كيف لبغداد لم تستسلم أن تسقط؟
هل سقطت بغداد، فعلا، يوم التاسع من نيسان/ إبريل 2003؟ وما معنى السقوط؟ للفعل « سقط» ومصادره عشرات المعاني التي تمتد من المكان الى الإنسان. سقَطتِ المدينةُ : تم احتلالها من العدو. سقَط الشَّيءُ من كذا : وقَع من أعلى إلى أسفل. سَقَطُ المتاع: ما لا خير فيه من كلِّ شيء. السَّقْطُ :السَّاقِطُ من الناس، لئيم، حقير. أسقاط النَّاس: أوباشهم وأسافلهم. أي تعريف ينطبق على بغداد؟ بغداد المدينة، بغداد العاصمة؟ لماذا سقوط بغداد وليس الاستسلام أو الدحر أو الهزيمة أو الاستيلاء أو الانتصار عليها؟
هل هو المكان أم الإنسان؟
من يبحث عن «سقوط بغداد» سيجد ثلاث صفحات من تاريخ يقودهم الى ما هو أقدم وأعرق، الى موقع ومدينة وعاصمة، لكل واحد منها خصوصيته المذهلة، وتماهيه مع العالم في آن واحد. لأنه، على خصوصيته لم يكن استثناء بل امتدادا لحضارة إنسانية تتجه الى الأمام لولا «السقوط».
في الصفحة الاولى، دخل القائد المغولي هولاكو خان، حفيد جنكيز خان، بغداد عام 1258، منتصرا، فنهبها وهدم مبانيها التي كانت آية من آيات الفن الإسلامي وحرق كتبها. فتك بأهلها فلم يبق غير القليل. وكانت أعظم الأعمال التهديمية التي ارتكبت هي تخريب البنية التحتية كالسدود ونواظم الإسقاء. أليس هذا ما يفعله الغزاة حين يدخلون مدنا يعرفون جيدا انهم لا يستطيعون إزالتها، كما رأينا، بأنفسنا، في العصر الحديث؟
كانت بغداد عاصمة الدولة العباسية ورمزالإمبراطورية الإسلامية. أرادها الغزاة ان تبقى خربة، ضعيفة، متهالكة لتكون عبرة لمن قد يفكر بمقاومتهم. فكانت بغداد بوابة السقوط لما تلاها. لتأجيل الحياة والاكتفاء بالبقاء.
في الصفحة الثانية، عاشت بغداد بين كانون الأول/ ديسمبر 1916 و آذار/ مارس 2017، صراعا دمويا للاستحواذ عليها. كانت جزءا من الامبراطورية العثمانية المحتضرة التي يتنافس على استيراثها الانكليز. فكان القتال المرير على الارض العراقية وكان «سقوط» بغداد غنيمة غزاة جدد. وكان العراقيون، كما بقية العرب، الذين عاشوا في ظل الامبراطورية العثمانية، يظنون أن التعاون مع قوات التحالف ومن بينهم الانكليز، والتخلص من العثمانيين، سيمنحهم الاستقلال. فكان الترحيب الاولي بالحاكم الانكليزي الذي كان قد أدرك ضرورة دغدغة روح المرحبين وتطلعاتهم، فأصدر الجنرال مود بيانا خاطبهم فيه قائلا : «لم تأت جيوشنا إلى مدينتكم وأرضكم كغزاة أو أعداء ولكن كمحررين». ولم يطل الوقت لتزول اوهام من بنوا الآمال على المحتل الجديد. فأجبروا على الانضمام الى ثورة الشعب حين وضع العراق تحت الانتداب واعتمد البريطانيون تدابير لحماية مصالحهم فاندلعت الثورة العراقية الكبرى أو ثورة العشرين، عام 1920.
