ثقافة التسامح: مباحث البيئة والحيثيات
د. محمد جواد فارس
طبيب وكاتب
“ربما لا يقضي السفر على التعصّب، لكنّه يُبيّن أنّ كل الشعوب تبكي وتضحك وتأكل و تموت، ويظهر أنّنا لو حاولنا فهم الآخرين لربّما نصبح أصدقاء”.
مايا أنجيلو
شاعرة وكاتبة أميركية
صدر مؤخراً كتاب جديد للدكتور عبد الحسين شعبان بعنوان “في الحاجة إلى التسامح” وهو الكتاب الثالث له بخصوص ثقافة التسامح، وقد وضع عنواناً فرعيّاً دالّاً له، وهو الموسوم ” ثقافة القطيعة وثقافة التواصل” ، وقد كان كتابه الأول بعنوان “سؤال التسامح”، وقد صدر في عمّان عن مركز عمّان لدراسات حقوق الإنسان، ثم نشر كتاباً تأسيسيّاً مهمّاً تناوله العديد من النقّاد، وهو ” فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي: الثقافة والدولة” ، وقد صدر في بيروت العام 2005، عن دار النهار وقدّم له المطران جورج خضر. ولعلّ المفكّر شعبان من العراقيين الأوائل في جيلنا من الذين انشغلوا بقضايا التسامح والّلاعنف وحقوق الإنسان حسبما تعكس ذلك سيرته الذاتية، وقد نظّم في لندن، في أواسط التسعينات مؤتمراً كبيراً عن “التسامح والنخب العربية”.
لقد أصبح التسامح الآن، حاجة ماسّة وضرورية لجميع شعوب المعمورة، لأن البشرية عانت من الحروب خلال القرون الماضية، وأُزهقت أرواح ملايين البشر في الحربين العالميتين الأولى والثانية، إضافة إلى الحروب الإقليمية والنزاعات الأهلية والصراعات الإثنية والعرقية والدينية والطائفية وغيرها، ولعبت الامبريالية والفاشية والنازية دوراً كبيرا في تأجيج الصراعات وإشعال الحروب، بهدف الهيمنة على ثروات الشعوب والتحكّم بمقدراتها واستغلالها، وتشغيل الرأسمال في إنتاج الأسلحة الفتاكة بكل أنواعها، بما فيها أسلحة الدمار الشامل ومنها القنبلة الذرية التي استخدمتها الولايات المتحدة الأمريكية بضرب مدينتي هيروشيما وناكازاكي في اليابان، دون رحمة أو حدّ أدنى من الإنسانيّة.
إنّ إصرار شعبان على نشر ثقافة التسامح وتعميمها ينطلق من معيار إنساني أولاً وقبل كل شيء، لأنّه أدرك أنّ العنف واللاتسامح هما نتاج للتعصّب والتطّرف، لا يمكنهما تحقيق التنمية واحترام حقوق الإنسان، لذلك حاول بفكره النيّر ومنذ عقود، أن يُتحفنا بالجديد من الأفكار التي تلتقي مع قضايا حقوق الإنسان حيث يحاول أن يؤطرها بوجهة نظر قانونية، فهو رجل القانون ويُدرك ما للقانون من أهمية خصوصاً حين يربطه بوجهات النظر السياسية والاجتماعية التقدّمية في الدفاع عن حقوق الشعوب والأوطان، فيطرح المتقدّمة من وجهات النظر لحل القضايا الآنيّة ويناقشها بشكل هادئ وموضوعي وتحليلي معتمداً على أفكار الفلاسفة والعلماء الأقدمين ،من أمثال أرسطو وأفلاطون وهيغل وفيورباخ وماركس وأنجلس وآخرين، وما كتابه الأخير إلّا استكمال لتوجهه في هذا الميدان الذي يكبر فيه رصيده.
ويحتوي الكتاب على عدد من المباحث وهي : عوضا عن المقدمة التي يضعنا فيها بأسباب اختيار الموضوع وحيثياته وراهنيته، لينتقل إلى فقرة جديدة بعنوان: “لماذا نحتاج إلى التسامح؟” وماذا أصل التسامح وما هي بيئة التسامح، وهذا كلّه في القسم الأول، وفي القسم الثاني يتناول التسامح والعنف، ليبحث في سؤال مهمّ: هل كان التسامح وراء اغتيال غاندي؟، ثمّ ماذا تعني بذرة الّلاتسامح هنديا ؟ وفي القسم الثالث يدرس معنى التسامح و مبناه، ثم يتوقّف عند فلسفة التسامح ورسالته، ويسلّط الضوء على مرجعية إعلان مبادئ التسامح، أما القسم الرابع فيُخصّصه لثقافة التسامح والواقع العربي – الإسلامي، ويقدّم فيه:
1- قراءة راهنية
2- فرضيات التسامح
3- روافع التسامح .
