عز الدين المناصرة في جزائر الغزالي وحيزية
حياة شديدة التوسع والغني، تلك التي عاشها الشاعر الكبير عزالدين المناصرة (1946-2021). يمكن اختزالها في عدة محطات صنعت حياته الثقافية كلها: محطة فلسطين (1946-1964) محطة مصر (1964-1970) محطة الأردن (1970- 1973) محطة لبنان (1973-1982)، ومحطة بلغاريا (1977-1981 قبل أن يعود إلى بيروت)، محطة الجزائر (قسنطينة من 1983-1987 وتلمسان من 1987 إلى 1991) وأخيراً مرحلة الأردن (1992-2021). أنجب خلال هذه الرحلات ثلاثة أبناء، هم: كرمل، بيروت 1979، وكنعان، الجزائر 1988 ودالية، عمان 1992. تخللت هذه الرحلة 11 ديواناً و25 مؤلفاً فكرياً ونقدياً. شيء من مرحلة الجزائر ظل في الظل على الرغم من أهميته في حياته وفي شعره. هي لحظة مهمة في ثقافة عز الدين المناصرة، في إبداعه وفي تكوينه أيضاً. مباشرة بعد خروجه من بيروت في 1982 مع المقاومة، والانتقال إلى تونس، اختار الشاعر الكبير الجزائر في سنة 1983 لتكون محطة حياته المقبلة، فقد كان يرى فيها البلاد العربية الوحيدة التي تحمل كل المواصفات الثورية الفلسطينية، السخاء، والمقاومة، والتشبع بالحرية. ولم يغير رأيه حتى في أحلك الظروف وأصعبها، وطرده من عمله بغلاف الجزأرة (تبديل الإطارات العربية والأجنبية بإطارات جزائرية)، لكن السبب العميق يعرفه جيداً أصدقاء وأعداء المناصرة. فقد اكتشف الحركة الثقافية في الجزائر وهي في أوجها، لهذا انخرط في اللقاءات والندوات والمؤتمرات الجامعية والثقافية، ككاتب عربي ظل يحلم بمدرسة عربية للأدب المقارن. وكان يرى في البلدان المغاربية عموماً، والجزائر على الخصوص، مساحة مهمة للتنوير والنقد الجاد. كانت الحركة النقدية يومها في عز نقاشاتها الفكرية والأدبية، مبتعدة عن النقد التاريخي، مفضلة عليه النقد النصي من خلال البنيويات التي كانت ركائزها قد بدأت تترسخ مع جيل الشباب الذي تخرج من الجامعات العالمية والعربية. وهو ما أثار معارك كثيرة كان المناصرة أحد أقطابها في الجزائر، بالخصوص عندما اعتبرت بعض التيارات التقليدية المدارس الحديثة ومنها البنيوية، كفراً وإلحاداً، بالخصوص في مدينة قسنطينة التي كان مرجعها الشيخ الإصلاحي عبد الحميد بن باديس، الذي لم يعد مقنعاً بالنسبة للتيارات الإسلاموية التي جعلت من الإيديولوجيا وسيلتها لإحكام سيطرتها على الجامعة الإسلامية الجديدة التي كان يفترض أن تكون منبراً لمعرفة تاريخ الأديان، والأديان المقارنة، وعلم اللاهوت، والإسلام من موقع التاريخ. فتحولت جامعة قسنطينة إلى معقل للتيارات الدينية المتشددة. لم تكن بداية وجود المناصرة في الجزائر موفقة لدرجة أنه في عام 1983 منع من إلقاء قصيدته (حصار قرطاج) أمام المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر، لخلافات فلسطينية داخلية، على الرغم من أنه تلقى دعوة شخصية لإلقائها، من الرئيس عرفات، نفسه، ظل محتفظاً بها زمناً طويلاً. وفي مهرجان الشعر العربي الذي انعقد في الجزائر 1984، انسحب وفد عربي؟ من المهرجان الشعري، أثناء إلقاء قصيدته (حصار قرطاج) احتجاجاً على القصيدة لأنها تحدثت عن امرئ القيس ومجدت الجاهلية والكفر. لكن الحرب الكبرى التي خاضها بتبصر ومعرفة هي تلك التي كان على رأسها الشيخ الغزالي الذي احتضنه الرئيس الشاذلي بن جديد الذي كان يرى فيه قيمة علمية ودينية عظيمة، ووسيلة للتحكم في التيارات الإسلاموية التي بدأت تحتل المشهد الجامعي بسلسلة من الممارسات الفاشية ومنع المختلف من التعبير عن نفسه في الحرم الجامعي. لم يخف الشيخ الغزالي امتعاضه من الحركة الجامعية من الباحثين الشباب التي حوطت بالشاعر. بدأ حربه ضد أساتذة التفكير بالعمل لا على مناقشتهم، ولكن لطردهم من الجامعة. كانت حرباً إيديولوجية لا علاقة لها بالفكر الإسلامي، ضد أحد أساتذة الفلسفة الدكتور رائق النقري، كان الرجل غزير المعرفة ومحبوباً لدى الطلبة والطالبات، تحديداً. فاتهم بالزندقة والإلحاد والمس بالذات الإلهية لدرجة أن أشيع عنه «شيطانٌ إنسيّ ينشر فكراً ضالاً مُضلاً، أو ينشر إباحية وفجوراً أو ألواناً من أنماط الحياة التي تنكر الآخرة أو تُنسيها في نفوس وقلوب الطلبة» (د. حسن كاتب). تشكت مجموعة من طالبات معهد الفلسفة، كنّ يزرن الشيخ الغزالي، في مكتبه، فذكرن له ما ينشره الأستاذ رائق النقري من «أضاليل» في ثوب نظريات وأفكار وطروحات، فكانت استجابة الشيخ الغزالي، وبدأ يعمل بكل جهوده على طرده من الجامعة حتى كان له ذلك.