بغداد الموسومة بأنها الأكثر قذارة في العالم على الرغم من ثروة البلد الهائلة، بغداد التي يجوب الموت شوارعها متمثلا بميليشيات ومرتزقة ولصوص يتحكمون ببرلمان ينطق باسمهم
وجلبت لنا صفحة التاريخ الثالثة تكرارا يجمع في ممارساته ما بين المغول والبريطانيين. ليعيد تاريخ الغزاة نفسه كما هو وحشيا، مدمرا، مستغلا، مع بعض التجميل الطفيف . فكان يوم 9 نيسان/ أبريل 2003. ومثل كل احتلال، سبق الدخول الى بغداد عقود من التهيئة. ولكن بشكل تحديثي. فكانت خطة الطريق لاحتلال بغداد، سياسية ـ إعلامية، منسوجة بالاكاذيب وحصار اقتصادي انهك الناس وجعل أولوية التفكير محصورة بالحصول على الاولويات. ومثل الغزو الاول والثاني، تبرع عراقيون بمساعدة الغزاة. خلطوا بين التخلص من نظام عارضوه واحتلال الوطن. فشرعنوا الغزو وقتل الأهل واحتفلوا بسماع صراخ الضحايا واصفين اياه بانه موسيقى. وتطلب منهم اقناع الناس باحتلال بغداد، عاصمة العراق الأبي، ان يحتالوا حتى على انفسهم، مخاطبين الشعب بأن الاحتلال هو الطريق الوحيد الى الحرية، وديمقراطية المحتل هي النموذج الذي يجب ان يُحتذى إذا أرادوا أن يتجاوزوا تخلفهم ليكونوا حضاريين. فكان تهديم المباني ونهب المتاحف وحرق الوثائق.
وكانت الاعتقالات الجماعية. وكان التعذيب في أبو غريب والمساواة بين النساء والرجال اغتصابا. وكان استهداف المدنيين قتلا تسلية للمحتلين حين يشعرون بالضجر. وكان التقسيم الطائفي والعرقي، وصار صباح بغداد جثثا مرمية في الشوارع. وشُرعت ابواب الوطن لكل من يستبيح كرامه أهله، احتقارا واستهانة. والمواطن المنغمر بالخوف من الآخر. ولايزال مستخدمو الاحتلال يقتاتون، على أكذوبة تحرير العراقي من الخوف.
واذا كانت اعوام الاحتلال قد هدمت الكثير، الا انها لم تنجح وبعد مرور 18 عاما، في دفع العراق الى الاستسلام والقبول بالخضوع عنوانا للحياة. فبقي الغزاة غزاة والاحتلال احتلالا. ولم تنهر بغداد او تستسلم، لا «رسميا» ولا شعبيا. بل بقيت عزيزة النفس، مقاومة. أطلقت طلقتها الاولى برأس المحتل في اليوم الاول للاحتلال. وكان يوم 10 نيسان/ أبريل نقطة انطلاق المقاومة العراقية من بغداد الى بقية المدن. من الموصل وكربلاء والنجف الى الفلوجة. ضد قوات غزو بلغ عددها 147 ألف أمريكي و 15 ألف بريطاني، مدججين بأحدث الأسلحة والتقنيات العسكرية وتغطية اعلامية بملايين الدولارات. ولم تسقط بغداد.
هذه المدينة التي تصفها منظمات الرصد بأنها مركز حكومة من بين الأكثر فسادا في العالم، حيث يشرب سكانها، يوميا، مياه غير صالحة للشرب وناقلة للأمراض الخطيرة وحتى الموت. بغداد الموسومة بأنها الأكثر قذارة في العالم على الرغم من ثروة البلد الهائلة، بغداد التي يجوب الموت شوارعها متمثلا بميليشيات ومرتزقة ولصوص يتحكمون ببرلمان ينطق باسمهم. هذه البغداد لم تتوقف يوما عن اثارة دهشة العالم بمقاومتها للخنوع والانحناء امام الغزاة والمستبدين. تدهش العالم بنهوضها المرة تلو المرة. تنبع من بين أحجار شوارعها ودرابينها أزهار لاتقل نضارة عن زهور هيروشيما بعد رشها بالسلاح النووي الأمريكي.
ولم تسقط بغداد. رفعت رأسها عاليا، في قلبها النابض، في ساحة التحرير. عام 2011 وتلتها انتفاضة تشرين / أكتوبر في 2019. توسع قلب المدينة، سرت دماؤه في شرايين المدن فتكاثرت ساحات التحرير. من البصرة والناصرية الى الكوت وبابل. يقيم فيها مواطنون يطالبون بوطن ( هل سمعتم قبل هذا بمواطنين يطالبون بوطن؟). فبلغت تكلفة الوطن للسنة الواحدة 600 شهيد و مئات الآف الجرحى وآلاف المعاقين. ثم يأتي من يقول لك أن الاحتلال كان تحريرا أو تغييرا وان بغداد سقطت. أيمكن لـ«بغدادُ المحروسةُ بالاسمِ الأعظمِ: بغداد» كما يصفها سعدي يوسف، أن تسقط؟
كاتبة من العراق