رسالة من “شهيد”
وريقات من غصن الذاكرة
عبد الحسين شعبان
” الرفيق العزيز أبو ياسر،
رفيقي العزيز استلمت رسالتك، وسرّتني مشاعرك الصادقة نحونا، فقد عرفناك رفيقاً رائعاً، وقد ترك سفرك الإضطراري فراغاً كبيراً بيننا لا يُعوّض، وتبقى ذكرياتنا عنك مملوءة بالاعتزاز والحب والاحترام وأملنا باللقاء أكيد…”، كانت هذه مقدمة لرسالة الشهيد د. محمد البشيشي / “أبو ظفر” التي كتبها لي قبل 38 عاماً، حيث يظهر تاريخها في صدرها 12 أيلول (سبتمبر) 1983، وقد عثرت عليها صدفةً في أرشيفي قبل أيام فقط، وبُعيد حديث هاتفي مع الصديقة العزيزة بلقيس الربيعي “أم ظفر” من ستوكهولم.
شهداء أحياء أم أموات
وقد سبق محادثتها أن أرسلت لي إحدى الشخصيات اليمنية البارزة ما كتبته عن الشهيد أبو ظفر في العام 1984 في مجلّة نضال الشعب ضمن خاطرة “شهداء أحياء أم أموات” جئتُ فيها على ذكر الشهيد أبو ظفر بقولي:
“دافئ وقوي مثل نسر، مقدام حدّ الموت. عندما تتفحّص عينيه تشعر بالثقة والإطمئنان، وتلاحظ أنك أمام مشروع شهيد: حيّ أو ميّت، لإسمه رهبة الأبطال. نموذج خاص للرجال الواثقين. هاوري (رفيق) أبو ظفر، هكذا يناديه الفلاحون الأكراد وهو يحمل حقيبته الطبية (العليجة) ويجول القرى والقصبات. يعرفه الخابور ودجلة والفرات. يكتب عن الحب ويحمل صورة زوجته ورسائلها على صدره”.
وكتب لي الصديق اليمني : هذا ما استلمته من “أم ظفر” في رسالتها التي جاء فيها: أرسل إليكَ ما كتبه فلان عن الغالي أبو ظفر، فقد كان معه في كردستان. وفي وقت سابق كانت قد أرسلت لي صورة جمعتني مع أبو ظفر ومعها في الشام عند مجيئه لزيارتها قبيل استشهاده.
ولعلّ ذلك ما فتح عندي شريط الذكريات الذي تدفّق مثل شلّال، خصوصاً علاقتي مع بعض الأصدقاء من مدينة السماوة مسقط رأس أبو ظفر، وكنت قد جئتُ عليه مع العزيزة أم ظفر مستذكراً كوكبة من الأصدقاء الأعزاء.
الطبابة
استعدتُ علاقتي بالشهيد أبو ظفر الذي تعرّفت عليه في العام 1982 وتوّثقت علاقتي به في العام 1983، حين كنت نزيلاً لمدّة 10 أيام في الطبابة (المستشفى) التي كان طبيباها د. أبو ظفر (محمد البشيشي) ود. أبو كوران (نوري مال الله – من النجف) والمساعد الصيدلي أبو روزا (نجاح العمار- من الناصرية) والمستشفى هي عبارة عن غرفتين طينيتين مع ملحق تمّ بناؤها بسواعد الأنصار، وفيه بعض الأدوية الضرورية التي كنّا نحصل عليها بصعوبات بالغة، وكان الطبيبان يقومان بكل ما يتطّلبه واجبهما، وكأنّهما في مستشفى متقدّم، فلا يكتفيان بالتشخيص والعلاج فحسب، بل يضطران أحياناً إلى إجراء عمليات في غاية الصعوبة والخطورة، وبإمكانات بدائية.
وأتذكّر أنّ أحد الرفاق الأنصار (الرفيق حسين علي كزار – أبو حازم وهو من الشطرة) أجريت له عملية اضطرارية تطلّبت بتر أصابع قدميه التي أصيبت بالغنغرينا بواسطة منشار لقطع الحديد، بسبب السير على الثّلج لعدّة ساعات، وحين ذهبنا إلى العلاج في موسكو فوجئ الأطباء السوفيت بأن العملية أجريت بدون بنج (مخدّر) الذي لم يكن أصلاً متوفراً، وهكذا تمّ إنقاذ الرفيق، فأشادوا بعبقرية الطبيب الذي أجراها وببسالة المريض الذي وافق على إجرائها متحمّلاً آلاماً لا حدود لها.
