لهذا ترك الحصان وحيدا!
أرخ محمود درويش لجوهر فكرة الأرض الضائعة في الوعي الجماعي العالمي فسأل ولد القصيدة أباه لماذا ترك الحصان وحيدا.
لصورة الحصان المتروك لحال سبيله أكثر من تأويل ودلالة، أولاها البيت والأسرة، فالحصان لا يزال في الكثير من بقاع العالم، خاصة الريفية منها، ذلك الحيوان الأليف، المساعد الأبدي للإنسان المنهمك في أشغاله اليومية، عمادا أساسيا من أعمدة الاستقرار الاقتصادي (بعبارة أخرى، الاستقرار) لأسر دفعتها مآلات الدهر إلى اللاقرار.
حضور الحصان مستمر. لا تعبث به رياح الرحيل العاتية الهوجاء «إلى أين تأخذني يا أبي؟ إلى جهة الريح يا ولدي».
تأثرت بصورة الحصان، ربما لأنه يوجد واحد أيضا في قريتي.
لكن إدخال الحصان داخل قصيدة – ملحمة، تذكير أبعد من التأثير، فهو يوقع التشخيص في صلب الرهان المقبل: استرجاع أرض منهوبة لا يمكن إلغاء تقاسيمها لأن بالـ«رحيل» لم ترحل هويتها: «الكمنجات تبكي على زمن ضائع لا يعود»- يقول الشاعر في قصيدة أخرى.
لكن سرعان ما يستدرك: «الكمنجات تبكي على وطن ضائع قد يعود». وإذا كان الأب يأخذ ولده «إلى جهة الريح» وإذا كانا يخرجان «من السهل» فالحصان يظل ساكن السهول والبيوت، الأبدي، أبدية لم يفوتها الشاعر: تفتح الأبدية أبوابها من بعيد لسيارة الليل (قافلة الليل)
تعوي ذئاب البراري على قمر خائف
لكن الحصان يؤنس البيت، بل أكثر، إنه شاهد على العودة يوما، تلك العودة الموعودة التي توسم قصائد درويش، إلى الأبد.
– فاصمد معي لنعود
-متى يا أبي؟
غدا، ربما بعد يومين يا ابني.
هناك من يرى العودة من سابع المستحيلات، لكن هناك من يرى الشعر أيضا ليس سحرا ولا وهما ولا خيالا بل واقعا.. واقعا بديلا، يستعاض فيه بقوة الكلمة عن قصور المعيش إلى حين، لهذا ترك الحصان وحيدا، لأنه يقوى على إيناس البيت الذي غيبته عوادي الدهر إلى حين، يرى الشاعر، هو الذي يردف قائلا في قصيدة أخرى وبكل منطق.. بصبر الحصان المعدّ لمنحدرات الجبال.. انتظرها.
باحث وإعلامي فرنسي