الباحث/عبد الحميد برتو .
ضمن متابعتي اليومية لما تنشره الصحافة. تصفحت موقعاً إليكتورنياً عربياً، بل الأصح يستخدم اللغة العربية. تحدوني رغبة في التعرّف على موقف الجهات الرسمية المعلومة، التي تقف خلفه. وجدت في لوحة عناوينه الرئيسية عناوين لأحداث عربية فلسطينية رئيسية على النحو التالي، أولها: “معركة السكن في يافا من أسباب المواجهات بين العرب واليهود”، ثم “صواريخ حماس والجهاد: تقنية إيران وتدريب الحرس الثوري”، “”حماس” ليست فلسطينية!!”، “التقاتل الفلسطيني ـ الإسرائيلي”، “إسرائيل وغزّة: قبل وبعد «التهدئة»”، وآخرها “الشيخ جراح .. والحاج سليماني”.
هذا اليوم، هو اليوم العاشر من أيام القتال غير المتكافئ بين الشعب الفلسطيني وقوى التطرف الصهيوني المدعومة أمريكياً، تحت شعار أو غطاء أمريكي، يقول: لنتيح وقتاً أطول للجهد الديبلوماسي، أي على أرض الواقع تعني العبارة الأمريكية: لنتيح وقتاً أطول للطائرات الحربية الحديثة جداً، التي تمثل ذروة التقنية الأمريكية، وتحمل في أطرافها وداخلها أقوى الصواريخ تدميراً، بطاقة تخصص طائرة لكل كيلومتر مربع من مساحة قطاع غزّة في كل جولة غارات. بديهي أن يأخذ وينال مثل هذا الحدث الجلل قصب السبق عربياً وإقليمياً وعالمياً. وأن يثير أسئلة عميقة ومشروعة ومرارات وآلام لا حدود لها. ومعروف أن للإهتمام العالمي المعلن حالات مختلفة، من حيث النوعية وطبيعة الإهتمام.
علمتنا التجارب القاسية ألاّ نحكم على الموضوعات من عناوينها حسب. لكن تلك العناونين التي إحتواها الموقع تثير الظنون، حتى لو كان القارئ ليس يقظاً أو حذراً أو فطناً. تدفع القارئ الى إطلاع على تلك الموضوعات، ليس تحت تأثير المهارات الفنية في الصياغة. إنما لأن ما يجري شديد الأهمية بكل المعايير.
إذا كان من الضروري إعلان مبادئ في كل مقال أو خاطرة أو كلمة. أقول: قلت قبل هذا الوقت أن الدين السياسي، هو مجرد غطاء زائفة، وإنه في الغالب صناعة معادية، وهو آلة نحسة بيد قوى الهيمنة العالمية والإقليمية ضد مصالح الشعوب.
عاد الحكام العرب خلال الأسابيع الأخيرة، بما فيهم مخلفات الإحتلال الأرعن للعراق 2003 بالحديث عن الجامعة العربية والتعاون والتضامن العربيين والمصالح المشتركة وما الى ذلك. جرى ذلك تحت وطأة شعور الحكام العرب بوجود بعض مظاهر التململ الشعبي بدرجاته الدنيا في دولهم. فأجمعوا على إمتصاص تلك المظاهر من خلال التبني الزائف لحقوق الفلسطينيين وسكان بلادهم أيضاً. وفي كل الحالات يعرف الجميع بأن مَنْ يُقتلع من أرضه تكون عنده محفزات النضال أعلى بدرجات عن مَنْ يقف على أرضه، مع تعرضه لبعض الإذلال المقنن. هذا الواقع ضاعف حقد الحاكمين على كل شعب فلسطين، بما فيهم مَنْ بدا عوده ضعيف أو فيه بعض الضعف أو سعى الى الدعة والراحة من أعباء النضال بكل مراتبه.
كما إن مَنْ يقمع شعبه لن يكون نصيراً حقيقياً لشعب آخر مهما كانت درجة القربى. هذا إذا لم يستخدمهم وقوداً لمصالح إستمرار حكمه وتسلطه وسرقاته وغيرها من مباذل السلوك والإجراءآت.
نعود الى الموضوعات المنشورة فالمادة الأولى: معركة السكن في يافا من أسباب المواجهات بين العرب واليهود لوكالة فرانس برس ـ أ. ف. ب. صيغة المادة بحرفية عالية، أي محاولة خلق توازن كلامي بين الطرفين دون أية مقارنات نوعية، بمعنى أن غير المتابع لا يتعرف على ما جرى طمسه، وعدم توفر شروط التكافئ في كل المقارنات المطروحة.
تبدو القصة الخبرية التي بُنيت عليها المادة للقارئ المتعجل منصفة، فقد صيغت على النحو التالي: يافا: تجنبت إسراء جربوع إبنة مدينة يافا المختلطة التي يعيش فيها العرب واليهود لأسبوع الذهاب إلى عملها في متجر خشية من أن يتهجم عليها يهود في الحافلة التي تقلها إلى خارج المدينة. وقالت ابنة السابعة والعشرين التي تضع على رأسها منديلًا “سيرون أنني متدينة… لا يوجد أمان”. وعبر عن مخاوف مماثلة لطالب المعهد اليهودي ديفيد شفيتس (24 عاماً) الذي يعيش في مكان قريب وقال إنه تعرض للرشق بالحجارة، فيما تعرضت سيارة صديق له وكنيس قريب لإشعال النار. وقال “نحن نتحرك الآن في مجموعات كبيرة ليلا وترافقنا الشرطة حتى نصل إلى منازلنا”.
