تراجيدية المصائر القَلِقَة
ليست الرواية عملاً بسيطاً، فهي جهد عضلي ونفسي شاق، يتحدى به الكاتب كل معوقات الحياة. لم يمنع المرض علوية صبح من أن تكون وفية إلى أقصى الحدود لرهانات الكتابة. إرادة صلبة وإصرار إبداعي خطته الكاتبة من خلال رواياتها الناجحة: نوم الأيام (1986) مريم الحكايا (2002) دنيا (2006) اسمه الغرام (2009) وأخيراً رواية: أن تعشق الحياة (2020). لامست ذلك من كتاباتها ومن معرفتي المباشرة بالكاتبة. آخر لقاء جمعنا كان رحلة بغداد في عز اشتعال العراق، وكان لا بد لبعض الكتاب العرب من أن يساهموا في إعادة بعث معرض بغداد للكتاب. وعلى الرغم من المرض، وقلق الخوف، وبؤس المطارات العربية التي تغير العالم من حولها ولم تتغير ممارساتها، إلا أنّ علوية ظلت محبة للعراق الذي في قلبها، وسافرت من أجله. كانت مثل طفلة عندما زرنا مختلف متاحف بغداد، كانت كمن يكتشف مدينة ساحرة غابت عنه زمناً طويلاً. حكت لي يومها بألم وبشجاعة وكبرياء وإرادة صلبة، عن المرض الذي يمنعها من الكتابة. إصرارها هو الذي منحنا اليوم أجمل هدية، رواية: أن تعشق الحياة.
كما هي عادة الروايات الكلاسيكية العظيمة، مثل دون كيخوتي، تتوجه رواية «أن تعشق الحياة» من خلال صوت نسوي لقارئ افتراضي، نشعر به ولا نراه، مستمع وعارف، لأنه هو من سيذكرها بالحكي، كلما خانها جسدها، متحملًا فوضى قفزها عبر الأزمنة والأمكنة، بلا روابط ظاهرة، مستغلة لحظات الصفاء التي تمنحها لها المهدئات والأدوية التي تعيد للجسد بعض قوته وعنفوانه، فتتخطى الذاكرة المبهمة التي يغشاها ضباب شديد؟ المتلقي الافتراضي، الحقيقي روائياً، هو قشة الحياة التي تلتصق بها الراقصة بسمة، لا نتعرف على هويته إلا في نهاية الرواية: حبيب اليوسفي، المسرحي والأكاديمي، الذي كان قد دعاها في وقت سابق إلى لقاء ثقافي سجالي مع طلبته حول العلاقة بين الرقص والمسرح، لكن مرضها لم يسعفها فاعتذرت له. وظلت مرتبطة به عن طريق الوسائط الاجتماعية، وتحلم أن ترى يوماً غرفته وسريره.
يتحول النص بسرعة إلى لحظة معاناة إنسانية، وتعبيراً عن الإرادة الكامنة في العلاقة بالفن (العودة إلى الرقص). تفتح بسمة أمامنا بوابات مأساتها على مصراعيه: المجهول الإنساني العميق، المرض العصبي. وعلى الرغم من التماس الواضح، بل والتقاطع الملموس بين الحالة الصحية لعلوية وبسمة، إلا أن الروائية تمكنت من صنع عالم حكائي شديد الغنى والجمال، يستحق أن نطلق عليه اسم: الإرادة، ليس فقط إرادة تخطي المرض، لكن من أجل منجز روائي مميز. لهذا نسفت علوية إرادياً معطيات السيرة الذاتية واختارت الهاجس الروائي المنفتح على كل احتمالات الكتابة الروائية، لدرجة أن تتصادى في تناص ذاتي، مع نص سابق للكاتبة، في العلاقة مع الجسد: اسمه الغرام، لكن تنفصل بسرعة رواية «أن تعشق الحياة» عنه، لتنشئ كتابة روائية متحررة من كل العوائق، ترتفع بالنص نحو التراجيديا الإنسانية القاسية لامرأة مصابة بفتنة الحكي بالموازاة مع فتنة الرقص الذي يشكل جوهر خيارات البطلة بسمة. اختيار موضوعة الرقص في الرواية ليس عملاً اعتباطياً، بل هو في صميم معادلة الجسد الذي يتحدد مفهوم الحرية الواسع من خلاله. كل ممنوعات المجتمع العربي اجتمعت في الجسد الأنثوي المقهور. هذا الجسد يرفض الاستسلام أثناء الوعكات، وكلما بدا أنه انتفى، عاد من جديد مصمماً على الحياة. الإرادة تقهر ضعف الجسد وخياناته غير المحسوبة. لم تكن «رقصة الحياة» إلا صورة عن الحياة الجديدة والممكنة بفضل عدم الاستسلام لقدر شديد القسوة.