حربه الثانية كانت ضد عز الدين المناصرة، لأن تأثيره في الجامعة كان كبيراً. هذه الحرب بدأت من دراسة أعدّها الطالب أبو جرة سلطاني وقتها (الأمين العام لحركة حمس لاحقاً) ونشرها في جريدة «النصر»، في حلقات متسلسلة بعنوان «أين الحداثة أين الفن؟» في ديوان «الخروج من البحر الميت» وانتهى الطالب في مقالته إلى إدانة الشاعر بالإلحاد والإساءة إلى الدين وإلى الذات الإلهية المقدسة. أصبح بعدها الطريق مفتوحاً أمام الشيخ الغزالي للتدخل، فأذاع إلحاد الشاعر في بعض محاضراته. لم يكتف بذلك، بل اتصل بمسؤولين كبار رافضاً أن يكون في «جامعة جزائر الشهداء والمجاهدين أمثال هذا المُجاهِر بمنكراته وإساءته لله. كما استنكر أن يكون في الفلسطينيين الذين يكافحون العدوان الصهيوني، ومن ورائه مَن يحمل مثل هذا الفكر»، ربما من سوء حظ المناصرة أنه وجد نفسه وقتها في جامعة إسلامية حادت عن طريقها وبدأت في صناعة إطارات التطرف بدل صناعة المعرفة. في ربيع 1986 انعقد مؤتمر: جدوى الأدب في عالم اليوم، في جامعة باتنة الجزائرية، فألقى الشيخ محمد الغزالي محاضرة حملت عنواناً عدائياً: «الوثنية الكنعانية والشيوعية في شعر عز الدين المناصرة»، حيث اتهمه بالإلحاد والشعوبية، وزعم أنه يدعو للوثنية. تلقفت التهمة جهات جزائرية وعربية غامضة، فبدأت حملة إعلامية ضد قصائده في جريدة النصر التي تصدر في قسنطينة، في شكل مقالات استمرت حتى صيف 1987 انتهت بفصل المناصرة من عمله كأستاذ بجامعة قسنطينة، بشكل تعسفي، بإيعاز من الشيخ الغزالي بحجة رسمية هي الجزأرة. على الرغم من أن رئيس الوزراء عبد الحميد إبراهيمي أرسل وقتها برقيةً إلى رئيس الجامعة يشير فيها إلى أن المناصرة لا ينطبق عليه قانون الجزأرة، لأنه فلسطيني، لكن دون جدوى، لأن سلطة الغزالي كانت مستمدة من سلطة الرئيس. لكن الحركة الثقافية والأكاديمية ظلت مرتبطة بالمناصرة، فاستقبلته جامعة تلمسان الأندلسية الناشئة التي ساهم في تأسيسها علمياً، وكتب فيها أجمل قصائده الأندلسيات. ثم زار عز الدين المناصرة مدينة بسكرة للمشاركة في المهرجان الشعري: محمد العيد آل خليفة، وهناك طلب أن يزور مدينة سيدي خالد القريبة حيث قبر حيزية التي سبق أن قرأ عن ملحمتها العشقية الكبيرة. ووقف على قبرها طويلاً متسائلاً كيف لشابة في مقتبل العمر أن تهز أركان القبيلة بقصة حب؟ فكتب قصيدته الطويلة التي أصبحت ديواناً مستقلاً «حيزية عاشقة من رذاذ الواحات»، قبلها بقليل كانت الشاعرة الدكتورة زينب لعوج أيضاً قد نشرت قصيدة طويلة أيضاً تحت عنوان: «حيزية وقلبي وأشعار دم». وهكذا عالج عز الدين المناصرة تطرف الغزالي وضغينته، بتطرف آخر هو الحب العظيم: حيزية. لا يمكن رؤية تجربته في الجزائر إلا داخل هذه الثنائية: الضغينة والحب. في ربيع 2000 وجهت له جامعة قسنطينة دعوة شخصية، حيث تمّ تكريمه بما يستحقه. وفي 2004 كرمته الجاحظية من خلال مثقفيها أحسن تكريم، وكان سعيداً جداً.