العراق: أهذه هي الزعامة السياسية يا خميس الخنجر؟
وصل إلى بغداد في 26 نيسان/إبريل المنصرم وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، في زيارة رسمية اجتمع خلالها مع كبار المسؤولين العراقيين. غرّد بعدها السياسي العراقي خميس الخنجر، الذي يتزعم كتلة سياسية مشاركة في العملية السياسية قائلا: «استقبلنا اليوم في بغداد وزير الخارجية الإيراني السيد جواد ظريف والوفد المرافق له. وبحثنا معه عددا من القضايا المهمة التي تخص العراق والمنطقة. قضايا جرف الصخر والمناطق المغلقة بوجه أهلها، من دون وجه حق، كانت موضع البحث والحوار، وستكون هنالك خطوات عملية قريبا». فهل علم السيد خميس الخنجر بأن تغريدته كانت له مثل أسلاك التعثر ومصائد المغفلين؟
ربما يتبادر إلى ذهن من لا يعرف ناحية جرف الصخر، أنها مدينة حدودية متنازع عليها بين العراق وإيران، أو أنها جزيرة في الخليج العربي قبالة المياه الإقليمية العراقية والمياه الإقليمية الإيرانية، لكن الحقيقة غير ذلك تماما. إنها مدينة عراقية تقع جنوب العاصمة بغداد بحوالي 80 كم. وهي منطقة مزارع وبحيرات لتربية الأسماك وحقول ثروة حيوانية، كلها أملاك خاصة تعود إلى أبناء عشيرة عراقية معروفة تقطن المنطقة منذ عقود من السنين. قيل إن تنظيم الدولة فرض سيطرته عليها في عام 2014، وأثناء تحريرها سيطرت عليها الميليشيات التابعة إلى إيران في العام نفسه، وتم تهجير سكانها لأسباب طائفية، ومنعوا من العودة إليها.
ومنذ ذلك العام وحتى اليوم يسكن أهلها المخيمات، ولا يعلمون أي شيء عن أملاكهم ومزارعهم ومواشيهم، لأن الميليشيات ترفض عودتهم. وقد ذهب أحد زعماء العشيرة إلى طهران بغية الضغط على ميليشياتهم التي تسيطر على المنطقة، للسماح للسكان بالعودة، لكن من دون جدوى. وهناك قيل له إن ملف منطقة جرف الصخر بيد المسؤول عن الملف العراقي في حزب الله اللبناني المدعو كوثراني، وعندما ذهب إلى بيروت لم يحصل على جواب، فعاد أدراجه من دون حل. وها هو اليوم زعيم سياسي عراقي يتوسل إلى وزير خارجية إيران، للسماح لمواطنين عراقيين بالعودة إلى مدينتهم العراقية في بلدهم العراق، فهل هنالك من مهانة أقسى وأبشع بعد هذا الموقف؟
لسنا أمام أزمة سياسية عراقية وحسب، بل أمام إنسلاخ تام عن معاني وقيم العمل السياسي الوطني، والغيرة الوطنية
ربما لا يعتقد هذا السياسي أو غيره بأنهم في هذه التغريدات والتوسلات، إنما يعلنون وبصراحة، حتى لمن لم يدرك حقيقتهم بعد بأنهم فاقدو الإرادة والرؤية، لكنهم يعتقدون بأنهم قادرون على التظليل بهذه الكلمات والتغريدات، لأن التظليل في عُرفهم محاولة لإيقاف عقارب الساعة، كي تمضي الأمور كما يريدون. لكنهم ينسون دائما أن عامة الناس، هؤلاء الذين يكذبون عليهم بعبارات السيادة والاستقلال والابتعاد عن المحاور، إنما هم هيئات مُحلفين سيقفون يوما أمامهم للحساب. فماذا سيقول السيد الخنجر وغيره من ساسة الاحتلال والعملية السياسية البائسة ذلك اليوم؟ ما هي دفوعهم حين تحين المساءلة الشعبية مستقبلا؟ بل كيف يجيبون اليوم على كل التساؤلات التي انطلقت على مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى ألسنة الناس بعد اللقاء مع جواد ظريف متساءلة، هل نحن حقا دولة ذات سيادة؟ وهل توجد سلطات في هذا البلد؟ وماذا يعني العلم والدستور ورئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ومجلس النواب والحكومة، إذا كانت كل هذه الأصول المادية والمعنوية غير قادرة على إرجاع مواطنين عراقيين إلى بيوتهم، في داخل حدودنا وخريطتنا السياسية والإدارية إلا بموافقة طهران؟ بل إن السؤال ذا الحدين، والمطلوب الإجابة عليه بالحاح كبير هو، إذا كانت تغريدة السيد خميس الخنجر تُعبّر عن واقع العراق المحكوم من طهران، وأنه هو الواقع الحقيقي الذي يعيشه هذا البلد، فلماذا أنت فيه زعيم سياسي؟ وهل يُعقل أن يقبل من يقول إنه يُمثل شعبا أن يعمل تحت ظل سلطة إيران أو تركيا أو أمريكا أو أي بلد آخر، وإن الأرض التي يقف عليها ليست تحت سيادته؟