مفاجأة
كنّا نقضي أماسي ممتعة على الرغم من الطبيعة القاسية والظروف الصعبة التي نعيشها، خصوصاً حالة التوتّر التي شهدتها مواقعنا عشية الهجوم الغادر الذي شنّه الإتحاد الوطني الكردستاني “أوك” على مواقعنا في بشتاشان ومواقع أخرى، وهو ما أحدث إرباكات كبيرة في صفوفنا وسبّب في هزيمتنا في ظلّ أجواء قاتمة وملتبسة، والأمر يعود إلى قلّة استعداداتنا وشحّ يقظتنا، ناهيك عن تكّدس أعداد من الأنصار دون مهمّات قتاليّة، فضلاً عن ضعف زمام المبادرة على الرغم من معرفة التحرّكات التي كانت تُبيّت ضدنا، يُضاف إلى ذلك سياسة المحاور التي انجررنا إليها، والتي اعتبرها الاتحاد الوطني الكردستاني سبباً لشنّ الهجوم علينا وتصفية الحسابات معنا بسبب الخصومة التاريخية بينه وبين عدوّه اللّدود الحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك) وهو ما اتّضح من خلال مراسلات واتصالات كشف عنها مؤخراً، أحد أبرز قيّاديه البارزين ملّا بختيار في مذكراته ، وقد تكون تلك المحاولة لإثبات جدارته باعتباره الفصيل المؤثر وصاحب السطوة في بسط نفوذه على كردستان والأكثر أهليةً للاتفاق مع النظام في بغداد، حيث كانت قد بدأت اتصالات وحوارات بينهما…
خارج دائرة السياسة
عرفت أبو ظفر قبل دائرة السياسة وخارجها أيضاً، فقد كان شخصية مرحة ومفتوحة ومتواضعة ولديه حب التلمذة والتعلّم وكان قارئاً لكل ما يقع تحت يديه من كتب، إضافة إلى ذلك كان مواظباً على حضور الفعاليات التي نقيمها في الاعلام المركزي، بما فيها برنامج البانوراما السياسية الذي قدّمناه ، وكان تجربة فكرية جديدة ورائدة على صعيد الأنصار، سواء باستضافة بعض الرفاق أو من خلال الأسئلة الفكرية والسياسية التي كان يتمّ طرحها.
بشـتاشـان
وحين اشتدّت آوار المعارك في بشتاشان، كان أبو ظفر رابط الجأش ومتماسكاً، شجاعاً وغير هيّاب، ولا سيّما خلال انسحابنا غير المنظّم، والبلبلة التي حدثت بسببه، فكان يتنقل بين الرفاق، يساعد هذا ويُقوّي معنويات ذاك، ويقدّم نصائحه الطبيّة للجميع، علماً بأنّ خسائرنا، ولا سيّما البشرية كانت تكبر باستشهاد عدد من رفاقنا ابتداءً من فجر يوم 1 – أيار/ مايو 1983، حيث تمّت مباغتتنا، وأتذكّر منهم الشهيد “شهيد عبد الرضا يحيى” (أبو يحيى) وهو سينمائي خرّيج الفنون الجميلة، وفي الأصل من مدينة العمارة (محافظة ميسان)، إضافة إلى شهداء آخرين، كما استشهد خلال الانسحاب عدد آخر من الرفاق، بسبب الطبيعة القاسية والإعياء الذي أصابهم وعدم قدرتهم على المشي فدُفنوا في الثلوج، وأتذكّر منهم سيدو خلو (أبو مكسيم – من الإيزيديين)، إضافة إلى أنّ عدداً آخر منهم استشهدوا خلال وقوعهم في الأسر.
جبل قنديل
كان علينا عبور سلسلة جبل قنديل الذي يبلغ ارتفاعه 7800 قدم من سطح الأرض وهو أعلى الجبال في كردستان وأكثرها وعورة، حيث تكسوه الثلوج طيلة أيام السنة باستثناء شهري تموز وأب (يوليو/أغسطس)، وعلى الرغم من انتصاف فصل الربيع (مطلع أيار) لكن قمم الجبال ودروبه غير المكتشفة ظلّت مغطاة بالثلوج، إضافة إلى الظلام الدامس، الذي كان يلّف ذلك الفضاء الموحش، حيث صادف أن تكون تلك الليالي غير مقمرة، وربما اختار أوك هذه المعركة الفاصلة في تلك الليالي لهذا السبب ولسبب آخر قد يكون حالة الاسترخاء التي افترضها عشية ويوم الاحتفال بالأول من أيار (عيد العمّال العالمي).
واستغرقت عملية الانسحاب ومسيرتنا المنهكة أكثر من 32 ساعة، وقد تاه البعض في الطريق، فوقع في الأسر بمن فيهم الرفيقين كريم أحمد وأحمد بانيخيلاني وأصاب القنوط والجزع البعض الآخر لدرجة التطيّر والتشاؤم، ولم يكن أمام الجميع سوى تسلّق هذا الجبل دون أدّلاء يعرفون الطريق، وقد كان القدر وحده حليفنا حين اهتدينا بصعوبة بالغة إلى الطريق الصحيحة بعد تجارب عديدة، غيّرنا فيها خط سيرنا أكثر من مرّة. وكنت في وقت سابق وقبيل انتقالنا من ناوزنك إلى بشتاشان، خريف العام 1982 كتبت إلى عامر عبد اللهّ رسالة أبلغه فيها أنّ جبل قنديل سيكون خط انسحابنا، وذلك تعقيباً على طرفة كان يرددها بقوله: … قنديل وقيل قنديلان، (خلال حضوره اجتماع ل.م. في أيلول/ سبتمبر 1982)، ولم نكن نتصوّر أن يكون لموضوع الانسحاب شيئاً من الواقع، وإذا به يصبح “واقعاً”، وهكذا أصبح الأمر الواقع “واقعاً” كما يُقال.
