كاظم حبيب
رؤية سياسية للمناقشة
الحلقة الثالثة والأخيرة: سبل وآليات المعالجة الجذرية لهذه المشكلات والتحديات
شارك المئات من الكتاب والسياسيين والإعلاميين والأدباء والفنانين العراقيين وبعض القوى والأحزاب السياسية ونقابات ومنظمات المجتمع المدني العراقية، لاسيما منظمات حقوق الإنسان والمرأة والعمال والشبيبة والطلبة، وكثرة من مراكز البحث العلمي على الصعيدين العربي والدولي، وعلى مدى السنوات المنصرمة، بتوجيه النصح والنقد الشديد والمباشر للنهج غير الوطني وللسياسات السيئة التي مورست في العراق منذ إسقاط الدكتاتورية الغاشمة عام 2003، التي ما تزال سارية حتى الآن، وطالبت بإلحاح إصلاح الأوضاع وتغيير تلك السياسات بما يخدم مصالح الشعب ويستجيب لإرادته الحرة ويسهم في استعادة استقلال وسيادة العراق. لم تجد تلك النداءات والمطالبات أذاناً صاغية من جانب كل الأحزاب ونخبها الحاكمة، بل كان إصرارها على النهج ذاته صارخاً ومعيباً ومؤذياً.
أجبر هذا الموقف المتعنت جماعات كبيرة من بنات وأبناء الشعب في مختلف محافظات البلاد إلى ممارسة التجمعات الاحتجاجية والإضرابات والتظاهرات والاعتصامات في ميادين وساحات العراق وأمام الوزارات ومراكز المحافظات، لكنها لم تنفع مع الحكام الطائفيين والفاسدين، بل جوبهت تلك المطالب منذ العام 2011 بشكل خاص، بتوجيه الاتهامات الوقحة إلى المتظاهرين بأنهم إما أنهم بعثيون أو عملاء لقوى أجنبية أو إرهابيون. ثم استخدموا العصا “الحديد والنار” في مواجهة المطالب العادلة والمشروعة، سواء اكانوا من العمال أو الطلبة أو الخريجين والعاطلين عن العمل والساعين للحصول على فرص عمل، وكذلك المطالبين بالكهرباء والماء وغيرها من الخدمات، أو المحتجين ضد الفساد والنهب الصارخ للمال العام، حتى انتشر شعار “باسم الدين باگونه (سرقونا) الحرامية”، والمقصود بالحرامية هنا “قيادات الأحزاب الحاكمة والمسؤولين الكبار في الدولة العراقية. وقد سقط كثير من القتلى والجرحى والمعوقين في مختلف محافظات العراق، لاسيما في محافظات الغربية وبغداد والوسط والجنوب، كما حصلت احتجاجات وتظاهرات في محافظات إقليم كردستان العراق أيضاً، لاسيما في السليمانية.
حين أدركت نسبة مهمة من شبيبة العراق، لاسيما في تلك المحافظات التي تشكل الأحزاب الإسلامية الطائفية الشيعية قيادة الحكم في البلاد، وأعني بها محافظات بغداد والوسط والجنوب بأن القوى الحاكمة تتاجر بالدين والمذهب وتسيء حتى للحوزة الشيعية التي تؤيدها، وأنها كاذبة ولا تريد أجراء أي إصلاح للوضع بل تعمل بإصرار على مواصلة النهج الخائب ذاته والمدمر للاقتصاد الوطني وحياة الغالبية العظمى من الشعب، انتفضت شبيبة هذه المحافظات بعزيمة صادقة وشهامة رائعة ووعي جديد دفاعاً عن حق الشعب في الإصلاح والتغيير. وكانت هذه الانتفاضة رغم حصولها في محافظات بغداد والجنوب والوسط، إلا إنها كانت الناطقة الفعلية والمعبرة عن إرادة ومصالح ورغبات أبناء وبنات جميع محافظات العراق دون استثناء، إذ كلها كانت تعاني من جبروت وجور وظلم الحكام.
