوية حياته العلمية والفكرية، نؤكد على ما ذكره الدكتور عبد الحسين شعبان، أنّ الشاوي:
” وفي جميع المواقع التي شغلها وعمل فيها كان يتمتع بصدقيّة واستقامة وحرص ومسؤولية وحاول أن يحتفظ لنفسه بهامش من الاجتهاد في حدود الممكن والمسموح به، وكان يُدرك الأرضية التي يقف عليها ويقيس المسافة بدقّة بينه وبين قمة الهرم من خلال ذكائه الحادّ وحكمته وبُعد نظره وصبره”
عليه، ستظل، كما يكتب الدكتور سعد ناجي جواد، بَصمات وإنجازات الفقيد الأستاذ الدكتور منذر الشاوي في المجال القانوني والدستوري والدراسات الجامعية شاهد على كفاءته وقدراته وعلمه الغزير، والأهمّ على حبّه للعراق.
ويبقى علينا القول أن الأستاذ الشاوي يستحق مبادرة من زملائه الأساتذة ومن طلّابه الأوفياء في المساهمة في مشروع كتاب يتناول فكره وآرائه يقوم بتحريره البعض منهم (اقترح أن يقوم به أحد طلابه د.شعبان) وعلى طريقة الأساتذة الألمان في إصدار كتاب لتكريم أحد أساتذتهم الكبار ويُسمونه بـ .Festschrift(بمعنى:كتابُ للذِكرى)
{ استاذ علم السياسة والقانون الدستوري- جامعة صلاح الدين – إربيل