نازلة دار الأكابر» حكاية أوهامنا التي تفسّر هزائمنا
لم تعد الأكاديمية والروائية أميرة غنيم في حاجة إلى تقديم. فقد ولدت، روائياً، قوية منذ نصها الأول «الملف الأصفر» (2019) الذي فاز بجائزة راشد بن حمد للإبداع، وروايتها الثانية «نازلة دار الأكابر» (دار ميسكلياني 2020/ 460 صفحة) التي حصلت من خلالها على جائزة الكومار الذهبي، وجائزة البوكر (القائمة القصيرة). مرد ذلك ليس الصدفة، لكن اختمار التجربة طويلاً قبل أن تتجلى بقوة، إبداعياً، ضمن مناخات سياسية وثقافية شديدة التعقيد. ما هو لافت في هذا النص، هو أنه لم يسقط في الاختزالات السياسية السهلة، ولم يحول الخطاب الروائي، الأدبي بامتياز، إلى ثرثرة سياسية ولا حتى تاريخية، على الرغم من حضور التاريخ كبنية خلفية لمسارات الأحداث الروائية، حتى ولو تعلق الأمر بشخصية تاريخية حقيقية: الطاهر الحداد، الذي لا يختلف التونسيون والعرب عموماً، والنساء تحديداً، على قيمتها التاريخية (وإن طغت على إصلاحاته نظرة توفيقية حكمت كل الميراث التنويري العربي كله). فقد جعل من قضية المرأة رهانه الأساسي من خلال كتابه: «امرأتنا في الشريعة والمجتمع». واختارت الروائية لإيصال سردها إلى قرائها أيضاً ميراثاً سردياً شعبياً يعمل في الخفاء، يقارب بنية السرد الألفليلي (ألف ليلة وليلة). رواية «نازلة دار الأكابر» تأسست على محور دار الأكابر التي تخفي تاريخها الأسود، أو القصة النواة، ثم على التشظي الحكائي، من خلال الأحاديث المروية من عائلتي «علي الرصاع»، و»عثمان النيفر»، والشخصيات المحيطة كالخدم والأعوان، حيث تتكشف الأسرار من خلال إنشائهم وخطاباتهم بين أمكنة هي وطن الرواية وتربتها، دار الأكابر، ونهج الباشا، وحي الكارطي، ومستشفى المجانين، وغيرها. يتم ذلك بمهارة فائقة تعيدنا بعد التمادي السردي، إلى النقطة الأولى، لدرجة أنّ الحديث اللولبي لا ينتهي أبداً، فما يزال في الحقيبة المغلقة الشيء الكثير الذي لم يُقل بعد: «أحضن المحفظة بكل قوتي خشية أن يتسرب إليها الماء. أكلم نفسي: ما يزال الأمل قائماً يا هند. السرّ ههنا في المحفظة المقفلة. قريباً. قريباً جداً تُفتَّح الأقفال. ص: 457».
وعلى الرغم من التماس مع المادة التاريخية، فليس ذلك رهان الكاتبة. فهي ترتدي قبعة المؤرخ الافتراضي دون أن تكون مؤرخاً، فقط بالقدر الذي يتيح لها إمكانية زحزحة اليقينيات المتوارثة بين الأجيال عن دار الأكابر التي تخفي حقيقتها المرة. يتبدى الحداد داخل هذا المناخ الافتراضي الذي يشبه حقيقتنا الداخلية القاسية والمرة، عاشقاً لزبيدة، مستسلماً على حصير، مستمعاً لسيد درويش «أنا هويت وانتهيت». لم يكن مرغوباً فيها لأنه «ليس من الحاضرة»، وزيتوني من الجنوب التونسي، لهذا رفضه علي الرصّاع زوجاً لابنته. فقد تجرأ الحداد على هز أركان ذلك اليقين بالتنبيه لضعفه، فكان من نتيجة ذلك القطيعة المرة والتكفير، كعادة كل العظام التاريخيين. جرأة أميرة ذهبت إلى أبعد نقطة أعادت من خلالها النظر، فيما جعل منه الكثير من المؤرخين مرجعاً، بينما كان في ذلك الزمن اللاتاريخي أو غير المعترف به، عنصرية، وجهوية، وذكورية، واحتقار للأجناس والأديان الأخرى، والصحافة التي يملكها الأكابر، واستخدمت لتسفيه كل من لا يناسبها، ومن بين هؤلاء الطاهر الحداد الذي اعتبرته زنديقاً. لهذا، تنتقل النازلة من كونها حدثاً تاريخياً له مرجعه المرتبط بأحداث 7 ديسمبر 1936، إلى نازلة مجتمعية وثقافية وحضارية يدفع المجتمع ثمنها اليوم. مأساة للّا زبيدة بنت علي الرصاع، كبيرة، لكنها ليست الوحيدة. فقد خانها زوجها محسن وتزوج عليها سراً ببهية اليهودية التي اختارها بكماء وعاقراً، ورفض حتى أن يكتب على قبرها أنها زوجته. لا شيء يغلف هذه النظرة الاحتقارية ويحميها إلا التاريخ الكاذب. في الظاهر، فعل محسن ذلك حفاظاً على مكانة للّا زبيدة الشريفة، سليلة الأشراف والأكابر.