خريطة الدم
ولكي تكتمل الصورة، أحاول هنا أن أرسم خريطة أوليّة لتبيان حجم الهجوم الذي كان معدّاً له بعناية وتخطيط دقيقين، حيث بدأ تحرّك القوات المهاجمة من قاطع إربيل، باليسان – ورته، وهو أحد المحاور الأساسية في حين كان المحور الأكثر تأثيراً هو ناوزنك “نوكان” – رزكه ، حيث كان مقرّاً لقيادة مام جلال الطالباني، والتحرّك بجوار قمة جبل ساوين مروراً بـ أشقولكا التي استشهد لنا فيها 10 رفاق، ودُمّر فيها الفصيل التابع لنا، ومقّر قيادة الحزب الاشتراكي الكردستاني (المتحالف معنا في جبهة جود مع الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب الباسوك القومي الكردستاني)، إضافة إلى دولي شهيدان وصولاً إلى بشتاشان السفلى ثم بشتاشان العليا، والإلتفاف عبر كاسكان ، وهكذا تمّ اجتياح الإعلام المركزي والمكتب العسكري (معم)، ومقرّ المكتب السياسي، في حين ظلّ فصيل بولي بعيداً نسبياً.
وبقي خط الإنسحاب هو المنفذ الوحيد لدينا عبر طريق الطبابة – قرناقو لنتسلّق جبل قنديل الرهيب، ولم يبقَ أيّ فصيل من الفصائل التي حولنا مثل (فصيل تحت البطانية) الذي كان يسمّى تندراً، مثلما كان هناك فصيل يُدعى مزاحاً (فصيل الكويت) لعدم وجود عين ماء لديه، فيضطر الرفاق للنزول إلى حيث يوجد الماء لينقلوه إلى الفصيل، وأتذكر أنّ بينهم سلام ابراهيم كبّه، ولعلّ اختيار موقع بشتاشان كان خطأ استراتيجياً عسكريّاً من البداية، وهكذا تمّت محاصرتنا.
تجمّع عشرات الرفاق الأنصار بمن فيهم الذين عادوا من القمّة الصّخرية والقمة المخروطيّة، خصوصاً بعد تقدّم القوات المهاجمة عند الطبابة، إضافة إلى أعداد من العوائل والمرضى، وأتذكّر حالة الرفيق أبو انجيلا – ناصرية، الذي كان مصاباً بالربو الشديد وكاد أن يموت عدة مرّات خلال عملية الانسحاب لدرجة أنّه طلب أن نتركه لعدم قدرته على مواصلة السير، ولكنّه بالإرادة والتشجيع تمكّن من النهوض والإلتحاق بالمفرزة.
الإذاعـة
كان اللقاء بالرفيق يوسف سليمان بوكه (أبو عامل وهو من القوش) عند الطبابة لاستطلاع الموقف، وهو العضو القيادي الوحيد الذي بقيَ إلى اللحظة الأخيرة، وكم كان خيار الانسحاب بالنسبة له وللآخرين قاسياً، فقد كان ظهرنا مكشوفاً، ولم يكن خلفنا سوى طريق قلعة دزة – راوندوز (إربيل) وأمامنا جبل قنديل، خصوصاً بعد سقوط مواقعنا الواحد تلو الآخر أو تركها بعد مهاجمة قوّات أوك، وعند أول منعطف شبه دائري، شاهدنا شعلة متوهجة بعد حرق الإذاعة وحينها بكى عدد من الرفاق لهذا القرار الخاطئ الذي اتّخذه المكتب السياسي ضمن سلسلة أخطاء عسكرية وإدارية وسياسية متخبّطة، وعلى الرغم من اعتراض الفنيين من مهندسين وإعلاميين وشغيلة واقتراحهم بديلاً عن حرق الإذاعة إخفائها بعد تفكيكها في إحدى الشكوفتات (المغارات)، واستعادتها في وقت لاحق، لكنّ م. س. كان قد اجتمع عشيّة الهجوم وقرّر نسفها لكي لا تقع بيد القوات المهاجمة إذا ما تقدّمت نحو مواقعنا. وقد أبلغني الرفيق كريم أحمد صبيحة الهجوم بالقرار الذي اعترضت عليه طبعاً، استناداً إلى رأي الفنيين. وبعد لقائنا، انسحب الرفيق كريم أحمد بعد أن كان أعضاء م. س. وعدد من الرفاق قد انسحبوا عشية الهجوم.
ثقافة الشروال
ولعلّ هذا ما حصل حيث اضطررنا لتلك المسيرة العاثرة والتي عمّقت من الأزمة الفكرية والسياسية والتنظيمية المستفحلة في صفوفنا، وخصوصاً في الموقف من الحرب العراقية – الإيرانية والتحالفات السياسية، ناهيك عن العلاقات الداخلية، وزاد الطين بلّة حين اتجهنا للأخذ بالثأر في معركة بشتاشان الثانية، التي كانت تخطيطاً وتنفيذاً خاطئةً، لا سيّما بالتداخل مع القوّات الإيرانية التي اجتازت حاجي عمران وعبرت الحدود العراقية الإيرانية، وقد خسرنا في هذه المعركة عدداً من الشهداء، بينهم الشهيد نزار ناجي يوسف (الطالقاني) (أبو ليلى) شقيق ثمينة أرملة سلام عادل، وأثبتت الوقائع أنّ الجهل بحقائق الجغرافية السياسية والإندفاعات غير المدروسة لدرجة المغامرة والتطرّف تقود إلى كوارث حقيقية، فقد هيمن على تفكير المسؤولين روح العسكرة وثقافة الشروال والجمداني بدلاً من الثقافة المدنية التقدّمية الحداثيّة.
