انسحاب الكاظمي… بين المناورة والقرار
شكّل قرار مصطفى الكاظمي رئيس الوزراء العراقي، بعدم الترشح في الانتخابات البرلمانية المقبلة التي ستجرى في تشرين الأول/أكتوبر المقبل نمطا مغايرا من السلوك السياسي العراقي ما بعد 2003، إذ تعوّد العراقيون على تدوير الوجوه السياسية منذ حوالي العقدين، وقد مثل تمسك الطبقة السياسية بالمناصب والامتيازات، بعد انتهاء مهامهم الرسمية في الحكومة والبرلمان نمطا من السلوك السياسي الفاسد في العراق.
إذن لماذا قرر الكاظمي الانسحاب من الترشح؟ ولماذا لم يسع لولاية ثانية شأن من شغلوا منصب رئاسة الحكومة قبله؟ وهل كان بإمكان تياري «المرحلة» و»الازدهار» اللذين يوصفان بأنهما مقربان من الكاظمي ويديرهما مستشاروه والمقربون منه، أن يحققا نتائج انتخابية تمكن الكاظمي من البقاء في رئاسة الحكومة؟ وهل كان بالإمكان تحقيق توافق بين الكتل السياسية على بقاء الكاظمي كما حصل في 2020 عندما تم اختياره لرئاسة الحكومة خلفا لعادل عبد المهدي كرئيس وزراء توافقي بين الفرقاء السياسيين؟
ويجب أن ننبه إلى أن تصريحات الكاظمي، عن عدم ترشحه في الانتخابات المقبلة كان قد طُرح مبكرا، إذ صرح الرجل بذلك في آب/أغسطس 2020 في لقاء صحافي مع صحيفة إماراتية، وقال إنه لن يترشح للانتخابات، وأوضح أن تركيزه الحالي هو «السماح للعراقيين بالتصويت بحرية، من دون تزوير أو ترهيب أو تهديد باستخدام القوة» كما أوضح بقوله «أركز على تهيئة الظروف للسماح بإجراء انتخابات حرة ونزيهة، واستعادة ثقة العراقيين في العملية الانتخابية. ولا أفكر في أي شيء آخر في هذه المرحلة». لكن الدوائر المحيطة بالكاظمي ومستشاريه المقربين، عملوا على تشكيل كيانات سياسية، وحاولوا أن يطرحوا أنفسهم باعتبارهم ممثلين لانتفاضة تشرين، والمطالبين بولاية ثانية للكاظمي باعتبار ذلك مطلب الشارع المنتفض، لكن وبعد تيقنهم من عدم قدرتهم على تنفيذ هذه الأجندة، انسحب تيارا «المرحلة» و»الازدهار» المحسوبين على الكاظمي، وأعلن ناطق رسمي باسمهم بأن التيارين»لن يدخلا الانتخابات» وتناقلت وكالات الانباء يوم 27 نيسان/إبريل الماضي، عن مصدر وصف بأنه مقرب من الكاظمي القول، إن «تياري المرحلة والازدهار المحسوبين على رئيس الوزراء، لن يدخلا الانتخابات» وبين أن «القرار اتخذ مؤخرا بعدم خوض التيارين الانتخابات المقبلة، خاصة وأنهما يداران من قبل مقربين من الكاظمي ومحسوبين على فريقه السياسي» وأضاف، أن «التيارين سيواصلان عملهما السياسي بدعم المرشحين المستقلين، ويفكران بخوض الانتخابات ما بعد المقبلة».
تمسك الطبقة السياسية بالمناصب والامتيازات، بعد انتهاء مهامها الرسمية في الحكومة والبرلمان نمط من السلوك السياسي الفاسد في العراق
لذلك أصبح المشهد الرسمي الآن، وقبل الانتخابات البرلمانية بخمسة أشهر فقط يردد أن الكاظمي وجه فريقه السياسي بعدم نيته العمل على الحصول على ولاية ثانية، وإن مهمته محصورة في توفير أجواء مناسبة لإنجاح العملية الانتخابية، وإنه سيدعم من يختاره الشارع العراقي، فهل قبل الفرقاء السياسيون هذا الأمر؟ أم أن هنالك تصريحات وتسريبات مضادة ظهرت على السطح؟ أبرز التسريبات أشارت إلى صفقة عقدت بين مصطفى الكاظمي ومقتدى الصدر، يتعهد فيها الأول بعدم الدخول في ائتلافات وكتل انتخابية في الانتخابات المقبلة، مقابل ضمان الثاني ترشيحه كممثل للتيار الصدري لرئاسة الحكومة، والكل يتذكر تصريحات الصدر منذ أكثر من عام، حول إصراره على أن تكون رئاسة الحكومة المقبلة من حصة التيار الصدري، كما أشار بعض المراقبين إلى تفاهمات تجري بين كتل العبادي والحكيم من الشيعة، والحلبوسي من السنة، بالإضافة إلى بارزاني من الأكراد سيدعمون ترشيح الصدر للكاظمي لولاية ثانية، مقابل تعهدات الكاظمي لهذه الكتل بتمرير مطالبهم، وترتيب حصصهم في الحكومة المقبلة. وكما هو معلوم أن مصطفى الكاظمي أظهر لينا واضحا تجاه الكتل أعلاه، وطرح نفسه كشخصية توافقية مقبولة من إيران والولايات المتحدة، وباقي القوى