ويتضمّن الكتاب 4 ملاحق:
ملحق رقم 1:إعلان مبادئ التسامح
ملحق رقم 2: إعلان حقوق “الأقليات”.
ملحق رقم 3: إعلان حقوق الشعوب الأصلية
ملحق رقم 4: مقدمة المطران جورج خضر لكتاب (فقه التسامح في الفكر العربي – الإسلامي).
وقد ركّز د. شعبان في أصل التسامح عن استخدام المصطلح التسامح منذ القرن السادس عشر حيث كان أقرب إلى المفهوم السياسي والأخلاقي والسلوكي إزاء الآخر من المذاهب الدينية الأخرى، في حين أنّ استخدامه كمفهوم قانوني بدأ بعد إصدار بعض الحكومات الأوربية مراسيم تدعو إلى التسامح في القرنين السادس والسابع عشر. ويستطرد بقوله: “وإذا كانت الدعوة إلى التسامح قد كثر رصيدها ، خصوصا بعد التوتر الذي حصل في العلاقات الدولية في العقدين الماضيين واندلاع حروب وتفجر نزاعات ، إلا أنّ غزو أفغانستان العام 2001 واحتلال العراق العام 2003،إضافة إلى أحداث 11 أيلول عاظم من الشعور بالخطر، خصوصا من جانب الفريقين المتناحرين”.
ويضيف شعبان: التسامح يعني أيضا إتخاذ موقف إيجابي فيه إقرار بحق الآخرين في التمتع بحقوق الإنسان و حرياته الأساسية المعترف بها عالميا. و يستدرك بقوله: للأسف الشديد لا يزال المسلمون المؤدلجون أو الإسلاميون أو المتأسلمون يقفون في الخندق المعاكس لمثل هذا الفهم الخاطئ بفهم خاطئ آخر، فمنهم من يعلّق كل شيء على الغرب الاستعماري، و إن كان هذا الغرب يتحمل مسؤولية أساسية ، لكنه ليس وحده المسؤول ، وعلينا الاعتراف أننا غير متصالحين مع تاريخنا الإيجابي منه أو السلبي… ولا يزال التيار الديني المتأسلم يريد توظيفه لمصالحه الأنانيّة، التي في الغالب هي مصالح إقصائية وتسلطية، وخصوصاً عدم الاعتراف بالآخر، فما هو إيجابي من فقه التسامح وقيم الإسلام السمحاء يتمّ غضّ النظر عنها، علماً بأنه يتمّ تجاوز الجانب المشرق من التاريخ الإسلامي المنسجم مع روح القران والسنة النبوية ذات القيم الإنسانية التي تتجاوز الزمان و المكان، وعكس ذلك صحيح أيضا فبعض الأحكام التي عفا عليها الزمن وأصبحت من تراث الماضي، يتمّ استحضارها باعتبارها أحكاماً راهنة وليست ماضوية لم تعد تصلح لعصرنا. وعلى غلاف الكتاب كتب المطران جورج خضر مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان) للروم الأرثوذكس تقييماً لكاتبنا المبدع عبد الحسين شعبان عن كتابه يقول فيه: يقيم الدكتور عبد الحسين شعبان في الإسلام إقامة المؤمن وإقامة المؤرخ، وهو لا (يخترع) إسلامه ولا يبتدع ولا (يعصرن) القرآن ولا يسقط عليه أفهو مات ليست منه ، بل يأخذ نفسه بما فيها من حداثة إليه . ما يريحك في مبحث فقه التسامح الإسلامي أن تجد كاتباً هو إياه، أي باحثا أكاديميا و عالما في القانون الدولي و العلاقات الدولية و حقوق الإنسان والإسلام … حرّاً كليّاً من المواقف التبريرية أو الإعتذارية… لا يخشى على الإسلام شيء، إنّه يسكن إليه أو يسافر فيه… فـ (الإسلام) ليس بيتاً من زجاج، والدين ليس سجلاً عقارياً يدلك على ما هو لك وحدك، فإذا كانت الحقيقة التي ورثتها قريبة كما أنا ورثت فنحن واحد.
ويضيف المطران خضر: لقد أفرحني شعبان وكأنّ مسيحيّاً كان واقفا وراءه ليعرف عدله… فليتكرّم ويعتبرني هذا المسيحي، الذي اغتبط بما ورد في هذا السفر ودعا لوريث (الحسين) بكرم الله والعافية. انتهى الاقتباس.
وأخيرا أدعو جميع المشتغلين بالحقل العام والمجتمع المدني بشكل خاص ولمن يهمّه معرفة المزيد مما جاء في هذا الكتاب القيّم أن يطّلع عليه لما فيه من معلومات تأصيليّة وخلفية فكرية رصية، وأتمنى للصديق شعبان المزيد من العطاء .