جريمة مستشفى ابن الخطيب لا تسقط في التقادم
د.عامر صالح
فاجعة مستشفى ابن الخطيب في بغداد والتي حصلت جراء حريق هائل اندلع في مخازن الأوكسجين والتي تستخدم في اسعاف مرضى كورونا كوفيد ـ 19 في نهاية الشهر الماضي في ليلة يوم السبت على الأحد من 24 ـ 25 ابريل والذي راح ضحيته اكثر من 200 بين وفاة وجريح كان حدثا مأساويا لا يمكن ان يمر مرورا عابرا أو الوقوف عند حدود الأجراءات الشكلية المعتادة التي تحصل يوميا في العراق اتجاه ما يحصل من قتل واغتيالات وحرائق تكاد تكون دورية الى جانب آفة الفساد والنهب والعبث في المال العام, فجميعها تصب في خانة مخرجات نظام المحاصصة الذي تأسس بعد 2003 والذي على ما يبدوا ان مهمته الأولى هو نسف البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية والخدمية على مدار 18 عاما مضت.
ان التعاطف والمواساة مع شعب العراق من قبل اغلب دول العالم العربي والأقليمي والعالمي وكذلك من قبل المنظمة الدولية المتمثلة في الأمم المتحدة يجسد عمق المأساة التي حصلت, حيث المواطن العراقي الذي يتصرف بسجية عفوية يستنجد للخلاص من كورونا في الذهاب الى المستشفى لتلقي جرعات الأوكسجين ولكن يخرج منه متفحما مشويا. وبحسب تقرير اللجنة النيابية، فإن «مستشفى ابن الخطيب»؛ الذي أنشئ عام 1959، ” لا يحتوي على منظومة إطفاء حرائق مركزية، مع عدم وجود مراقبة وفحص نظامي من قبل مديرية الدفاع المدني”. وأشار التقرير إلى “عدم سيطرة قوات حماية المنشآت وإدارة المستشفى على أعداد المرافقين الموجودين داخل المستشفى مع مرضاهم، حيث يوجد من 3 إلى 4 مرافقين، إضافة إلى وجود آخر من الزائرين، وتبين قيام بعض المرافقين باستخدام الهيترات (السخانات) لطهي الطعام داخل الردهات”. وعلى اثر ذلك أقيل عدد من مسؤولي الصحة المحليين وسبقتها سحب يد وزير الصحة ثم قام الاخير بتقديم استقالته بشروط عدم محاسبته ” حسب ما تناقلته بعض وشائل الأعلام “.
ان تشخيص اللجنة النيابية” رغم انتقائيتها ” من حيث انعدام السلامة والآمان والتقصير في الواجب يجسد عينة ممثلة لكل الوزارات والمؤسسات والمشاريع الحكومية بل وكل المؤسسات الرسمية والاهلية, وان انفجار مستشفى ابن الخطيب يعكس عمق التدهور في مؤسسات الدولة ويجسدها بوضوح, وكان حصوله هو اماطة اللثام عن واقع مزري يعيشه البلد منذ سنوات ويعكس حجم المزيد من الكوارث التي تنتظر شعبنا, انها خلاصة مركزة لأداء نظام المحاصصة الطائفية الذي يرتكز على التعامل مع مؤسسات الدولة كغنائم تتقاسمها الاحزاب الحاكمة وتفسد فيها ضمن معايير انعدام الكفاءة النوعية في الأداء, وبالتالي فأن مفاهيم الجودة ومعايير الكفاءة العالية لا دلالة لها في نظام يستند الى الأفساد والرداءة في العمل كخيار وحيد لتحطيم مؤسسات الدولة.
ان هذا النوع من الجرائم المرتكبة وذات الطابع المقصود بسبب بنية النظام المتهالكة والفساد العام المقصود والمخطط له لتخريب مؤسسات الدولة في اطار العبث بمعايير الأداء السليم, وان كانت شرارتها اعمال فردية مقصودة وغير مقصودة, فهي تعكس حجم الهلاك والتردي الداخلي الذي يجسد بوضوح انعكاسات المحاصصة في الأطراف كما في القمة, انه عمل يحمل الكثير من القصدية في نتائجه النهائية لتخريب المجتمع ومؤسساته, وبالتالي فهي جرائم لا يمكن ان تسقط بالتقادم, أسوة بجرائم الحروب الطائفية والتهجير وتدمير المدن وسلب الممتلكات العامة والخاصة وقتل المحتجزين, وان من يحرض عليها ويرتكبها يجب ان يساق للعدالة, فهي جرائم ضد الانسانية, وقد انتهكت في العراق كل حقوق المواطن الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بكل تفاصيلها بلغت حد تهجيره وقتله ومصادرة ممتلكاته.