بجانب أحزان الأكابر، هناك مأساة خدوج خادمة آل النيفر، التي كانت ضحية مضايقات الرزقي، منظف مستشفى المجانين، وتحمل منه بعد علاقة دامت سنتين، قبل أن يصدمها بزواجه، مكشراً عن أنياب العنصرية المتخفية فيه، لا يمكنه أن يتزوج بامرأة سوداء. هذا الظلم لم تكسره لا الحركات التنويرية في الثلاثينيات ولا ثورة الياسمين، إذ تتخطى الرواية عتبات الثلاثينيات حتى الثورة التونسية وما أعقبها.
اختارت أميرة الخيار الكبير الأصعب في العمل على الشخصية التاريخية: التخييل التاريخي، فاخترقت منذ البداية الميثاق الدارج بينها وبين رواية الشخصية التاريخية. وجعلت من هند بنت مصطفى النيفر المتخيلة، حفيدةً للمصلح التونسيّ الطاهر الحداد، الساردة المركزية في النص، ومن جدتها زبيدة بنت علي الرصاع وزوجة محسن النيفر، وتلميذة الشيخ الحداد، عشيقة صامتة، حبها محاط بهالة من الخوف والمنع. ليصبح الحكي أو التخييل التاريخي سلاح الروائية الفتاك الذي هز أركان التاريخ المزيف، وتفكيك المجتمع بالانتصار للكتابة.
المدهش في هذه الرواية هو أنك تشعر بنفسك في عمق التاريخ دون أن تكون فيه. فهو يمر كبنية صامتة بحقائقه المخزنة في الذاكرة. وحتى من لا يعرف تاريخ تونس سيستمتع بالدهاليز القصصية التي تنشئها الكاتبة لإقناعنا أدبياً بأن ما يحدث أمام أعيننا من تحولات المجتمع التونسي حقيقة، من خلال مسار عائلتين متداخلتين (النيفر والرصاع. من عثمان النيفر 1881، إلى هند 1963) تضع لهما الكاتبة خطاطة سلالية وشجرة عائلية، منذ بداية الرواية (ص 14). تحاول الروائية أن تقربنا من سؤال تاريخي خفي وخطير: كيف لرجل مثل الطاهر الحداد الذي جابه آلة الذكورة القاسية، وأحرج قدسية الوهم الديني، وانتصر بدون تحفظ للمرأة واضعاً بين يديها دليلاً كتابياً للدفاع عن نفسها، ألّا تكون في حياته امرأة؟ وهو سؤال كبير يمس الذاكرة الجمعية التي تحتفي في السير بالمنجز الاجتماعي والثقافي للفرد، وتهمل المحرك الجوهري لهذا المنجز أو ذاك: الحب.. فقد أقصي الرجل من دائرة الاعتراف حياً وميتاً، لفترات طويلة، لكنه تحول إلى ظل حيّ في دهاليز الذاكرة الجمعية.
لهذا اختارت أميرة «العبث» بعملية الخطية السردية بكسرها كلياً. نكتشف مختلف سير الشخصيات كما لو أن راوياً يرويها في الأسواق الشعبية، وغير مهتم بما يربطها من حكايات متناثرة وأحاديث غير منتهية عن شخصية لا نعرف عنها الكثير، فيأتي الاستذكار و»الفلاش باك» ليعيدها إلى الواجهة من جديد ويضيئها. الذي يهم في النهاية ليس التاريخ كمادة منجزة ومنتهية، بقدر ما تهم الحكاية. الرواية لا تقدم نظاماً جاهزاً، ولكن مادة محتملة لمتلقٍّ يملك القدرة على إعادة التنظيم، كما وصفه فولغانغ إيزر أو أمبرتو إيكو. فهو ليس مستهلكاً سلبياً، لكنه شريك في الفعل الروائي. يكتشف بلا وصاية مسبقة، أسرار «دار الأكابر» بذكورتها الزائفة التي جعلت من الدين وسيلتها لتبرير كوارثها، وما أخفاه سكانها من جرائم وأمراض وتهتكات كانت تغطيها الوجاهات المفترضة والنبل الزائف. الحس الشعبي الذي اختارته الكاتبة لمواجهة آلة التدمير جعل من هذه الرواية تنتصر للمجتمع المخفي، فتزيل ستائر العفة الوهمية: دار الأكابر بزيفها، والمجتمع الهامشي الذي تم دفنه تحت سلطان طبقة امتلكت كل شيء بما في ذلك الحق المطلق في كتابة تاريخ زائف، ما زلنا نستهلكه حتى اليوم، بعيداً عن الفاعلين الحقيقيين. يصبح التخييل التاريخي في «نازلة دار الأكابر» بديلاً لليقينيات المتوارثة، جعل من مادة عاشت في الهامش، حياة مركزية، تجعلنا نقف مشدوهين أمام أوهامنا التي تفسّر اليوم هزائمَنا المتعاقبة.