البصرة وصورة الأمس .
الباحث/ عبد الحميد برتو .
يكاد أن يجمع علماء علم النفس الإجتماعي على وجود صلة متينة بين الإنسان ومسقط رأسه، حتى في حالات الجذور المنقطعة، ومع المناطق التي شهدت النشأة الأولى لأي شخص.
يصف الكاتب رزاق عبود مدينته ـ البصرة من السطر الأول في كتابه الموسوم ـ “البصرة وصورة الأمس” بإنحياز تام ومعلن، بأنها مدينة وادعة ورائعة “يتجلى (فيها) العراق كله، بل قُل العالم أجمع”. ولكنه عاد في الحال ليمسك بلجام فرسه توخياً للدقة، وأمانة لمنهجه الوصفي المستندة على الذاكرة والمشاهدة الذي تعهد الإلتزام به، فأوفى. معلناً بأن البصرة: “صورة نموذجية لأي ميناء في العالم، أبوابه مفتوحة، ونوافذه مشرعة على الدنيا كلها”. لم يقف الكاتب عند هذا الحد بل تقدم ليبرهن على صحة ما فاضت به ذاكرته ومعايشته وتجاربه. أمسك بدليل شديد الأهمية يتمثل بالتنوع السكاني، الذي شمل كل التنوعات المعروفة في ثقافة التنوع. والأهم ما كان يسود ذلك التنوع من إنسجام وود وإحترام متبادل.
لا أتركُ الكاتبَ وحدة يتغني بحلاوة البصرة. ولا أجد إنتهاكاً للعرف النقدي بأن أشاركه ذات المشاعر صوب مدينة تاريخية عريقة وجميلة ووافرة الزرع والضرع ما تحتهما من خيرات. لا أجد أية صعوبة في أن أتجرأ القول: لا يوجد عراقي واحد لا يحتفظ في وعيه وذاكرته بصور جميلة عن البصرة وأهلها. كما نالت البصرة إهتماماً أوسع عربياً، فهي تمثل بداية صعود الحضور العربي التاريخي خارج جزيرتهم، وهي مدرسة عريقة حفظت وطورت اللغة العربية، بل الثقافة العربية عامة خلال قرون من مسيرتها، وفي حالتي العطاء أو النزيف.
حفلت اللغة العربية بالعديد من كتب أدب الرحلات، التي حفظت للإنسانية جوانب هامة من تاريخ ومنجزات ووقائع وصفحات مشرقة أو مؤلمة وأنماط معيشة للعديد من مناطقها. كانت في حالات كثيرة الكتابات العربية متفردة. كما حال الرحالة إبن طرطوشة الأندلسي إبراهيم بن يعقوب، الذي تعتبر كتاباته الأولى تاريخياً عن براغ عاصمة بوهيميا وعن بولندا وأوكرانيا وغيرها. وثق المعطيات في رسالته إلى الخليفة عبد الرحمن الناصر لدين الله.
سار الكاتب رزاق عبود على منهج كتاب الرحلات الأولين، ولكنه دار حول نفسه ومدينته البصرة الفيحاء فقط. تفحص كل شيء في داخله وحوله. تناول العادات والطقوس الإحتفالية لكل الملل والنحل في المناسبات الخاصة والعامة، التعاضد الإجتماعي بين الناس، الأعياد، الأكلات الشعبية، الأسواق، الشخصيات المبدعة في كل صنوف المعرفة والمناضلين أيضاً، أساليب قضاء وقت الفراغ للعوائل والأفراد، المقاهي، الأعراس، الغناء، فن العمارة، الشواع والمتنزهات، الموانئ والمطارات والمعسكرات، شط العرب وروافده، الجامعة والمدارس والطلاب، الصحافة البصرية وروادها، الجوامع والمقامات، السينمات، البنية الإدارية للنواحي والأقضية، الصناعات، المنتديات الإجتماعية، الرياضة والرياضيين، والقائمة طويلة وعصية على ذكرها جميعاً.
شعرت بمتعة كبيرة خلال قراءتي لهذا الكتاب. وهو لا غنى عنه لكل من يريد أن يعرف البصرة في كل جزئياتها الثمنية. هذا النوع من الكتب له أهمية في مختلف أنواع الدراسات العامة عن المحافظة بأكملها. إنها دليل سياحي، ولكنه يحمل معلومات تأخذ القارئ صوب الروح الحقيقية للمدينة. وهو وقفة تأمل تتيح عقد المقارنات بين الفترات التاريخية المختلفة من حيث التقدم أوالتراجع.