«عين حمورابي» مجتمع الخرافة … سلطة الجريمة
تعرفت على الكاتب الجزائري عبد اللطيف ولد عبد الله، من خلال روايتيه السابقتين: «خارج عن السيطرة» و«التبرج»، سعدت كثيراً بالنفس البوليسي والنفسي الذي تفتقده الرواية العربية، على الرغم من أن مجتمعاتنا تختزل كل مظالم العالم ببنياتها الأمنية والعسكرية المهيمنة. أحسست يومها أن الرواية البوليسية – النفسية بدأت تخلق نماذجها العربية. أعادتني كتابات عبد اللطيف إلى زمن مضى كان جيلي مسكوناً فيه بالرواية البوليسية، وكانت سلسلة «النهر الأسود» fleuve noir توفر هذا النوع من النصوص، فقرأنا أعمال جيمس هيدلي تشيز كلها، بمتعة متناهية. كبرنا في هذا النوع من الأدب الذي اعتبر دوماً كونه نوعاً أدبياً ثانوياً Sous-littérature. أهم شيء كانت توفره الرواية البوليسية فنياً هو قوة الحبكة ومنطق السرد المحكوم بعقل تحليلي مسبق، وعنصر الفجاءة، ومَحْوَرَة الأحداث حول نقطة كثيراً ما تلتفّ حولها بقية الوقائع الروائية، قبل أن يمنحها الشرعية الحقّة كبار الكتاب العالميين من أمثال أمبيرتو إيكو «اسم الوردة»، ودان براون «دافنشي كود»، وستيغ لارسن «ملينيوم»، كلها روايات عالمية اعتمدت السردية البوليسية في نظامها البنيوي، وسخرته لتشييد نصوص عالمية عظيمة.
رواية «عين حمورابي» (دار مسكلياني ودار ميم 2020، 318 ص) تندرج ضمن هذا النوع. فهي تنفتح منذ اللحظة السردية الأولى على وحيد حمراس هارباً من غوغاء تريد قتله، ثم مواجهاً ضابط المباحث الذي يسأل ويرقن، والرجل الفولاذي الذي يجلس خلفه (ج) ولا يتكلم إلا نادراً، إذا تخطينا عتبة اللحظة البدئية Incipit التي يستغلها الكاتب لتقديم المكان «الدوار» وقصة الجد، وولديه اللذين تحولا إلى وليين صالحين بسبب كراماتهما: الحراق والمجدوب، داخل عالم تحكمه الأساطير والخرافات. فالرواية وإن اختارت موضوعة الأولياء ونقد الخرافة، وهي خاصية مغاربية، يمكن تعميم الوضع على المجتمعات العربية. فما يحاك عن الوليين هو جزء من الخرافة المعممة التي تنام في قبة الجهل المقدس. فلا وجود لهما مطلقاً، إذ إن المقامين ليسا في النهاية إلا مكانين بناهما عالم الآثار هاينريش فون مالتسان، خبأ فيهما مخطوطاته وخرائطه بعد أنْ تأكد بأن المكان أثري بامتياز، حولهما الناس من بعده إلى أمكنة للتبرك. هذه العقلية الأسطورية هي المهيمنة اجتماعياً، يبدلها العقل شيئاً زائداً ومضحكاً، لهذا كلما تكلم وحيد، تغامز الناس من سذاجته؟ كل الوقائع تمر عبر هذا التخلف الكبير الذي يتحكم في ممارسات الناس الإجرامية: أم وحيد ضربها والده ليلة عرسها فكسر أسنانها دون حسيب أو رقيب. مثّل السكان بجثة نجاة بشبهة الشعوذة وخيانة زوجها. حتى حبيبته الأولى نجاة، لم تنج من هذا النظام، فقد أصيبت بالعمى بسبب ضربها بعنف من طرف زوجها. مجتمع الأحقاد غير المبررة، أب حاقد على اليهود بلا مبرر مسبق، سوى الميراث والخطابات العمياء. أمه الطيبة أيضاً زرعت فيه الحقد ضد أخيه غير الشقيق مجيد حمراس الذي ارتمى في أحضان التطرف الديني، بسبب الأنانية العمياء.
ضابط التحقيق ينتظر من «حمراس» أن يفرغ كل أسرار جرائمه الثلاث المرتكبة، التي يجمع بينها عنصر غريب يتكرر، مما يفترض أن الجاني واحد، كما رأينا ذلك في الرواية البوليسية الإنجليزية: القاتل يجهز أولاً على ضحاياه الذكور، ينزع أعضاءهم ثم يدفن الخصيتين في أفواههم. لماذا فعل الجاني ذلك؟ الضحية الأولى، عثمان باي، وجد مقتولاً ذبحاً، والضحية الثانية فيصل مملوك وجد مذبوحاً أيضاً، والضحية الثالثة التاجر الحاج محمد، الذي أجْهِز َعليه بطلق ناري. يجد وحيد حمراس في دائرة الضيق ولا خيار له أبداً، محقق مريض، ينتظره لينتقم منه أيضاً. يقدم للمحقق خيطاً يوصله إلى المجرم الحقيقي: السيد السبعيني، فقد رآه وهو يقتل عثمان باي. وبناء على معطيات بقية الجرائم، لا بد أن يكون هو من قتل الآخرين. يرفض لعبة ضابط التحقيق الذي يستدرجه نحو صورة عمرها ثماني سنوات، المرأة التي قتلت مع ابنتها وطفلها الصغيرين؟ لعبة القط والفأر التي تكشف لنا عن خلفية شبيهة بالاكتئاب والانفصام، يعاني منها وحيد، وإن لخص هو نفسه مرضه للمحقق: مرض فقدان الذاكرة المؤقت، وهو أقرب إلى الزهايمر.
