تطبيق العدالة الانتقالية أو الانتقائية في العراق؟
للمرة الثانية، منذ الاحتلال في عام 2003، يبرز بعض الاهتمام التوثيقي بالعدالة الانتقالية بالعراق، من خلال اطلاق تقرير «العدالة الانتقالية في العراق الذاكرة وأفق المستقبل» من قبل منظمة أفق للتنمية البشرية ومؤسسة فريدريش ايربت الالمانية.
كانت المرة الاولى حين شرع المركز الدولي للعدالة الانتقالية، بنيويورك، بالعمل داخل العراق، مباشرة بعد الاحتلال. حيث قام باصدار اربعة تقارير، متوفرة باللغتين العربية والانكليزية، عن محاكمة الأنفال، والدجيل المحاكمة والخطأ، وأصوات عراقية: مواقف من العدالة الانتقالية وإعادة البناء الإجتماعي، وأرث مُر: دروس من عملية اجتثاث البعث في العراق 2004 – 2012. استند التقرير الاخير، إلى أبحاث ميدانية ومقابلات مع مسؤولين في الهيئة الوطنية العليا لاجتثاث البعث، مركزا على « عملية تطهير المؤسسات من أعضاء حزب البعث» وهي، حسب التقرير، أكبر وأشهر عملية عزل موظفين لأسباب سياسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وتضمن دروسا مستقاة من دول اخرى عاشت تجربة العدالة الانتقالية بالاضافة الى توصيات اساسية لصانعي القرار لتلافي الأخطاء.
أكد المركز دائما بان فحوى عمله هو تقديم المشورة، خاصة في مجالات فحص أهلية الموظفين المسؤولين عن تنفيذ العدالة. فقد راقب المركز، مثلا، عملية اجتثاث البعث، مبينا عيوبها « مع التأكيد على أنه يجب تقييم الأفراد بناءً على الأعمال السابقة، وليس على أساس العضوية في الحزب». وبصدد الملاحقات القضائية، أثار المركز قضية التدخل السياسي والخلل الوظيفي أثناء المحاكمات. كما قدم معلومات وتحليلات للمساعدة في تصميم وتنفيذ برامج جبر الضرر الفعالة بعد أن التقى موظفو المركز بأعضاء المجلس الأعلى لتعويض الضحايا لمناقشة طرق التعويض وصياغة التشريعات. وقد شجع المركز العراقيين المعنيين على التعرّف على تجارب البلدان الأخرى في عمليات البحث عن الحقيقة قبل اتخاذ أي قرار لإنشاء مثل هذه الآلية. وأوصى بزيادة مشاركة الضحايا ومنظمات المجتمع المدني في أية هيئة تهدف للبحث عن الحقيقة. ملخصا فكرة العدالة الانتقالية بأنها العمل على تحقيق العدالة، واظهار الحقيقة، وجبر الضرر، والعمل على عدم تكرار الممارسات المهينة وانتهاكات حقوق الإنسان مستقبلا.
فما هو الجديد الذي استدعى اصدار التقرير الأخير وما هي الإضافة الى تقارير المركز السابقة، التي كان يجب الاستفادة منها تجنبا للتكرار ولاستمرارية توثيق التجربة بجوانبها المتعددة ؟
لا اعتقد أن هناك إضافة جديدة في النصف الاول من التقرير، المكرس للتعريف بآليات العدالة الانتقالية في القانون الدولي وأمثلة لتجاربها في عدد من الدول. إلا أن هناك بعض الجوانب التي تم التطرق اليها للمرة الأولى في النصف الثاني من التقرير المسمى « تجربة العدالة الانتقالية في العراق في سياقها التاريخي والقانوني وآليات التطبيق وأثرها الاجتماعي» والذي كان الأصح تسميته «فشل تجربة العدالة الانتقالية في العراق» بناء على التفاصيل المذكورة فيه. وهو ما أكده استبيان، أنجزه مؤلفو التقرير، شارك فيه 200 شخص، معظمهم كما تدل الاجابات مسؤولو منظمات المجتمع المدني. عند سؤالهم عن الثقة بقدرة المنظومة القانونية والإجرائية المتعلقة بمسارات العدالة الانتقالية ومدى نجاعتها لمنع تكرار وقوع الانتهاكات التي اقرت من اجلها، أقر 70 بالمئة عن عدم اعتقادهم بذلك، ولم يؤيده سوى 3.5 بالمئة فقط.