بطولات وشجاعة
ويهمّني أن أشير هنا إلى بعض الشخصيات التي أبدت شجاعة وبطولة وبسالة منقطعة النظير، وفي المقدمة منها الطبيب الشهم أبو ظفر، وشاب من السماوة أيضاً كان طالباً في الجامعة التكنولوجية “الصف الثالث” وترك دراسته ليلتحق بالأنصار في أواخر السبعينات، وكان هذا الشاب قد عمل فنيّاً في إذاعة “صوت الشعب العراقي” التي كانت تبثّ لمدّة ساعتين باللغة العربية مع نصف ساعة باللغة الكردية، وكان هو وفريق المهندسين من يقوم بهذه المهمة على أحسن وجه، وقد نقلوا جهاز الإذاعة من ناوزنك “نوكان” إلى بشتاشان بعد تقدّم القوات الإيرانية بالقرب من مواقعنا. وقد أصبح هذا الشاب الذي كسب احتراماً وتقديراً خاصين، المسؤول العسكري لفصيل الإعلام المركزي وإسمه الحركي “صارم” (رحيم إسويّد) وكنت حينها المستشار السياسي والمسؤول الحزبي عن منظمّة الإعلام المركزي، وقد سبق لي أن أشدتُ بمواقف العديد من الرفاق الذين أبدوا شجاعة وتفانياً ونكران ذات، بينهم الشاب سمير الذي استشهد خلال المعارك، وكان من العاملين الفنيين في الاعلام المركزي.
وقد جئتُ على ذكر صارم أكثر من مرّة وقلت أنّني أنحني لشجاعته وإقدامه ومبادراته، فقد تمكّن من إنقاذ نحو 100 رفيق خلال الانسحاب مستدلّاً على الطريق الصحيحة ببصيرته وبحزمه وجسارته مخاطباً الجميع بأن يتبعوه وأنّه سيوصلهم إلى حيث الأمان لشعوره أن ثمّة تململ وضعف لدى البعض، ولذلك اختاره الأنصار لحظة وصولهم مسؤولاً عنهم ومعه الشهيد أبو رغد “عباس مهدي من النجف” الذي تسلّل إلى الداخل واختفى كلّ أثر له، مثل عشرات غيره. وكنت قد أقنعت صارم بالذهاب إلى الدراسة الجامعية، حيث منحناه زمالة دراسية لإتمام تعليمه، وقررت اللجنة القيادية ذلك ووافق عليها المكتب السياسي، كما أنّني قدّمت مقترحاً لتقديمه إلى اللجنة القيادية للإعلام المركزي التي انضمّ إليها عشيّة الهجوم الغادر على بشتاشان، وقد سافر بالفعل وأكمل دراسته في الإتحاد السوفياتي ليتخرّج مهندساً بتفوّق مشهود له.
عاصفة ثلجية
حاول الجميع عند الانسحاب، وفي ظلّ الطقس الشديد القسوة، السير على شكل مفرزة (قافلة) أو (مفارز) مجموعات صغيرة ولكنّها متصلّة خشية من إضاعة الطريق، خصوصاً وقد ضربتنا عاصفةً ثلجيّة حتى فجر اليوم الثاني، وحيث كان عدد من المرضى والشيوخ والنساء بيننا من الذي لا يقوون على السير، فقد كانت عملية الانسحاب صعبة وخطرة في الآن ذاته لاحتمال وقوعنا أسرى بيد القوات المهاجمة، ولاحتمالات وجود كمائن على الطريق، وكانت قد خارت القوى، بسبب السير دون دالّات أو شاخصات ودون توّقف في مسيرة حزينة ومتواصلة، باستثناء استراحات لبضع دقائق ودون إشعال نار للتدفئة، خشيةً من الاستدلال على وجودنا، على الرغم من أنّ ملابسنا وأحذيتنا كانت مبتلّةً تماماً، ناهيك عن عدم توفّر أيّة مستلزمات أوليّة من أكل وشرب وما سواها.
في أحد الاستراحات إلتقينا بالرفيق عمر علي الشيخ “أبو فاروق” ومعه زوجته الرفيقة بخشان زنكنة “أم بهار” ومعهما الصديق عبد الخالق زنكنة “أبو الوليد”، وكان حينها قياديّاً في الحزب الاشتراكي الكردستاني، وكانوا قد سبقونا إلى الإنسحاب بعدّة ساعات ولم يكونوا قد عرفوا ما الذي حصل، فأخبرناهم بحجم الهجوم والإجتياح الذي تعرّضنا له والانسحاب من مواقعنا، ثمّ واصلنا السير معاً في مفرزة واحدة.
بانة وحاجي عمران
اتضّح أنّنا عبرنا الحدود العراقية وفوجئ بعضنا حين عرف أنّه في إيران، ولم تكن معالم الطريق وخريطته واضحة لنا، حيث جاء لنجدتنا بعض بيشمركة الحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك) الذي عرف بوصولنا، فنقلتنا سيارات باص كبيرة سارت بنا لنحو نصف ساعة أو أكثر لا أتذكّر، إلى قرية كانت مقرّاً لـ حدك، فدخلنا إلى مسجدٍ وفيه مساحة كبيرة حيث تمّ تقديم أرغفة خبز وصحن من الرّز، ونحن في وضع يُرثى له.