وكانت الشرارة التي فجرت انتفاضة الشبيبة تفريق تجمع الخريجين والخريجات المطالب بفرص عمل أمام مقر رئيس الوزراء عادل عبد المهدي بالعنف المفرط واستخدام خراطيم المياه والهراوات ومن ثم الرصاص المطاطي والحي. وإذ كانت المطالب الأولى مهنية، فأن سلوك القوى الحاكمة الهمجي دفع بقوى الانتفاضة إلى تطوير وتوسيع مطالبها إلى مطالب سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وأمنية وبيئة. لقد توسعت قاعدة الانتفاضة وعدد المشاركين فيها واشتد زخمها. فقوبلت بالحديد والنار وبقسوة بالغة ليس من القوات المسلحة العراقية وأجهزة الشرطة والأمن فحسب، بل، وبشكل خاص، من الميليشيات الطائفية المسلحة العراقية التابعة لإيران، والتي يطلق عليها بالولائية، أي الولاء لمرشد إيران على خامنئي وأهدافه ومشاريعه الاحتوائية والاستعمارية للعراق وشعبه. فسقط ما يزيد عن 700 شهيد من قوى الانتفاضة وما يقرب من 25000 جريح ومعوق خلال أكثر من عام من عمر الانتفاضة التشرينية (الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2019)، ولكن الانتفاضة التي أسقطت حكومة عادل عبد المهدي، لم تستطع تحقيق التغيير المنشود، بل فرض توزان القوى تشكيل حكومة جديدة بموافقة “أحزاب البيت الشيعي” وشروطه في عدم إجراء أي إصلاح فعلي أو تغيير في الوضع القائم أولاً، وموافقتها على إجراء انتخابات مبكرة دون الاستجابة لمطالب قوى الانتفاضة والتغيير ثانياً. وهذا هو ما يحصل في البلاد منذ عام تقريباً مع حكومة مصطفى الكاظمي!
لديَّ القناعة، من خلال الوقائع الجارية، بأن الأحزاب الحاكمة في البلاد كلها دون استثناء لا تريد تحقيق خمس مسائل جوهرية، هي:
- تغيير النظام السياسي الطائفي المحاصصي القائم وما صدر عنه وعن مجلس النواب من قوانين ونظم وإجراءات تتعارض مع الدستور ومبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، بما في ذلك قانون الانتخابات وبنية مفوضية الانتخابات وشرعنة الفساد ونهب الدولة من الباطن؛
- عدم حل الحشد الشعبي والميليشيات الطائفية المسلحة والسلاح المنفلت والمكاتب الاقتصادية الفاسدة، إذ كلها تعتبر القوة الموازية للقوات المسلحة والمهيمنة على سياسة الدولة بسلطاتها الثلاث وتوابعها؛
- مواجهة مطالب قوى الانتفاضة بالرفض، لاسيما محاسبة الفاسدين الكبار وقتلة المتظاهرين وجرحاهم، وتنشيط أجهزة الدولة والميليشيات المسلحة لمنع أو التساهل مع أي نشاط احتجاجي مناهض للنظام القائم؛
- التأثير المباشر على سياسة العراق الخارجية وتعزيز علاقة التبعية لإيران في مختلف المجالات، وإضعاف أي توجه صوب علاقات اعتيادية مع الدول العربية، إضافة إلى إنهاء العلاقة مع الولايات المتحدة والتحالف الدولي وإخراج مستشاريها حتى قبل التخلص من عصابات داعش ليخلو الو لها في كبت الشعب وقمعه؛
- التخلي الفعلي عن أي جهد صوب عملية التنمية الاقتصادية المطلوبة، لاسيما في قطاعي الصناعة والزراعة، ليبقى اقتصاد العراق ريعياً سوقاً للسلع الإيرانية، وإقليم كردستان العراق سوقاً لها ولتركيا أيضاً.
كل هذه الأهداف غير الوطنية تتعارض كلية مع أهداف القوى المدنية الديمقراطية وقوى الانتفاضة الشبابية فما العمل؟ إن المشكلة التي تواجه القوى الديمقراطية وقوى الانتفاضة تبرز في استمرار وجود اختلال في ميزان القوى الراهن بين القوى الرافضة للتغيير وتلك التي تسعى إليه، علماً بأن سياسات النظام القائم تسهم في فضح جميع أوراقه وتعريته وتغيير مواقف المزيد من بنات وأبناء الشعب لصالح قوى التغيير. اعتقد جازماً بأن أي تصور بأن الفئات الحاكمة ستسمح بأي إصلاح ولو يسير، حتى عبر الانتخابات القادمة، ليس سوى الوهم ذاته، إنه وهم كبير ومخل وقاتل في العمل السياسي الجاري. وبالتالي فأن ما ينبغي القيام به هو العمل المتواصل لتعبئة الناس في النضال اليومي منذ الآن لاستعادة الثقة بالنفس والتعبير عنها بواسطة:
** المزيد من الحركات الاحتجاجية والإضرابات المهنية في المعامل والمؤسسات وقطاع الخدمات وفي المدارس والكليات والجامعات والمعاهد المهنية والفنية ومنظمات المجتمع المدني، لاسيما الشبيبة والطلبة والمرأة المطالبة بتغيير أوضاعها مع ربطها العضوي بالقضايا العامة الوطنية.
