الصـحة والأمــان
عبد الحسين شعبان
“أفضل دفاع نملكه في وجه أي فاشية هو متانة النظام الصحي، وقد أظهرت جائحة كوفيد 19 مدى ضعف العديد من النظم والخدمات الصحية حول العالم، ممّا أرغم البلدان على إتّخاذ خيارات صعبة بشأن السبل الأفضل لتلبية احتياجات شعوبها” ، هذا ما قاله “تيدروس أدهانوم غيبريسوس” المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، التي تأسست في العام 1948، وإذْ نستعيد ذلك بمناسبة الإحتفال بيوم الصحة العالمي، فإنّ لهذا القول المسؤول دلائل عديدة وأبعاد مختلفة، فلم يسبق لمليارات البشر منذ سبعة عقود ونيّف من الزمان أن يتعرّضوا إلى اجتياح وباء لئيم ومارق مثل الذي حصل، حين داهم كوكبنا، على حين غرّة، ومن دون سابق إنذار فايروس كورونا الذي حصد أرواح مليونين ونصف المليون إنسان، ونغّص علينا حياتنا إلى درجة الهلع الذي لم يسبق له أن واجهنا، وما زال شبح هذا الوحش الكاسر يطاردنا حتى اللحظة.
وإذا كانت الصحة “حقّ أساسي من حقوق الإنسان“، وردت في المادة 25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وجاء ذكرها في المادة 12 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية التي نصّت على “حق كل إنسان في التمتّع بأعلى مستوى من الصحة الجسمانية والعقلية يُمكن بلوغه”، فإنّ هذا الحقّ جرى تهديده جماعيّاً في العام 2020 بكامله، وما يزال هذا التهديد مستمرّاً.
ولعلّ الاحتفال بيوم الصحة العالمي (نيسان/أبريل) هذا العام، له معانٍ عديدة، فالقصد الأول منه هو لفت الانتباه إلى مخاطر الوباء وتداعياته والأنواع المتحورة من الفايروس، وضرورة وأهمية الوقاية منه، واتّباع الوسائل الصحية الضرورية، بما فيها عدم الاختلاط والحفاظ على التباعد الاجتماعي تحاشياً من الإصابة به، ناهيك عن تأمين اللقاح لكل من يحتاجه.
ويستدعي هذا إعلاء شأن القيم الإنسانية المشتركة، فالخطر الذي واجهته البشرية ، لا يخصّ هذه الدولة أو تلك أو هذه الفئة الاجتماعية أو تلك، وإنّما يشمل العالم أجمع، وما لم تتضافر الجهود العالمية للتخلّص منه، فإنّه سيستمرّ في حصد المزيد من أرواح الملايين من البشر وتسميم حياتهم اليومية، إضافة إلى تأثيراته السلبية على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، لا سيّما ما يتركه الحَجْر المنزلي والبِطالة ومضار التعليم عن بُعد والعزلة الشخصية.
وإذا كان مثل هذا الأمر يشمل البلدان الصناعية والمتطوّرة والغنيّة، فما بالك بالدول النامية والمتخلّفة والفقيرة؟ ومنها العديد من بلداننا العربية التي تعيش حروباً ونزاعات أهلية وصراعات دموية، حيث ارتفعت نسبة الفقر وازدادت نسبة الفقراء، وانتقلت أوساطاً واسعة من أصحاب الدخل المحدود إلى خانة المُعدمين بمن فيهم من الطبقة الوسطى، لا سيّما الذين يكسبون قوتهم اليومي، حيث وجدوا أنفسهم بلا فرص عمل أو مورد أو حدّ أدنى من توفير مستلزمات الحياة ولقمة العيش، في ظلّ استمرار الجائحة ومداهمة المرض.
وينصبّ مغزى الاحتفال على الجانب الإنساني في إطار التضامن والتعاون والتكافل والتراحم، خصوصاً وأنّ الجميع يعانون من أوضاع نفسية وصحية قاسية، وهو ما يستدعي أقصى درجات الشراكة والمشاركة والمساواة والعدالة بين جميع الأطراف، دولاً وحكومات ومنظمات دولية وإقليمية ومؤسسات دينية وجهات اجتماعية وسياسية فاعلة وغيرها، من دون تمييز لأي سبب كان والهدف هو الإنسان بوصفه “أثمن رأسمال”.
لقد شاءت الأقدار الغاشمة، أن تستمر هذه الجائحة للعام الثاني في تهديد صحة البشرية ومستقبلها في مختلف أرجاء المعمورة، وهي تمثّل بدورها تحديّاً صعباً وقاسياً لجميع المجتمعات التي تحتاج إلى تعاون وتآزر ومساعدة، وبقدر ما لها من دور وطني داخلي يخصّ كلّ دولة، فلا بدّ أيضاً من الاتفاق عليها كونيّاً لتجنيب البشرية آثار هذا الوباء الغادر، سواء بتحديد تخصيصات مالية للدول الفقيرة، وتوزيع اللقاح وتهيئة مستلزمات الوقاية، وإطفاء بؤر الحروب والنزاعات واللجوء إلى الحلول السلمية وتحويل أقيام السلاح إلى الصحة والتعليم والعلوم والتوعية، وهذا يتطلّب برنامجاً توعوياً مناسباً ومشترَكاً بعيد المدى يكون مكمّلاً للنظام الغذائي، إضافة إلى البرامج الرياضية والترفيهية لمعالجة الآثار النفسية وغير ذلك.
تبقى الصحة أعظم النعم وأجلّها ولا يدرك قيمتها إلّا من افتقدها، وقديماً قيل “الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلّا المرضى”، ولكنّنا غالباً ما ننسى ذلك ولا نلتفت إليه، في غمرة الانشغالات اليومية، إلّا حين نُصاب بالمرض أو يُصاب أحبتنا وأعزاؤنا به، فنُدرك عندئذٍ كم من التيجان فوق رؤوس الأصحاء وما أبهاها وما أجملها وما أكثرها زهواً.
وقال الشاعر قديماً:
ثلاثة يجهل مقدارها / الأمن والصحة والقوت
فلا تثق بالمال من غيرها / لو إنّه درّ وياقوت
وقال الإمام علي: “نعمتان مجهولتان: الصحة والأمان”، وهما متلازمتان، فالأمن الصحي والأمن النفسي والأمن الغذائي والأمن البيئي والأمن الثقافي والأمن الديني والأمن القانوني، جميعها جزء من الأمن الإنساني، وهو جزء لا يتجزأ من الحياة، ولا يُمكن لحياة الإنسان أن تستمرّ بصورة طبيعية حين يكون مريضاً أو مهدّداً بأمنه الشامل، وليس هناك سعادة حقيقية من دون الصحة.