يحرص الساسة في العراق على زيادة الرغبة في تجاهل الحقائق، فيمضون سنوات في تنمية شخصيات محبوبة يلصقونها على أجسادهم، مع ابتسامات صامتة على وجوههم. أما في رؤوسهم فإنهم يعيشون في خيالاتهم وليس في الواقع الذي يعيشه شعبهم. هم يعتقدون أن المناصب في كنف الغزاة المحتلين، والتوسل بهم حقائق باردة وليست مهمة، لكنهم ينسون أن الحقائق الباردة هي الأكثر إحراجا للسياسي، لأنها تشكل قضايا ضده، وإذا كان المجرمون غالبا ما يلوذون بتغطية وجوههم حين يقادون إلى المحاكم خوفا من الفضيحة في الصحافة، فإن السياسي لن تنفعه هذه المحاولة حين يواجه قضايا ثبتها عليه شعبه كاستحقاق ضمن المسؤولية التي وضع نفسه فيها. ففي السياسة يُعتبر التصريح والتغريدة، مؤشرات موثوقة على الاتجاه العام للسياسي وعلى طبيعة السلوك الذي يمارسه في عمله، وإذا كان البعض يتخذ من الوقاحة عقيدة سياسية، فإن ذلك لن يجبر الناس على منحهم الولاء والانحناء لهم. صحيح أن معاناة الناس أقسى من الحجر، لكنهم يعرفون جيدا أن الحراس الصغار للطائفية، والمتوسلين بدول الجوار، غير قادرين على أن يثبتوا لهم أنهم وطنيون وأصحاب غيرة على شعبهم. وأن من ينتمي إلى الطبقة السياسية الرثة التي تحكم العراق منذ عام 2003، حتى لو ألصقت به كل صفات الملائكة لن يستطيع إقناع الناس بمنحه الثقة.
لقد بقي الانبطاح السياسي السري والعلني لإيران حكرا على أحزاب الإسلام السياسي الشيعي، لأسباب بنيوية عديدة، منها إقامتهم فيها سنوات طويلة، ودعمها لهم بالمال والسلاح والتدريب وغيرها، على الرغم من أن أحزابا وشخصيات من الإسلام السياسي السُني ذهبت إلى طهران أيضا للحصول على شهادة حسن السلوك من أجل الاستيزار والاسترزاق، لكن سراً وعلى استحياء، لكننا اليوم أمام زعامة سياسية ومجتمعية مما يسمونه الطيف السياسي السُني، يمارس علنا الانبطاح السياسي لإيران، ولا يضيره فقدان أناقة الإحساس بالحياء السياسي، حينما يطلب من الإيراني جواد ظريف السماح لأهله المشردين في المخيمات بالعودة إلى مساكنهم ومزارعهم، التي سرقتها إيران عبر ميليشياتها على أطراف بغداد. فهل من يقين يمكن أن يعتصم به الناس بعد الآن، عندما يريدون دحض كلام المشككين بهذا السياسي؟ الآن بات كلام الرجل علنا وليس سرا، وأصبحت تغريدته مرجعا موثوقا وليس فبركة من قبل حاقد أو حاسد. إذن نحن لسنا أمام أزمة سياسية عراقية وحسب، بل أمام إنسلاخ تام عن معاني وقيم العمل السياسي الوطني، والغيرة الوطنية على كل شبر من الأرض العراقية وكل فرد عراقي.
لقد ارتفعت أصوات الكثير من العراقيين عقب تغريدة السيد خميس الخنجر تمنت عليه لو بقي خارج العملية السياسية، يُشكل لوبي رأي عام عربي وأقليمي ودولي من خلال إعلانه للعالم أجمع بقنواته الفضائية ووسائل الإعلام الأخرى التي يدعمها، كيف أن إيران تتحكم بالعراق أرضاً وسماء ومياهاً، ويفضح عورات العملية السياسية وشخوصها الذين لا يستطيعون إرجاع مواطنين عراقيين إلى قراههم، لأن خامنئي أو قآني أو حسن نصرالله أو كوثراني لا يقبلون. لا أن يعود إلى العراق وينضم إلى العملية السياسية ليعلن أن الواقعية السياسية تتطلب القبول بالبسطال العسكري للحرس الثوري الإيراني على كل شبر من أرض العراق، فما زال العراقيون أصحاب كرامة.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية