محامون… ملائكة أم شياطين؟ وفي تونس: حتى أنت يا سعيّد!
يبدو أن البعض يضيق صدرهم بالفنون، فلا يقبلونها، سواء كانت جادّة أم هازلةً. ذلك ما هو حاصل هذه الأيام في المغرب، إذ ثارت ثائرة عدد ممّن أخذتهم الغيرة على مهنة المحاماة، فطفقوا يوجّهون سهام النقد نحو سلسلة كوميدية تُقدّم على القناة الأولى المغربية خلال رمضان، تحت عنوان «قهوة نص نص» بدعوى أنها تُبرز المحامين في صورة مُهينة!
وليت الأمر توقّف عند هذا النقد الانطباعي التبسيطي، بل إنّ أنباء ذكرتْ أن هيئة حقوقية مغربية عقدت العزم على مقاضاة السلسلة التلفزيونية المذكورة، بتهمة «إهانة هيئة ينظمها القانون» وأنها مهّدت لذلك بتقديم شكاية في الموضوع إلى «الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري» وهي مؤسسة رسمية مكلّفة بمراقبة فحوى التلفزيونات والإذاعات استنادا إلى القوانين المعتمدة.
نعم، هيئة حقوقية تُقاضي عملاً إبداعيًّا… هيئة اسمها «المرصد الدولي للإعلام وحقوق الإنسان»! ففي وقت كان يُفترض فيه أن تقف هذه الهيئة بجانب الإعلام وبجانب الفن، باعتبارهما مجالين مناسبين لتجسيد الحرية والحقوق، ها هي ترفع سيفها، مطالبةً بإيقاف ذلك العمل التلفزيوني وقمعه!
ماذا فعلت سلسلة «نص نص» حتى استحقّت هذا الرّجم الحقوقي؟
كلّ ما في الأمر أنها تعرض شخصية محامية بطريقة كوميدية، كما هو الشأن مع باقي الشخصيات: ربّ المقهى والعاملين فيها والزبائن… تمامًا، مثلما يحصل في كل الأعمال الكوميدية، حيث تظهر شخصيات بقالب هزلي، مُجسّدة التناقضات الموجودة في الحياة وفي مختلف المهن.
المسألة في البدء والمنتهى تتعلق بعمل إبداعي مُتخيّل؛ فهل يُعقل أن نُحاكِم الإبداع؟ وأن نُصادر حق المبدعين في ممارستهم الفنية، وفي الطريقة التي يرون بها العالم، وفي انتقادهم للواقع؟
أيّ عمل كوميدي يقدّم عادةً شخصيات من المجتمع، تنتمي لمهن مختلفة. وحين يقدّمها في قالب ساخر، فليس معنى ذلك انتقاصًا من المهن التي تُحيل عليها أو إهانةً لها. حين تظهر شخصية جزّار طماع ـ مثلا ـ فليس معنى ذلك أن كل الجزارين طمّاعون، وقِسْ على ذلك الأطباء والنجارين والفلاحين والمعلّمين والصحافيين والوزراء وهلم جرا.
وعلى حد قول زميلنا المصطفى العسري في تدوينة له: «كل مهنة فيها الغث والسمين، وليست هناك مهنة يحتكرها الملائكة، وأخرى الشياطين».
فلماذا، إذن، قامت قيامة البعض ضد سلسلة «قهوة نص نص» لمجرد أنها صوّرت محامية كشخصية مثيرة السخرية؟ هل المقصود بذلك أن المحامين، كل المحامين، معصومون من الخطأ ومن كل نقيصة؟ أم أن الحالة ينطبق عليها قول الإمام الشافعي:
«وعينُ الرِّضا عن كُلِّ عَـيْبٍ كَلِيلَةٌ… ولكنَّ عينَ السُّخطِ تُبدي الْـمَسَاوِيَا».
للممثل الفنان محمد الشوبي رأي في النازلة، دوّنه على صفحته «الفيسبوكية» قائلا: «مجتمع مريض. إذا تطرّقنا لمزرعة بيض فاسدة، يقوم كل أصحاب البيض مُندّدين؛ تطرّقنا لخبّاز يغش في المواد، يقوم كل الخبازين منددين؛ تطرّقنا لحفّاري القبور يغشّون في المساحة، يقوم كل حفاري القبور ينددون… كل المهن والوظائف والانتخابات ليس فيها إلا الشرفاء وأصحاب الذمم، إلا إذا تطرقنا للممثلين والمخرجين فلا أحد يندد!».
«التوجيهة» في الفن!
وما دمنا نتحدث عن المهن، نلاحظ أن بعض بائعي الخضار يميلون إلى ما نطلق عليه في المغرب «التوجيهة» أي إنهم يجعلون الخضار الجيدة دائمًا على واجهة الصندوق، ثم يضعون الأقل جودة أو الرديئة أسفله.
