السماء تزدحم بأطفال غزة وعلى أرضها صغار يصرخون : «خايفين نموت»
كان يا مكان في زمن أغبر ليس ببعيد، طفلة تعيش في بيت متواضع مع عائلتها في رقعة من الأرض صغيرة، لكنها تتسع بخطوات صغارها.
كانت متعلقة جداً بوالديها. تفتح عينيها صباحاً تركض لتختبئ في ثوب أمها. هناك في ظله، تحت جناحيه كانت تشعر بالأمان.
وكانت تحب أخوانها الأربعة. تؤلف معهم حبات من المطر لتغسل بها غبار المدينة.
أخبرتها أمها أنها هي أيضاً ولدت في البيت نفسه وبأن جدتها ورثته عن أجدادها.
لم تكبر كثيراً. كانت ما تزال طفلة حين سمعت صوتاً قوياً يهز البيت. يومها لم يكن والدها معهم. خرج كعادته للعمل. لم يكن يعرف أن غيمة سوداء ستلتفه من رأسه حتى قدميه.
ركضت الطفلة وإخوتها ليختبئوا في تنورة أمهم. فلطالما احتموا بها. لكن أمهم طلبت منهم أن ينبطحوا بسرعة على الأرض ونامت فوقهم.
لم تمر لحظات حتى دوّى صوت أقوى من سابقه. وبدأت تتساقط الحجارة. والأم تغني لأطفالها:
يلا تناموا يلا تناموا
لذبحلكم طير الحمام.
لم تكمل جملتها الثانية حتى ساد صمت عميق. وسواد قاس. وبدأ ينقطع الهواء شيئاً فشيئاً.
عاد الأب إلى بيته. وجده ركاماً. لا سقف ولا أبواب ولا شبابيك ولا أولاد ولا زوجة. حتى عصفور الدوري، الذي كان يرفرف دوماً حول الدار، كان غائباً.
جاء فريق الإسعاف والمنقذون، وجدوا الأم وأطفالها جثثاً مقطعة. فقد الأب وعيه. لم يكن يتوقع أن يجد طفلته نور على قيد الحياة. خرجت نور إلى الضوء.
نظرت إلى والدها وسألته ببراءة: أين أمي؟ أين إخوتي؟
جاءت سيارة الإسعاف ونقلت نور إلى المستشفى.
هناك علمت أنها خسرت أمها وإخوتها. علمت أن ذلك الصوت يسمى صاروخاً.
علمت أن إسرائيل قتلت عائلتها، لأنها تريد سرقة أرض أجدادها وبيوتهم بحجة خرافات قديمة.
وقف والد نور مكسور الظهر ينظر إلى جثة أحد أبنائه ويصرخ بأعلى صوته: كيف تبقى صغيراً؟ أخبرني كيف تبقى صغيراً.. كيف؟
وكيف ستورق كل يوم من جديد ويزيد إخضرارك اخضراراً؟
كيف سأحتمل يومياً التحام لحظات الولادة بالموت؟
كيف تكبر العصافير يا ولدي كيف؟ ثم تهاجر وتعود آلاف المرات. آلاف المرات تعود. وأنت كما أنت صوتك الطري مشحون بندى الولادة الأولى. تطارده ذاكرتي وتتربص له على مفارق السنوات.
كيف تتركني محملاً بهشاشتي، أكاد أقع ولا يد دافئة تنتشلني لأقف من جديد.
يُقال إن الأطفال ينهلون من أعمار أبائهم ليكبروا. لمَ رحلت بعمرينا معاً؟
هل تظنون أن حكاية نور ولدت من الخيال؟
للأسف إنها قصة آلاف الأطفال الفلسطينيين.
صور وأخبار لا يتسع لها حتى الألم، تتناقلها الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي بشكل مكثف منذ بدء الاعتداء الإسرائيلي المجرم على غزة. أطفال يرحلون أفواجاً إلى السماء.
حتى ازدحمت السماء بهم واتسعت كثيراً بعد أن ضاقت الأرض!
إلى متى يستمر النزف الفلسطيني؟
متى سيتحرك قادتنا العرب بشكل فعلي ويساندون الشعب الفلسطيني لاسترداد أرضه؟ متى ستصحو الضمائر النائمة؟
أحياناً أتساءل هل وصلهم وجه نور، بعد أن أظلمته الدماء؟
صغار يواجهون الموت
قصص أخرى كثيرة انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي. تختصر كلها بالموت والبكاء والوجع والطفولة المذبوحة. أبطالها صغار جداً. كانت أصواتهم ترتعش فيها من الخوف. من أين أبدأ؟
أمن شهقة طفلة لا تتعدى الخمس سنوات تختبئ تحت اللحاف وهي تردد: «خايفة تنهد الدار ونموت كلنا….»!
طفلة تعرفت على الموت في سن مبكرة.
أو من صوت أخرى تحاول أن تتماسك لتظهر قوة أكبر منها فتقول: «هاي الإسعاف. الله يستر. عن جد».
ثم تصمت للحظات قليلة لتنفجر فجأة ببكاء مر وعويل.
هل أحدثكم عن تلك الصغيرة صاحبة العينين الواسعتين. عمرها قد يكون ثلاث سنوات لا أكثر. ما زالت تتلعثم بالحروف تقول خائفة: رموا «أواريخ».. أنا خايفة. وتقصد طبعاً بالأواريخ: صواريخ.
لا تعرف كيف تنطقها، ولكنها تعرفها جيداً. فهي تتساقط فوق بيتها وبيوت جيرانها بكثرة.
ماذا أخبركم عن ذلك الولد صاحب القميص الأزرق يمشي أمام جثة أبيه، التي حملت فوق أكتاف الشبان وهو يقول جاهشاً بالبكاء: الله يسهل عليك يا بابا.
كيف سرقتم طفولة هؤلاء الصغار؟ كيف اغتصبتم أعمارهم؟
وماذا نقول عن كبارنا المتفرجين المتخاذلين والمتواطئين مع الإجرام بالسر أو العلانية؟