فقد مزج الكاتب بين نوعين من الكتابة الروائية في هذا النص المميز بفكرته وحبكته وهواجسه المبطنة، بين الرواية البوليسية المبنية على الجريمة والتحقيق، والرواية النفسية التي تعمل على كشف خفايا الشخصية التي تقوم بأفعال لا تتحكم فيها أبداً. يقودنا الكاتب في هذا السياق، في دهاليز نفسية وحيد العصابية التي كثيراً ما كانت تجعل من الرواية مونولوجاً داخلياً، لا تصل المحقق إلا بعض تفاصيله المبتورة، قبل أن تتضح الرؤية ليصبح كل شيء «تحت السيطرة» فنكتشف أن وحيد حمراس ليس إنساناً عادياً، فتصرفاته كلها محكومة بخلل ما، يجعله ينبته لازدواجية شخصيته. ليس الرجل السبعيني (أ) إلا أناه المريضة التي احتلت داخله بقوة. الصورة التي قدمت له هي لزوجته فاطمة وابنيهما؟ الذين قتلوا عقب سفره إلى فرانكفورت لدراسة المسح الطوبوغرافي. رجل على حافة الجنون يعيش حرباً ضروساً في داخله. تتضح الرؤية شيئاً فشيئاً كلما عادت له الذاكرة المتعبة. فاطمة وأم الطفلين التي راودته في لحظة من اللحظات خارج الطقس الاجتماعي الذي يمنع المرأة من استقبال الرجل الغريب، وحكى لها عن حرائقه الداخلية وخوفه المبطن، لم تكن إلا زوجته وحبيبته. وعبر تفكيك صورتها مع ابنيها، تعود له الحقيقة التي ضاعت منه، إذ تخبره العجوز بأن المرأة التي يسأل عنها ماتت منذ ثماني سنوات. يزور قبرها، وهناك يفاجأ بما كتب على الشاهدة: المرحومة فاطمة زوجة وحيد حمراس. وبجانبها قبر ابنيها. في تلك الحظة يقرر الانتقام من الثلاثة الذين اغتصبوها وقتلوا ابنيه، ويقرر قتل رجل الدين الكاذب الشيخ عيد الوهاب القرشي، الذي كان يعرف المغتصبين وحماهم بصمته، ويعرف أيضاً أن الزبير، والد وحيد، هو من رمى أمه في البئر. ويؤكد له المحقق أن الشخصيات التي ذكرها في التحقيق لا وجود لها في البعثة الألمانية، لا (ك) ولا هيلين بلانك. لكن بالمقابل، هناك ماتيلد رفيقته السابقة التي انفصل عنها بسبب شراهتها الجنسية.
تضعنا الرواية أمام حقيقة مرة، عندما يصبح الجهل هو المتحكم في مصائر البشر. العقل مغيب بسبب هذه العقلية الأسطورية التي يحكمها شيء من الطقس الديني الدموي القديم (الشيخ عبد الوهاب) والخرافة التي تسير الشعب بالمنبهات، والاستجابات الشرطية البافلوفية. بل إن الجهل المقدس، كما يسميه الباحث أركون، أصبح هو المتسيِّد، وكل عاقل هو ضحية نظام في النهاية، إما أن يهرب أو يصبح مجنوناً يعيش في عالم مواز مشبع بالرغبات الانتقامية.
ليست في النهاية اللحظة البدئية التي تنطلق من جملة خطيرة يقولها ضابط المباحث لوحيد: «لصالح من تعمل؟ ومن وراءك؟ ص14» إلا ناقوس خطر داهم تلتغي فيه إنسانية الإنسان، وتحل محلها جهنم الطغيان التي لا تقبل بتعرية مجتمع آيل إلى الموت الذاتي.
«عين حمورابي» أكثر من رواية بوليسية، نص شامخ بُنِيَ بحرفية كبيرة وبلا أي خطاب سياسي منفوخ، ولغة اقتصادية متينة، حتى ولو كان جزء منها يمر داخلياً، عرّت من خلال محنة فرد مجتمعاً عربياً مبنياً على كذبتين كبيرتين، وعلى مقدّسين يعومان في بركة الظلم والتخلف: المجتمع (بصورته الغوغائية القامعة) والمؤسسة أو السلطة (مركز المباحث) التي تذلّ الإنسان، وتظهر له كأنها منقذه، بينما تعمل على إغراقه ودفنه حيّاً.