وحتى لا يغضب منا الخضّارون الذين ألهبوا أسعار مُنتجاتهم هذه الأيام بمناسبة رمضان الكريم، نقول إن سياسة «التوجيهة» أو «الواجهة» (بالعربي الفصيح) أسلوب معتمد حتى لدى السياسيين ورؤساء المجالس البلدية، إذ يقومون بتزيين مداخل المدن وشوارعها الكبرى لجعلها خادعة للعين، لكنك حين تتوغل في عمق الأحياء والتجمعات السكنية تُفاجَأ بواقع آخر، سِمتُه الإهمال والتقصير.
كما أن «التوجيهة» موجودة حتى في الفن، ومثالُ ذلك بعض الأعمال التلفزيونية التي تُعرَض خلال رمضان الحالي في المغرب. فالمُشاهد يلاحظ أن جودتها تبدأ في منحنى تنازلي بعدَ بثّ الحلقات الأولى، حيث يطغى التمطيط والرتابة والملل، ويغيب التشويق والحبكة الدرامية، ويظهر كما لو أن همّ بعض المنتجين والمخرجين وكتّاب السيناريو هو فقط الوصول إلى 30 حلقة، ولو على حساب القيمة الإبداعية.
أليس هذا نوعًا من الغش؟ علما بأننا لا نعمم ها هنا، فثمة أعمال محبوكة ومتقنة ولا مكان فيها للحشو، ولكنها قليلة للأسف الشديد.
أصلُ المشكلة، باعتقادنا، يرجع إلى الاستهانة بالسيناريو؛ إذ يبدو أنه آخر ما يُفكَّر فيه طيلة العملية الإنتاجية، وكثيرًا ما نسمع من داخل الفرق الفنية أن سيناريوهات بعض الحلقات تُكتب أثناء التصوير فقط، وتُرتجل ارتجالاً، فتكون النتيجة كارثية على مستوى البناء الدرامي والحوارات. وبالتالي، يجب الإقرار بأن ثمة أزمة تشكو منها الدراما المغربية، تتمحور حول ندرة كتّاب السيناريوهات المحترفين. مما يستدعي أن تفكر الجهات المعنية بإجراء دورات تدريبية للكتاب، من أجل التمكّن من التقنيات الضرورية. أما فحوى الأعمال الدرامية، فإن محطات المغرب التاريخية، ومكوناته التراثية والثقافي الشعبية، وبنياته الاجتماعية والسكانية والحضارية المختلفة، فهي مواد خام غنية جدًّا، تصلح لأن تكون ملهمة لكُتّاب السيناريو. هذا إذا كانت هناك نية جادة من أجل تطوير الدراما المغربية وتنمية الذوق، أما الاستمرار في الإسفاف والابتذال فلن يؤدي سوى إلى نفور المشاهد المغربي من الأعمال المحلية، حتى وإن كانت نسب المشاهدة تدّعي عكس ذلك!
زوبعة في تونس!
خصص الإعلامي التونسي صالح الأزرق حلقة الثلاثاء الماضي من برنامجه «الرأي الحر» على قناة «الحوار» لقضية النائب البرلماني راشد الخياري الذي يتهم القاطن الحالي في «قصر قرطاج» الرئيس قيس سعيّد بكونه تلقى تمويلا أمريكيا خلال حملته الانتخابية.
وطيلة الدقائق الأولى للحلقة كان الأزرق يردد أن محاولات الاتصال الهاتفي بالبرلماني المذكور جارية على قدم وساق، من أجل سماع ادعاءاته. حتى إذا استيأس المشاهدون، وظنّوا أن صوت الخياري لن يصلهم، جاءهم أخيرًا ليقول إنّ القضاء العسكري استدعاه، عوض النيابة العامة المدنية، وأنه يمكن أن يُلقى عليه القبض في أيّ لحظة، حيث سيتحول من شاهد أو مُدَّعٍ إلى مُتّهم. وفعلاً، يبدو أن ثمّة توجّهًا لتكييف التهمة التي تلفّ عنق الخياري على أنها «تخابر» مع جهة أجنبية، بهدف الإضرار بالبلاد، والإساءة إلى رئيس الجمهورية المنتخب.
الخياري ما فتئ يردد أنه يملك كل الحجج على ادعاءاته في شأن تلقي قيس سعيّد أموالاً من واشنطن، ويوضّح أنه حصل على «معلوماته» بصفته صحافيا؛ وإن كان أحد المُتّصلين ببرنامج «الرأي الحر» قال إن النائب المذكور مدوّن يبحث عن الإثارة فقط!
سفارة واشنطن في تونس نفت تلك المزاعم جملةً وتفصيلاً. ومتحدّثون في برنامج الأزرق رأوا أن الرئيس سعيّد يحاول أن يغيّر كفة الولاء من الولايات المتحدة نحو فرنسا؛ كما سخر البعض من استنجاده بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ومحاولة الاستفادة من «خبراته» مع أن الفرق كبير ـ كما أوضح صاحب البرنامج ـ بين طبيعة النظام المصري الذي يهيمن عليه العسكر، وبين النظام التونسي الذي تمارس فيه المؤسسة العسكرية عملها بكامل الاستقلالية والحياد عن رئيس الدولة.
ويبقى التساؤل مطروحًا: هل تنفع «الحذلقة اللغوية» للرئيس سعيّد في إدارة الأزمة السياسية الحالية في تونس؟
٭ كاتب من المغرب