غياب الإرادة السياسية الصادقة، وهيمنة روح الانتقام، والطائفية، والإفلات من العقاب، والأكثر من ذلك هو استشراء منظومة فساد مالي وسياسي وإداري، اختزلت تحقيق العدالة بدفع التعويضات فقط
من بين الأسباب التي أعاقت تنفيذ العدالة الانتقالية بالشكل السليم، حسب التقرير، أولا: مأسسة العملية والبلد تحت الاحتلال الانكلو – أمريكي «، المسيطرعلى سلطة القرار التنفيذي والتشريعي فيه، دون مشاورة مسبقة مع الشعب العراقي بل اقتصر عملها على التنسيق مع قوى المعارضة التي تغيرت موازين القوة لصالحها بعد إسقاط النظام السابق».
ثانيا: اقتصار المجال الزمني للانتهاكات على حقبة حكم حزب البعث 1968 – 2003، والتي تشكلت عليها أسس العدالة الانتقالية، ولا يزال كما هو رغم مرور 18 عاما على نهاية حكم البعث. يقترح مؤلفو التقرير، ان تشمل العدالة الانتقالية الانتهاكات منذ ثلاثينيات القرن الماضي « وأبرزها مذبحة سميل عام 1933 التي قامت بها الحكومة العراقية بحق أبناء الأقلية الآشورية. وتهجير يهود العراق عام 1950… ثم انتهاكات حقوق الإنسان بعد تغيير النظام 2003 – 2020، والتي تجسدت من خلال ضحايا الحرب الطائفية في العراق 2008 – 2006، يسبقها ضحايا عمليات الاحتلال ومابعد الاحتلال، ثم ضحايا الحركات المتطرفة ضد أبناء المناطق الغربية والجنوبية والوسطى.. وضحايا داعش». ويذكر التقرير أن الأقليات الدينية والقومية هي المتضرر الأكبر، بكل المستويات، وان مسلسل الانتهاكات الجسيمة مستمر وبأشكال مختلفة كما في تظاهرات تشرين الأول 2019 باعتبارها «واحدة من اهم ملامح انهيار منظومة حقوق الإنسان في العراق حيث قتل اكثر من 800 متظاهر، وجرح وإعاقة الآلاف منهم، بالإضافة الى خطف واختفاء المئات منهم.. ويبقى استهداف الناشطين مستمراً، دون اي كشف للحقيقة». ويضمن التقرير في مراجعته مسار التطبيق في إقليم كردستان قائمة انتهاكات ضمت ضحايا الاقتتال بين الحزبين الكرديين الرئيسيين وضحايا مجزرة بشتا شان من الشيوعيين.
إن توسيع حقب الانتهاكات، وهي مهمة ليست سهلة، تستدعي تقييم كيفية تطبيق العدالة الانتقالية لضحايا الحقبة الحالية الممتدة بلا تحديد زمني قانوني. مما يتطلب الإجابة على السؤال الاهم أولا، وهو هل ما تم العمل به هو عدالة انتقالية فعلا؟ تدل مراجعة عمل المؤسسات التي استحدثت وآليات التطبيق على ان العدالة الانتقالية تحولت ضمن التجربة العراقية الى عدالة انتقائية – انتقامية. تمركزت حول احتكار الحقيقة من قبل السلطة والجهات الرسمية وانتقائية « الضحايا» وكتم انفاس الحقيقة بما يسمى جبر الضرر، حيث أسست اللجان والمؤسسات بدون تشريع قانوني او مشاركة الشعب عبر منظمات المجتمع الاهلي والمدني او تشكيل لجان حقيقة بامكانها توثيق سردية الانتهاكات، من اعتقال وتعذيب وقتل، بشكل محايد بعيدا عن التضخيم والتخيل وروح الانتقام، لئلا يتم تكرارها مستقبلا.
ينتهي التقرير بقائمة تشخيص وتوصيات طويلة، توحي للقارئ بانها محاولة لضخ الحياة في تجربة أخفقت بقوة من ناحية تطبيق المفهوم الحقيقي للعدالة. وأسباب الاخفاق معروفة للجميع مهما كان نبل التعابير والمصطلحات المستخدمة. وهي غياب الإرادة السياسية الصادقة، وهيمنة روح الانتقام، والطائفية، والافلات من العقاب، والأكثر من ذلك هو استشراء منظومة فساد مالي وسياسي وإداري، اختزلت تحقيق العدالة بدفع التعويضات، فقط، ضمن سياسة منهجية لاستقطاب المؤيدين.
بينما يتطلب تطبيق العدالة الانتقالية، استقلال البلد، والارادة السياسية الصادقة وان تبنى العملية على مشاورة ومساهمة أبناء البلد، أنفسهم، في اتخاذ جميع الخطوات اللازمة لضمان حق الضحايا في معرفة الحقيقة، والعدالة، وجبر الضرر، وعدم التكرار، لضمان مصالحة ماضي العراق مع حاضره أملا بحماية مستقبله.
كاتبة من العراق