وعلمت لاحقاً أنّنا بالقرب من مدينة بانة التابعة لمحافظة كردستان (إيران)، يقابلها ناحية حاجي عمران ضمن حدود قضاء جومان الذي يبعد عن مركز مدينة إربيل 170-180 كم ويبلغ ارتفاع جبال حاجي عمران 3000 م عن مستوى سطح البحر، ويمرّ عبر طريق هاملتن الدولي الذي يبدأ من إربيل إلى معبر حاجي عمران الحدودي حتى إيران، ومن أشهر جبال قضاء جومان جبال حصاروست، وتعتبر جومان معقلاً للحركة الكردية المسلّحة التي انطلقت في أيلول/سبتمبر 1961، ويفصل العراق عن ايران تلك الجبال الشاهقة التي اضطررنا عبورها، وخلال وجودنا في تلك القرية التي فيها مقر حدك كنّا نسمع المدفعية الهادرة المتبادلة بين الطرفين.
المسـجد
أتذكر أنني حين دخلت المسجد وجدت كتاباً ففتحته فإذا به جزء عمّ، وقرأت حوالي نصف صفحة، بعدها رحت في سبات عميق، وكنت متوّرم القدمين وقرحتي في تحفّز وهياج شديدين، وتمّ إيقاظي لكي أضع شيئاً في معدتي بعد يومين من الجوع، ولكنّني لن أتمكّن من إدخال لقمة واحدة في فمي، وبدأت أتقيّأ لمجرد أنني حاولت، وبعدها لا أتذكّر شيئاً سوى أنني آويت إلى زاوية ونمت هناك ولا أدري كم من الوقت استغرقت، ولكنني حين أفقت، رأيتُ أبو ظفر واقفاً عند رأسي وبيده قدح ماء، وكان قد سألني عن الحبوب التي في جيبي، وقد جلب لي صحن لبن وملعقة، ودون أن نتبادل الحديث أخذت الدواء وتذوّقت ملعقتين من اللبن، ونمت بعدها لأستمع خلال نومي إلى شخير بأصوات مختلفة، وأنين وكلام غير مفهوم، وحين صحوت مرّة أخرى وأردت الذهاب إلى الحمام وجدت بضعة أشخاص يقاسمونني المكان، ربّما كان عددهم 5 أو 6 ، وقد حاولت أن أتذكّر ما الذي حصل ومن أتى بي إلى هنا وأين أنا الآن؟؟ ومن هم الرفاق الذين يقاسمونني المكان؟ ولكن دون جدوى.
طاقة إستثنائية
حاولت أن أتحرّك بحذر شديد لأخرج بحثاً عن الحمام، وكان المكان مظلماً، فوقفت في فضاء خارجي، وتبوّلت مثلما كنّا نفعل في حياتنا الأنصارية في الليالي القارصة البرد أو حين يستمر هطول الثلج لأيام، وعدت إلى التفكير كم هي الساعة الآن؟ وهل جميع الذين انسحبوا موجودين معي في الموقع؟، خصوصاً وأننّا تفرّقنا، وحاولت أن أستعيد ما حصل، وكنت قد فقدت المصباح “التورجر” خلال انسحابنا، واستغرقت في النوم مرّة أخرى على الرغم من العناء من الآلام المبرحة، وحين صحوتُ على صوت يناديني، وإذا به “أبو ظفر”، وفكّرت لاحقاً متى نام ومتى استيقظ وأي طاقة يملكها هذا الرجل الذي نذر نفسه للخدمة الإنسانية المشرّفة وعلمت أنّه كان يتنقّل بين الرفاق، على طول اليوم التالي ومساء ذات اليوم أو فجره الذي وصلنا فيه إلى الموقع.
وقال لي أبو ظفر عليك أن تتغذّى والساعة الآن الرابعة والنصف بعد الظهر، وأخذني من يدي، ونهضت من فراشي لأتفحص المكان، فوجدت أن الذين معي في المكان غادروا جميعهم إلّا أنا، وبعد أن غسّلت وجهي وعرفت مكان ما يُسمّى بالحمام وقضيت حاجتي فيه ليس كما فعلت مساء ذلك اليوم أو فجره لا أدري، ثمّ تناولت شيئاً من الخبز مع الشاي وقليلاً من اللبن.
الفريق علي
في صباح اليوم التالي، وبعد أن استرحت قليلاً أرسل الملازم علي (الفريق علي عثمان لاحقاً) أحد بيشمركه الحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك) في طلبي وذهبت إلى غرفته وكان هو المسؤول العسكري الأول في الموقع، وأبلغني بأنّه سيُكلّف إثنين من البيشمركه التابعين لقيادته لمصاحبتي بالذهاب لمراجعة الطبيب في مستوصف بالمدينة والمقصود “مدينة بانة” الإيرانية، وكان قد عرف بوضعي الصحي من الرفيق أبو ظفر، إضافة إلى أوضاع أشدّ قسوة لرفاق آخرين.