** العودة إلى الاعتصامات وفي الساحات العامة وفي شعارات الانتفاضة المركزية “نازل أخذ حقي” و “أريد وطن”، وهما شعاران مملوءان بالمطالب الفرعية والأساسية الكبيرة على المستوى الداخلي والإقليمي والدولي. وبالملموس المطالب بمحاسبة الفاسدين الكبار وقتلة المتظاهرين وحل الميليشيات الطائفية المسلحة ونزع سلاحها وجمع السلاح المنفلت لدى العشائر والأفراد.. إلخ.
** العمل على تحريك ليس شبيبة محافظات السوط والجنوب وبغداد فحسب، بل وجميع المحافظات الأخرى دون استثناء، إذ أن العراق كله يعاني من واقع مرير لا بد من تغييره، وهذا يعني لا بد من بلورة أكثر للمطالب الخاص بالمحافظات الأخرى التي تعاني من ذات المشكلات.
** العمل على تحريك ليس الشبيبة العراقية فحسب، بل وجميع فئات الشعب من الفئات الفقيرة والمعوزة والقوى العاطلة عن العمل والعمال والبرجوازية الصغيرة من كسبة وحرفيين وصغار موظفي الدولة وفئات الفلاحين التي تعاني من مشاكل جمة، والبرجوازية الصناعية التي توجه صداً لها ومنعاً لتحقيق توظيفات في القطاع الصناعي الخاص، وكذلك القطاع العام. أي كل الفئات التي لها مصلحة في التغيير الجذري المنشود.
** والهدف من هذا الحراك العام والواسع والمتطور هو عودة الانتفاضة الشعبية السلمية إلى ساحات وشوارع المدن العراقية بما يسهم في تغيير ميزان القوى ويفرض التغيير الجذري في السلطة التنفيذية وفي القوانين التي يفترض وضعها والسياسات التي يستوجب الالتزام بها.
** ولتحقيق ذلك لا بد من العمل لـ “بناء جبهة شعبية وطنية واسعة” للقوى المدنية الديمقراطية، بما فيها القوى اليسارية والقوى المؤمنة بحياد الدولة إزاء الديانات والمذاهب وأتباعها، وقوى الانتفاضة الشبابية التي اكتسبت خبرة نضالية مهمة خلال الفترة المنصرمة. لا يكفي الدعوة المستمرة إلى ذلك، بل يستوجب أن يكون التوجه ملموساً ومباشراً من خلال عقد لقاء بين مجموعة من قادة الحركة الديمقراطية العراقية وقادة الانتفاضة الشبابية في مختلف المحافظات لوضع أسس العمل المشترك وبرنامج النضال اليومي وهدفه المشترك في تحقيق التغيير الجذري المنشود في البلاد.
لديَّ القناعة بأن جميع القوى الراغبة في التغيير أدركت أسباب عجزها عن تحقيق أهداف الانتفاضة الكبيرة، وأنها لا تستطيع بمفردها دون الأحزاب السياسية الساعية للتغيير أولاً ودون الدفع باتجاه مشاركة المزيد من فئات الشعب في المعركة، ودون وجود قيادة موحدة للانتفاضة الشعبية وبرنامج عمل متفق عليه، وهو الدرس الأرأس والأهم في مسيرة انتفاضة 2019 والتي لا يجوز نسيانها أو تناسيها.
ولا أشك بإن أي تطور في قوى الانتفاضة الشعبية سيقابل من جانب الحكام الفاسدين بمزيد من العسف والتجبر والقتل، ولكن ستكون في الوقت ذاته النهاية الفعلية لهذه القوى، وهي التي ستفرض طبيعة المعركة التي ينبغي على الشعب خوضها، وربما ستقرر قوى أخرى من قوى الشعب، وأعني بذلك القوات المسلحة، الانحياز إلى الشعب ورفض الاعتداء عليه أو مواجهة صارمة للميليشيات الطائفية المسلحة التي تقوم بضرب الانتفاضة وتعمل على إنهائها.