الإقليمية في الخليج ومصر، لذلك يعتقد بعض المراقبين، ممن يروجون لهذه التسريبات، أن إعلان عدم ترشح الكاظمي لا يعدو كونه مناورة سياسية لتمرير صفقته مع الصدر. من جانبه يعد مقتدى الصدر الملايين من أتباعه بأخذ زمام المبادرة في الانتخابات المقبلة، ويرى أن خصومه الأقوى والأكثر خطرا هم، الميليشيات الولائية المقربة من إيران، وإنه إذا استطاع أن يرسل رسائل تطمين لطهران عبر اختيار شخصية مقبولة للإيرانيين، حينها سيكسب الجولة الأولى في تشكيل الحكومة المقبلة. وقد غرّد الصدر قبل أيام على حسابه في تويتر قائلا «هناك جهات تريد تعكير الأمن في العراق لأسباب عديدة أهمها، تأخير أو إلغاء الانتخابات، من خلال الميليشيات المنفلتة التي تستهدف القوات المحتلة، لثنيها عن الانسحاب، فبقاؤها بقاء لتلك الميليشيات». وقد قُرئت هذه التغريدة على أنها رسالة مزدوجة المفعول، إذ تهدد الميليشيات الولائية من ناحية، وتبعث برسائل تطمين للأمريكيين مفادها، أن ميليشيا الصدر لن تسلك سلوك ما يسميه «الميليشيات المنفلتة» وأنه يرفض ضرب القوات الأمريكية الموجودة في العراق، بل يسعى إلى العمل على إخراج القوات الأمريكية عبر التفاهمات الحكومية في حال قيامه بتشكيل الحكومة المقبلة.
أنصار الكاظمي والشخصيات المقربة منه تروج للرجل على أنه شخصية نزيهة، يداه لم تتلوثا بسرقة المال العام، ولا دماء المحتجين في الاحتجاجات، التي خرجت طوال عهدته الرئاسية. كما يوصف الرجل بأنه ذو إمكانيات إدارية، وبإمكانه أن يحقق نجاحا ملموسا إذا منح فرصة الولاية الثانية، ووجد جهات سياسية قوية تدعم حكومته. وأنه وافق على تولي رئاسة الوزراء في مرحلة حرجة اختتمها بتوفير أجواء مناسبة لانجاح الانتخابات البرلمانية المقبلة. لكن هؤلاء المروجين لولاية ثانية للكاظمي، نسوا أو تناسوا فشل حكومة الكاظمي في كل الملفات الكبرى التي وعد بتنفيذها، ومنها محاربة الفساد، وإعلان نتائج ذلك بشكل شفاف للشعب، وعلى الرغم من جهود اللجنة التي يتولى رئاستها الفريق أحمد أبو رغيف، إلا أنها حتى الآن لم تنجح في معالجة ملف فساد واحد حتى النهاية. كما أن وعود الكاظمي بحصر السلاح بيد الدولة أصبح نكتة العراقيين، وأصبحت الميليشيات الولائية أكثر تغولا، وبات المتحدثون باسمها يشتمون الكاظمي على شاشات الفضائيات وفي مختلف منصات التواصل الاجتماعي، من دون خوف أو حساب لمكانة رئيس الحكومة. كما أن الفشل في إدارة الملف الاقتصادي المتهاوي يقف عقبة أمام حكومة الكاظمي، ولا يمكن الاستمرار بسياسة الاقتراض لدفع الميزانية التشغيلية ورواتب موظفي الدولة إلى أمد غير معروف، لأن من واجب رئيس الحكومة الجاد وحكومته، وضع حلول حقيقية لمعالجة الاقتصاد العراقي المتردي.
كذلك فشلت الحكومة فشلا ذريعا في إدارة ملف جائحة كورونا، وتوفير الحد الأدنى من الخدمات الصحية للمواطن العراقي، بالإضافة إلى فشلها في إصلاح وتوفير الخدمات الإساسية المتردية في العراق، التي أضيف لها ملف الأمن المفقود، بسبب الاغتيالات المتكررة، وعمليات الخطف والتغييب الذي تمارسه عدة جهات في العراق، من دون أن تجرأ حكومة الكاظمي على الكشف عن أسماء الجناة الحقيقيين، على الرغم من كل لجان التحقيق التي أعلن عنها.
وفي النهاية ومع الحديث عن تسريبات الاتفاق بين الكاظمي والصدر، يتبادر إلى الأذهان سؤال: هل يمكن لسياسي خبر سلوك مقتدى الصدر المتقلب، طوال أكثر من 15 عاما أن يثق بوعوده؟ هذا هو السؤال الإشكالي الذي يواجهه الكاظمي والمستشارون المقربون منه، الذين أعلنوا أو سربوا عدم نية الكاظمي الترشح في الانتخابات المقبلة، ترى هل سيضعون بيضهم كله في سلة مقتدى، ويمشون وراء وعود قد ينقلب عليها في أي لحظة، كما فعل سابقا مع شركاء تحولوا إلى خصوم، ثم شركاء في دورة غير منهية من التقلبات؟ هذا ما ستظهره الاتفاقات المقبلة التي يمكن أن تكون اتفاقات اللحظة الأخيرة قبيل الانتخابات، وربما حتى اتفاقات ما بعد الانتخابات، وبناء على النتائج التي ستظهرها صناديق الاقتراع.
كاتب عراقي