وبعد أيام توّجهت بصحبتهما إلى المستوصف، حيث استقلّينا التراكتور، وكان الطبيب غير موجود، فتركاني في المكان على أن يعودا لي بعد قليل، وبقيت في الانتظار، وأتذكر أنني وضعت ظهري على الحائط ومددت قدميّ في ممّر على رصيف حديقة المستوصف حتى أنني نمت وعرفت لاحقاً أنني كنت في هذه الوضعية نحو ساعتين إلى أن جاءا وأبلغاني أنّ الطبيب وصل الآن، وحين فحصني أشار عليّ بالذهاب إلى آرومية “الرضائية” لأنّ حالتي تتطلّب البقاء في المستشفى خوفاً من مضاعفات لا تُحمد عُقباها، ولعلّ قصة مرافقة الشابين من بيشمركة حدك لي مثيرة وطريفة في الآن، آمل أن يأتي الوقت المناسب لتدوينها، لما لها من دلالات وجوانب إنسانيّة تعكس خبايا النفس البشرية وتعقيداتها بإيجابياتها وسلبياتها، والأهمّ مفارقاتها.
آرومية
في بانة، دعوت الشابين بعد الذهاب إلى المستوصف أن يأخذاني إلى الحمام لأستحمّ وأبدّل ملابسي، فقد اشتريت ملابس داخلية جديدة وجوارباً، واستبدلت القديمة التي رميتها لأنّها كانت وسخة ومملوءة بالقمل، كما اشتريت حذاءً رياضيّاً بعد أن تآكل حذائي، ومن ثمّ ذهبنا إلى مطعم ودعوتهما على وجبة الجلو الكباب الشهيرة، وهي أكلة إيرانية يوضع فيها الكباب فوق الرز، إضافةً إلى السبزي (السبانغ)، وكانت تلك الوجبة من ألّذ الوجبات التي تناولتها في حياتي، على الرغم من أننّي كنت شديد الحذر خشية من مضاعفات لا تُحمد عقباه، فلم أتذوّق أطيب من ذلك الطعم لعدّة شهور، بسبب أوضاعنا العامّة التي ازدادت تفاقماً خلال فصل الشتاء، فضلاً عن الأوضاع الصحية الخاصة.
وبعد المكوث في هذا الموقع لنحو ثلاثة أسابيع، حيث تكرّرت عملية الذهاب إلى الحمام أكثر من مرّة بصحبة الشابين اللذان قصّا عليّ حكاية كلّ منهما، وهي حكايات تستحق التدوين لما فيها من إثارة ومغامرة، فضلاً عن الظروف التي اضطرتهما إلى سلوك سبيل الإنحياز في هذا الموقع أو ذاك، وكانا في كل مرّة يقولان لمسؤولهما أنّ عليّ مراجعة المستوصف ليسمح لهما بمصاحبتي، إلى أنّ تقرّر ذهابي إلى الرضائية للعلاج بتوصية من أبو ظفر، وفعلاً توّجهت مع مرافق أوصلني إلى فندق حافظ، الذي كنت قد مكثت عدة أيام، حيث ترافق ذلك مع وجود عدد من الرفاق بينهم معن جواد “أبو حاتم” ومحمد جاسم اللبّان ” أبو فلاح” و رفيقتين على ما أتذكّر، إحداهما وإسمها رضيّة من سدّة الهندية استشهدت حين توّجهت إلى الداخل، ومرافق قام بنقلنا عبر وسائل مختلفة، إلى الموقع الأساسي في ناوزنك “نوكان”، وقد مكثتُ في الفندق مرّة أخرى يومين، وفي اليوم الثالث كان من المفترض البقاء في المستشفى، لكنّ الإيرانيين حسبما يبدو اكتشفوا أنّني عربي ولست كردياً على الرغم من ملابس البيشمركة التي أرتديها، وأشار عليّ مرافقي بمغادرة المستشفى فوراً، حيث تركت حاجياتي الشخصية كي أنفذ بجلدي.
طهران
كان الرفيق عبد الوهاب طاهر يتابع وضعي وزوّدني برسالة إلى خالو حاجي القيادي في الحزب الاشتراكي الكردستاني باسم إدارة الحزب، على الرغم من معرفتي به، حيث إلتقيت به قبل ذلك في طهران، وكان قد زوّدني حينها برسالة مفادها أنّني “مبارزان”، أي نصير، والرسالة هي أقرب إلى تسهيل مهمّة لحاملها يمكنه إبرازها عند الضرورة، وذلك حين توجهي إلى قاعدتنا في ناوزك عبر الرضائية (آرومية)، كما زوّدني طاهر برسالة أخرى إلى الرفيق أبو شروق (جاسم الحلوائي) في طهران وأرقام هواتف كامل كرم وأبو وسام، إضافة إلى الحلوائي الذي استقبلني بحرارة، باعتباري ناجياً من بشتاشان، وفي طهران إلتقيتُ بـ صاحب الحكيم “أبو محمد” وجميل الياس “أبو جمال”، وقاسم سلمان “أبو الجاسم”، وكانوا يتوّجهون إلى كردستان.
ولعلّ الفريق علي عثمان ظلّ يذكّرني كلّما إلتقينا في كردستان بتلك الظروف الصعبة، وكان آخرها في العام 2019، أمّا حكاية الوصول إلى طهران فهي بحدّ ذاتها تستحقّ أن تدوّن لما لها من مفارقة ربّما كانت ستغيّر مسيرة حياتي، فضلاً عن مغادرتي إيران في ظروف كانت في غاية الصعوبة، لا سيّما بعد اعتقال قيادات من حزب تودة الايراني، علماً بأنّ الحلوائي حمّلني بريداً “حزبيّاً” نقلته إلى الشام (إلى الدكتورة نزيهة الدليمي)، وذلك عبر حقيبة كان قد أتقن إخفائه فيها، وكنت قد أعلمت السفارة اليمنية بوجودي في طهران، كما أبلغتُ السفارة السورية بذلك، وصادف أن كان السفير من معارف وسبق لنا أن حضرنا في فعاليّة دولية لمجلس السلم العالمي في عدن، وذلك دفعاً لأيّة إحتمالات سلبية.