أثثت علوية رواياتها بشخصيات كثيرة تجسد كلها المأساة المجتمعية والنفسية الكبيرة، التي تخرج الفعل الروائي من دائرة الفردية باتجاه حالة ليست في النهاية إلا صدى لوضع أعقد، تخترقه الخيبات والهزائم من حلم كبير لثورة عربية حاملة لهاجس التغيير، إلى محصلة إرهابية تتحكم في أنفاس الناس، وكأن لا زرع ينبت في أرض أكْسَدوها وحولوا سمادها إلى سموم. لا شيء يستقيم، كأن هناك إرادة سلبية مدمرة تنطلق من الذات نفسها. حبيب بسمة الأول، أحمد، ينتهي بشكل تراجيدي، وهو القاص والروائي المرهف، والعلماني، المتفتح الحالم بكتابة رواية تركها وراءه معلقة بسبب وفاته بالسرطان. أما الحبيب الثاني يوسف الذي بدا مثالاً للنموذج المحبوب، فتزوجته على الرغم من علاقته الرحمية بأمه التي تفحمت في قصف إسرائيلي، لكنه انتهى بشكل مأساوي هو أيضاً، فقد ناهض نفسه قبل أن يناهض غيره، وهو الفنان الرسام الحساس والشاعر. الصدمة أكبر من أن تُصدَّق؛ لم يبق من الرجل المثقف والمتحرر والمحب لحرية المرأة والذي حول الرقص إلى ألوان، العاشق لابن عربي، الشيء الكثير مما كانه. فقد حوله السجن السوري، بسبب خطأ عبثي في الاسم، إلى حطام رجل، فوجد نفسه مقتولاً داخلياً، عاجزاً جنسياً، لكن بسمة بحبها الكبير، أعادت له كل ما سرق منه ومنحته حياة أخرى، إلا أن الضرر الأكبر كان قد تأصل، فيغرق في الأصولية البائسة والأناشيد الحسينية، ويحقد على فنه، فيطلب منها التوقف عن الرقص، أي موتها الإرادي، لكنها ترفض، وتنتهي العلاقة إلى طلاق. بينما يواصل هو انحداره حتى يصل إلى القاع: الجنون. لا أحد ينفذ من طاحونة المأساة. نزار، صديق يوسف الذي يئس من النضال الفلسطيني، انتهى خمينياً بعد أن كان بعثياً، وهجر دينه المسيحي، قبل أن يسقط في العدمية. أما عيسى، ابن المخيمات الفقيرة الذي سخره مسؤوله أبو غضب لخدمة مصالحه والمتاجرة في المخدرات، إذ لم تعد القضية الفلسطينية إلا يافطة خارجية لإخفاء مصالحه وجبنه. بعد الاجتياح الإسرائيلي يقرر أبو غضب التخفي بدل النضال مع المقاومة. تجعل علوية من عيسى أداة نقدية جريئة للأخطاء الفلسطينية في لبنان.
أنيسة الصحافية التي حلمت بمنجز روائي كبير عن الربيع العربي، أصيبت بدورها بخيبة انهيار هذا الحلم، تقاوم شللها بالكتابة. كانت تعيش مع رجل بخيل اشترى منها كل شيء، بما في ذلك حقها في الطلاق منه، بأربعين ألف دولار. لم تكن تجربتها العشقية مع موسى الناقد الفني، أفضل؛ فقد ظلت الحواجز المجتمعية والموانع الدينية متحكمة في هذه العلاقة.
الرواية هي مختصر المآسي العربية مجتمعة. الجسد العربي الممزق الذي تنقله الشاشات العالمية يومياً في سباق محموم ويعرض على الناس لدرجة أن استرخص الإرهاب والصورة، ليس في النهاية إلا صورة عن التراجيديا العامة التي فشل على تربتها كل شيء سوى الموت الحقيقي والرمزي. حتى جسد بسمة المنكسر ليس إلا جزءاً من هذه الطاحونة العامة، لكن بسمة تملك الإرادة التي تعيدها إلى الرقص، إلى الحياة، تدخلنا في دهاليز المرض ونشعر بأنفسنا معنيين بما كان يحدث من حولنا من قسوة وخوف، فهي تتخطى التشنجات، وتضخم الصوت، وضيق الصدر، وتقاطع الأسنان اللإرادي، وخيانات الجسد وتغييب اللغة، بالمزيد من الحياة ويقين الشفاء. تتخطى مأساة الأم القاسية، والأب المنتحر، والخيبات المتتالية؛ لتستطيع العيش والاستمرار. الحياة ليست منحة ولكنها استحقاق.
أن تعشق الحياة… عليك أن تكون قوياً. أو ربما… عليك أن تحبها أكثر.