ماذا في هذا النص إنه منصف للغاية، أليس هذا هو الإنطباع الذي يتشكل في اللحظة الأولى. ربما يحتاج النص لبعض التأمل، وهو الذي لا يتوفر دائماً في القراءآت الصحفية العجلى. إنظر الفرق الذي أخفي بعناية أو إنه قائم على ذخيرة خلقها الضخ الإعلامي في ذهن حتى بعض الناس الطيبين. الفراق أن الفلسطينية إسراء جربوع تجنبت الذهاب لمجرد الخشية وعدم الإحساس بالأمان، بينما طالب المعهد اليهودي ديفيد شفيتس “إنه تعرض للرشق بالحجارة، فيما تعرضت سيارة صديق له وكنيس قريب لإشعال النار”. عليه تصبح المقارنة في النص على النحو التالي: مَنْ الذئب و مَنْ الحمل الوديع؟
ليكن الله معك يا شعب فلسطين، حتى الذي يخطط ليكون محايداً، حسب مصلحة الخاصة، هو غير محايد بل يمرر كل ما يمكن تمريره ضد مصلحتك. أكتفي هنا بعرض حالة إنصاف أخرى من سلسلة الإنصافات، التي حملتها هذه المادة للوكالة الفرنسية: “وانعكس التصعيد على اليهود والعرب الذين يشكلون 20% من سكان إسرائيل، وتم استهداف معابد يهودية ومساجد ومقابر ومطاعم وحتى مسرح، وقُتل شخص واحد على الأقل”. ولكن القتيل لم تحدد هويته، فلسطيني كان أم ماذا؟
حين أنتقل الى المادة الثانية في موقع ايلاف ليوم الإثنين الموافق 17 مايو 2021 الموسومة بـ”ترسانة تضم 30 ألف صاروخ، صواريخ حماس والجهاد: تقنية إيران وتدريب الحرس الثوري، مراسلو إيلاف ووكالات”. وجدت هذا العنوان في هذه اللحظات عنواناً إستفزازياً بائساً لا تخدم الجهة التي تبنته. ولم أجد غير أحد شعراء المعلقات العشر التي علقت على جدار الكعبة معيناً، هو الشاب الشاعر طرفة إبن العبد، الذي قُتِلَ قبل 70 عاماً من تاريخنا الهجري، يقول: وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مضاضة ًـ على المرءِ من وَقْعِ الحُسامِ المُهنّد.
هنا لا توجد مهارة إعلامية كما الحال للوكالة الفرنسية، بل يوجد غباء تحريضي، أخذ صفة الجماعة وليس محرراً واحداً. ويا لخيبة البحث والتقصي، حيث جرى الإعتماد على مصادر “محايدة” جداً. هي حسب تسلسل ورودها: موقع الحرة، الجيش الإسرائيلي، ووال ستريت جورنال، المخابرات الإسرائيلية، صحيفة نيويورك تايمز، مراقبون، أحد القادة العسكريين في حماس ـ يحيى السنوار، ذا صن، وأخيراً مسؤول استخباراتي غربي لصحيفة الديلي تلغراف.
أراد المقال إستغلال النفور الشعبي من تصرفات إيران الكريهة خاصة في العراق. لينسبوا تسليح الفصائل الفلسطينية لها. هذا شرف تمنحوه لأي جهة تسلح الفلسطينيين وليس إتهاماً. بل أضافوا إستدراكاً: “وإن لم تكن تلك الصواريخ صناعة إيرانية بالكامل، فهي مزودة بمواد أو معدات زودتها إيران لهذه الجهات، بحسب صحيفة ووال ستريت جورنال”.
إن النفس العدائي ضد بطولات الشعب الفلسطيني لم يخفيه التستر وراء نقل أحاديث المعادين للشعب الفلسطيني بكل “حيادية”. وحين جرى إستخدام مصدر فلسطيني في المقال إستخدم لمرة واحدة. نسب الى يحيى السنوار، الذي وصفوه بأحد القادة العسكريين في حماس. وهذا هو النص المنسوب الى السنوار: في مايو من عام 2019، قال أحد القادة العسكريين في حماس، يحيى السنوار، “إنه لولا دعم إيران، لما كانت لدينا هذه القدرات”. وهو الأمر الذي أثار اهتمام القادة العسكريين في إسرائيل حالياً، فلم تعد مشكلتهم مع تهريب الصواريخ التي يمكن أن تصل لغزة، ولكن تنامي قدرات ومهارات حماس في التصنيع محلياً هو ما يثير قلقهم”.