كتاب وقارئ
كانت رسالة الشهيد أبو ظفر التي افتتحت بها هذه السردية تنضح محبةً وصدقاً ومسؤولية، حيث جاء فيها: “أزعجتني حالتك الصحية مؤخراً، أتمنى لكَ الشفاء العاجل، وأرجو أن تصلني أخبارك ولا تبخل بكتابة الرسائل” ومضى إلى القول “… صدف لي أن أحصل على كتابك حول الصراع الإيديولوجي، حيث وجدته بين الأنقاض المحروقة في بشتاشان، وسنحت لي الفرصة قبل حرقه في انسحابنا الأخير أن أقرأه من الغلاف إلى الغلاف، ورغم أنني قد استمعت لموجزه في محاضرة لك حول نفس الموضوع، إلّا أنّ قراءتي له كانت ذات نفع كبير على معلوماتي”.
واختتم هذه الفقرة بالقول “أهنؤك بحرارة وأتمنى أن يطلّع عليه الجميع في المكتبات، وقد حزّ في نفسي أني لم أستطع نقله للعجالة التي انسحبنا بها، ولإطمئناني أن لديك نسخة منه، حيث أنه مطبوع في بيروت …”
وكان أبو ظفر يقصد كتابي: الصراع الإيديولوجي في العلاقات الدولية وانعكاساته على العالم العربي”، وقد صدر لاحقاً عن دار الحوار في اللاذقية وصاحبها الروائي نبيل سليمان العام 1985، وهو الكتاب الذي ظلّت معطياته مهمّة وراهنة من وجهة نظري، على الرغم من أنّ الكثير من استنتاجاته تخطّاها الزمن أو تجاوزتها الأحداث أو لم تزكّها، فقد حاول عرض الواقع المنظور وتحليل طبيعة النظام الدّولي السائد في العلاقات الدولية القائم على “توازن الرعب” بين المعسكرين الإشتراكي والرأسمالي، وأهمّ النظريات الرائجة في الغرب حول الصراع الإيديولوجي، والتي مثّلت شكلاً جديداً من الحرب النفسية والدعاية السوداء والقوة الناعمة لاختراق النظام الاشتراكي وتقويضه من داخله، وخصوصاً بفعل سباق التسلّح الذي لم يكن قادراً عليه، ولا سيّما “حرب النجوم” التي خصّصت لها الولايات المتحدّة تريليوني دولار، وهو ما لا يمكن مجاراته من جانب الاتحاد السوفياتي الذي كان يعاني من شحّ الحريات والبيروقراطية الحزبية الثقيلة والكابحة، فضلاً عن وصول التنمية والأدقّ النموّ الاقتصادي إلى طريق مسدود، لدرجة الإختناق، الأمر الذي سهّل وقوع “التفاحة الناضجة” بالأحضان، والتي توّجت بانهيار جدار برلين في 9 تشرين الثاني/نوفمبر 1989 ، حيث بات واضحاً عملية النكوص والارتكاس والتغيير في ميزان القوى لصالح الإمبريالية، ناهيك عن حراك شعبي لتغيير الأنظمة شهدته البلدان الاشتراكية، للأسباب المذكورة في أعلاه.
قالوا بـ “أبو ظفر”
أستطيع القول دون خشيةٍ من الوقوع في الخطأ، أنّ “أبو ظفر” كان يتمتّع بصفات استثنائية، فهو متفوّق في دراسته، جادٌّ في عمله، مخلصٌ في علاقاته، صادق في التعبير عن وجهة نظره، مستقلّ في تفكيره، إنسانيٌّ في تعامله، منفتحٌ في علاقاته، يستخدم عقله ويحاول أن يستوعب السياسات والتعليمات ضمن رؤية نقديّة وليست إيمانية تبشيرية… باختصار كان يمتاز بصفات رجولية حقيقية، وكلّ ما أقصده بذلك خارج دائرة السياسة، ولذلك حظيَ بتقدير الجميع للطاقة الإيجابية التي يمنحها في سلوكه وتعامله.
قال عنه الرئيس علي ناصر محمد: أنّه كان مخلصاً حيثما عمل، ولا يهمّه البعد الجغرافي، وهو ما ردّده عمّال مطبعة الهمداني حين شاهدوا صورته في البوستر التي تمّ إعداده تخليداً لذكراه، والذي تصدّره بيت شعر لـ الجواهري الكبير:
سلاماً على جاعلين الحتوف / جسراً إلى الموكب العابر
وكتب عنه ناصر العبسي من مدينة عتق (محافظة شبوة): لقد وضع الشهيد أبو ظفر بصماته في كل مكان، في حياتنا الصحية والسياسية والاجتماعية، وكان مثالاً للإنسان الوطني والقومي والأممي. وقد اختارها ليخدم أهلها الذين ما زالوا يتذكرون ذلك الطبيب العراقي الذي “أضاف إلى حياتهم الكثير أثناء وجوده بينهم، وظلّوا يتناقلون أخباره الآباء والأبناء. كما يتذكّرون بالموّدة والتواصل الدور التربوي الذي لعبته شريكة حياته أم ظفر التي ارتبط معها بعلاقة حب نقية وصادقة منذ أيام الدراسة في مدينة السماوة.