أن نظام المحاصصة الطائفية والعرقية وما أنتجه من تعصب أعمى، ومنذ ولادته بعد 2003 لحد اليوم كان عائقا ومعطلا للعملية السياسية، حيث حلت في الممارسة العملية الانتماءات الضيقة محل ” علم السياسة ” لإدارة شؤون البلاد، مما جعل من أحزاب الطوائف والأعراق أمكنة للحشود البشرية وليست أمكنة لانتقاء وتدريب النخب السياسية لقيادة البلاد، وكأنها تعمل على قاعدة أن الحزب يساوي كل أبناء الطائفة أو العرق بما فيها من خيرين وأشرار، وتحولت إلى أمكنة للاحتماء بدلا من الاحتماء بالدولة والقضاء كمقومات للدولة العصرية، مما فوت الفرصة على الانتقاء والفرز على أساس الكفاءة السياسية والنزاهة، وليست لاعتبارات لا صلة لها ببناء دولة المواطنة، أنه سلوك يؤسس لمختلف الاختراقات السياسية والأمنية وشتى ألوان الاندساس.
وقد عرقل نظام المحاصصة جهود أي تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تقوم على منجزات العلوم الاقتصادية والاجتماعية ومنجزات التقدم التقني والتكنولوجي، وذلك من خلال إسناد المواقع الحساسة والمفصلية في الاقتصاد والدولة إلى رموز تنتمي طائفيا أو عرقيا ولا تنتمي إلى الكفاءات الوطنية أو التكنوقراط ولا تستند إلى انتقاء المواهب والقابليات الخاصة لإدارة الاقتصاد، بل حصرها بأفراد الطائفة أو إلى توافق من هذا النوع بين هذه الطائفة أو تلك، أن هذه السياسة لا تؤسس إلى تنمية شاملة، بل تؤسس إلى ” إفساد للتنمية “، وقد عززت هذه السياسات من استفحال الفساد بمختلف مظاهره من سرقات وهدر للمال العام ومحسوبية ومنسوبيه وحتى الفساد الأخلاقي بواجهات دينية مزيفة لا صلة لها بالدين الحنيف، والأسوأ من ذلك حصر الامتيازات في دعاة كبار رجال الطائفة أو الحزب أو العرق وترك السواد الأعظم في فقر مدقع، أن أدعاء الطائفية والعرقية لتحقيق العدالة الاجتماعية هو ادعاء باطل، وان الفقر وعدم الاستقرار والقلق على المستقبل يلف الجميع باختلاف دينه ومذهبه وطائفته وعرقه..
لقد أخلت سياسة المحاصصة بالسلم الاجتماعي وأضعفت الشعور بالوحدة الوطنية والتكافل الاجتماعي من خلال خلق التكتلات والشللية السياسية والاجتماعية على أسس طائفية وعنصرية مما يعزز بمرور الوقت حالات الاحتقان والفتنة الاجتماعية، فيتحول الصراع السياسي وغير السياسي إلى صراعات طائفية وعرقية لا حصر لها، أنها عملية استنفار للاشعور الجمعي لأفراد الطوائف والأعراق، وحتى لأتفه الأسباب، وهناك فرق جوهري بين حقك المشروع في الانتماء إلى دين أو طائفة أو عرق أو قومية ما وبين أن تبني دولة تضم مختلف الأديان والأعراق.
كارثة مستشفى ابن الخطيب في بغداد هي ليست كارثة ميدانية داخل جدار مستشفى وانتهى الأمر عند حدود التحقيقات الميدانية والتصريحات العبثية, لا أنها كارثة جسدت بوضوح طبيعة الفساد المستشري في مؤسسات الدولة ومدى خطورته على حياة الناس كالمؤسسات الصحية مثلا, ومثلها ايضا في قطاع الكهرباء والماء والتعليم ومجمل الخدمات الاجتماعية, انه انعكاس مزمن لتردي البنية التحتية الغارقة في الفساد الاداري والمالي, وبالتالي فأن محاسبة مسؤولين ميدانيين من الصحة والمستشفى ” رغم اهمية ذلك في ظروف طبيعية ” هو امر عبثي لصرف الانظار عن حجم الازمة المستعصية ومحاولات تنفيسها ببعض الاشخاص .
جريمة مستشفى ابن الخطيب هي توأم لجريمة قتل 700 متظاهر سلمي في احتجاجات اكتوبر خرج للمطالبة بحقوق الحد الادنى من العيش الكريم ولكنه لقى حتفه من قوى الظلام المحاصصاتي كما لقاها راقد مستشفى ابن الخطيب بسبب فساد ذات القوى المجرمة التي تتصدى لكل محاولات الاصلاح وتحسين الحياة كما ونوعا. المجد والخلود لكل ضحايا وشهداء نظام المحاصصة والنصر لقضايا شعبنا في التقدم والحرية والسلم المجتمعي