إن كل جملة في هذه التغطية أو المتابعة الإعلانية تكشف حقيقة إنحطاط بعض المثقفين والإعلاميين حتى من الزاوية المهنية الفنية حسب. وفي حالات كثيرة باتوا يشكلون ضرراً على أرباب عملهم. ومن حسن حظهم أن أولياء نعمتهم قد فقدوا البصر والبصيرة تحت وطأة الخوف من تململ شعوبهم المستباحة من قبلهم ومن قبل كل مَنْ هب ودب.
أما مقال: “حماس” ليست فلسطينية!! للسيد صالح القلاب، وهو سياسي وإعلامي أردني تقلد مناصب هامة، حكومية منها وتشريعية في الأردن. فقد وضع السيف موضع الندى في هذا الظرف الدقيق. فمن حق أي كاتب أن يشير الى الجانب العقائدي لدى الطرف الآخر، على أن يبرر الوصف الذي يطرحه. لكن تجريد آخر من هوية الوطنية، فهو أمر غاية في التعسف. حماس فلسطينية ولا يستطيع أحد من ألد إعدائها تجريدها من هذه الصفة. أستعير قول الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات: “شاء مَنْ شاء وأبى مَنْ أبى”.
إنه لأمر مؤسف أن يذهب مقال السيد القلاب صوب إعاد أو التذكير ببعض الصفحات المؤلمة في تاريخ العلاقات بين الفصائل الفلسطينية، ولاسيما بين فتح وحماس. هذا بدلاً عن التشديد على ضرورة الدعوة الى التعاون المشترك البناء، كحاجة موضوعية لا فكاك منها، حتى في الظروف الإيجابية، فكيف الحال اليوم؟
يأتي مقال “التقاتل الفلسطيني ـ الإسرائيلي”، للسيد حسين سينو، الذي يشي عنوانه بالكثير، عن الروحية التي تأسس عليها. إختار الكاتب مسك العصا من وسطها، معللاً موقفه بالنزعة الإنسانية. لكنها نزعة ظلت عائمة وبلا ضفاف على الإطلاق. لا يريد سينو رؤية مشاهد القتل فقط. ذكر مشاهد مما تعرض له الشعب الكردي. ولا يسعى الرجل الى التمييز بين الطرفين صاحب الأرض والمحتل. هذه حالة أو طرح لا يميز بين الضحية والجلاد.
أما مقال “إسرائيل وغزّة: قبل وبعد «التهدئة»”، الذي نُقِلَّ عن جريدة الإتحاد الإماراتية لكتابه السيد عبد الوهاب بدرخان. قد أورد الكثير من القضايا الهامة والحساسة. لكن الكاتب تدرع بواقيات صلبة، على طريقة ناقل الكفر ليس بكافر. منها، قال: البيت الأبيض، البابا فرنسيس، وزير الخارجية المصري سامح شكري. بدا لي أن الرجل يعرف جيداً أين يكتب، ولهذا إتقى لحد ما نيران أهل الأمر والنهي.
وصلنا في جولتنا الى آخر محطة حملها موقع ايلاف عن جريدة عكاظ السعودية. وهو مقال بعنوان: “الشيخ جراح.. والحاج سليماني” لكاتبه عبدالرحمن الطريري. لنتجاوز عنوان المقال الإستفزازي وغير اللائق. نقرأ أول جملة يبدأ بها المقال، ولكن وجدت أن نقل الفقرة الأولى كاملة أجدى وأدق. جاء فيها: عادة ما تربط قضية فلسطين بالضمير الإنساني في الخطاب الشعبوي، بالرغم من أن ارتباطها بالوعي الفكري هو السبيل للفصل بين التجارة والدعاية والسياسة والحقوق، حيث إن الشأن الفلسطيني هو أمر جاهز لتوزيع التهم ولخلط الأوراق على حد سواء.
لم ير كاتب مقال “الشيخ جراح .. والحاج سليماني” في العدوان الأخير على شعب فلسطين، الذي بدأ بحي الشيخ جراح المقدسي، وإمتد الى حالات من الدفاع السلمي والحرب والإحتجاج على صفتي ما عرف بالخط الأخضر غير العلاقة مع ما حدث في موقع نطنز النووي الإيراني. مهما أحاول الترفق مع صاحب هذا المقال، فلا أجد أكثر رحمة به من القول إنه العمى السياسي والفكري والوطني أيضاً.
إن قطاع غزّة ليس أرضاً للأخوان المسلمين أو إيران، ولا حتى لحماس وحدها. إنه جزء من الأراضي الفلسطينية، ومن الشعب الفلسطيني. يُشكل أقل 1,5% من المساحة الكلية لفلسطين تقريباً. ولا يزيد عدد سكانه عن مليوني مواطن. لكنه قَدم ويُقدم درساً عظيماً لكل حركات التحرر الوطني، يقول: إن أرضاً تبلغ مساحتها 360 كم2 فقط، تحيط بها جبهة برية من جهتين وجبهة بحرية متخمات بأحدث أسلحة التدمير، وتغطيها جبهة جوية مغلقة بأحدث الطائرات، ولكنها جميعاً عجزت عن تحقيق نصر يُعتد به وغير إجرامي.