وذكره الرفيق داود أمين “أبو نهران” باعتباره الإنسان الذي وازن بين عقله وقلبه موازنة يندر تكرارها… وكان إلى جانب عقله الرصين والمتماسك عاطفياً يملك قلباً طفوليّاً عامراً بحب زوجته وأولاده ورفاقه ومرضاه وكل المحيطين به.
وقال فيه الشاعر المبدع يحيى السماوي (ابن مدينته): أحبّه من لم يُبصره ورثاه من لم يلتقيه، (فقد) تباهى به الجبل شقيقاً له، وتفاخر به السهل إبناً له، ففيه من الجبل شموخ القمم ومن النخل انحناء السعف.
ويقول الرفيق عبد الرزاق محمد “أبو سامح” (ابن مدينته)، أنّه كان من الطلبة النابغين والمتميّزين، وينقل عن شقيقه أبو فريد (عبد العزيز) وهو أحد المربين القدامى في السماوة واستاذاً لمادة الرياضيّات أنّ محمد البشيشي كان يتمتّع بذكاء حادّ وهو الأكثر تميّزاً من الطلبة الذين مرّوا عليه.ويُضيف عبد الرازق محمد أنّ أبو ظفر يملك مواصفات اجتماعية نادرة وذا سلوك أخلاقي متميّز وهو مؤتمن ومصدر ثقة من الجميع، وحين وصل إلى بلغاريا في أواخر العام 1978 كان وجهاً اجتماعيّاً مرموقاً، كُلِّف بعدد من المهمات بين الوافدين نجح فيها نجاحاً باهراً، وبعدها توجّه إلى اليمن ليعمل في أكثر المناطق بُعداً عن العاصمة (عدن).
إنتظريني… إنتظريني
كنت مرّة وأنا في الطبابة في بشتاشان، أدندن بأغنية روسية قديمة أعرف مطلعها تقول: إنتظريني… إنتظريني وسوف أعود، وهي للشاعر قسطنطين سيمونوف، وقد اشتهرت خلال الحرب العالمية الثانية بين الجنود الروس في جبهات القتال والحرب، وكانوا يرددونها ويكتبونها إلى حبيباتهم وصديقاتهم وزوجاتهم، وقد أعجبته كثيراً وبين الفينة والأخرى كان يغمز لي بعينيه ليسمعني الكلمات التي تقول: إنتظريني… إنتظريني (وكلٌّ عن الذي في قلبه).
في إحدى رسائله إلى شريكة حياته يخاطبها قائلاً: “تحية حب ووفاء للإنسانة التي لم تفعل الغربة إلّا أن زادتني حبّا وإخلاصاً لها، للحبيبة التي أصبحت هي والوطن والحياة والناس شيئاً واحداً… لقد أصبحتِ يا بلقيس أنتِ والعراق وجهان لميدالية واحدة، حبي للإنسان والحياة والحرية.
وفي رسالة أخرى يقول: أنتِ امرأة إستثنائية... ولشدّ ما يُضايقني وأنا معك أنّ حواسي بقيت خمسة، فأنا بحاجة إلى أكثر من ذلك حتى أستوعبك، (كي) أنفذ إلى سرّ روعتك…
وظلّت أم ظفر تنتظر حتى حين غمرتها الأحزان، وهي تراقب المطر الأصفر… تنتظره بعنادٍ ودون تعبٍ (كما تقول الأغنية)، بل بفخرٍ ومفاخرةٍ يستحقّها أبو ظفر الذي استشهد يوم 27 أيلول/سبتمبر 1984 وهو من مواليد 1946، حيث كان عائداً من إجازته التي قضاها في الشام بصحبة عائلته، وحدث ذلك خلال عملية العبور، فتعرّضت المفرزة إلى كمين غادر سقط فيه مضرّجاً بدمائه.
لم يمرّ عام أو مناسبة أو ذكرى إلّا واستحضرتها أم ظفر بأحرف ناصعة، فقد أصدرت عنه كتاباً بعنوان ” لك تنحني الجبال” في العام 2010، عن دار فيشون في السويد، ص358 من الحجم المتوسط، ولعلّ كتابها كما يقول جاسم ولائي يساهم في تعريف القارئ بقصة الشهيد، فيضيف بعض السعادة إلى روحه وقلب زوجته المحبّة بعض الراحة والهدوء، لأنّها لم تقصّر ساعة في حقّ ذلك الرجل الفذّ، وقد جاء على ذكره وسيرته خالد حسين سلطان في كتابه قناديل شيوعية عراقية (مكتبة المجلة – مكتبة المنار العلمية).
واليوم وبعد هذه الفداحة في الفقدان والرحيل الذي استعجلت فيه، أما كان لك أن تنتظر… تنتظر… فقد اشتقنا إليك!!!
* نُشرت في جريدة الزمان “العراقية” (بغداد – لندن) على حلقتين يومَي الخميس 22/4 والسبت 24/4/2021