كاظم حبيب
هل الانتفاضة الجديدة إعادة إنتاج موسعة في العمق والشمولية؟
في مقالتي السابقة 21/05/2021 أشرت إلى “أن الظروف السيئة جداً التي هيأت الأرضية الصالحة لانتفاضة تشرين الأول/أكتوبر 2019 لم تبق كما كانت عليه حينذاك فحسب، بل تدهورت الأوضاع أكثر فأكثر وأصبحت تنذر بكوارث جديدة يتحملها الشعب العراقي بكادحيه وفقراه بشكل خاص”. هذه الحقيقة المُرّة تعود لأسباب كثيرة، بما في ذلك عجز انتفاضة تشرين الأول/ اكتوبر 2019 عن تحقيق أهدافها الوطنية والديمقراطية، أي إنها عجزت عن استعادة استقلال العراق وسيادته الوطنية ومنع التدخل في قراراته السيادية الخاصة في شؤونه الداخلية والخارجية (أريد وطن) من جهة، وعجزت عن إنقاذ الدولة والشعب من الطغمة الحاكمة التي برهنت بما لا يقبل الشك على نهجها الطائفي الممعن بالكراهية والحقد للآخر والاجهاز التام على مبدأ المواطنة الحرة والمتساوية والموحدة بممارسة التمييز المفرط أولاً، ومحاصصاتها المذلة للشعب كله ثانياً، وفسادها الشرس ونهبها وتفريطها بخيرات البلاد وابتعادها كلية عن التنمية الوطنية وافقار غالبية المجتمع وتجويع الفقراء والمعوزين منهم ثالثاً، ومصادرتها للحقوق الأساسية للمواطنات والمواطنين، لاسيما حق الإنسان في الحياة والكرامة والحرية وحرية التعبير والتظاهر والعمل والعيش الكريم رابعاً، وتعرض نشطاء الشعب المدنيين للقتل والاختطاف والاعتقال والسجن والتعذيب والموت في سراديب سرية، مما جعلت شعب العراق يعيش في ظلمتين قاهرتين، ظلمة الدولة الهامشية والمهمشة التي لا تحترم دستورها وقوانينها ومواطنيها ومواطناتها من جانب، وظلمة الدولة العميقة التي يقودها خامنئي بأذرع عراقية بائسة وجاحدة لشعبها وقاتلة لمزيد من الناس وناهبة لمزيد من الثروات ومستفردة بالفرد والمجتمع خامساً، من جهة أخرى ( نازل أخذ حقي).
هذا العجز لم يكن ذاتياً فحسب، بل وموضوعياً، بما في ذلك العجز عن تحقيق التعاون والتنسيق والتحالف بين قوى الانتفاضة التشرينية واختلال ميزان القوى في غير صالح قوى الانتفاضة. سأحاول هنا توضيح رأيي، بشكل خاص لمن يعتقد بأن الانتفاضة حققت اهدافها بإسقاط حكومة رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي وتشكيل حكومة مصطفى الكاظمي.
السؤال المشروع: ما هي العوامل الذاتية والموضوعية التي اعاقت تحقيق النصر في انتفاضة تشرين الباسلة؟ أطرح هنا اجتهادي الشخصي في الإجابة عنه وأعرضه للنقاش:
- العوامل الموضوعية: أشخصها بما يلي:
أ) الكابوس الثقيل الذي عاش تحت وطأته شعب العراق طيلة العهود البعثية-القومية-البعثية التي أفرزت اوضاعا فكرية وسياسية واجتماعية ونفسية وعصابية معقدة جدا ومتداخلة بين الخضوع الديني-الطائفي غير المستنير وخنوع المرعوبين والروح الانتهازية الوصولية التي تنتجها النظم الدكتاتورية الشمولية.
ب) تدهور شديد لما تبقى من مدنية المجتمع التي نشأت في العهد الملكي وعودة شديدة لدور فكري واجتماعي بدائي متخلف من تشابك وتفاعلي بين العشائرية والمؤسسات والمرجعيات الدينية على حساب مبادئ وقيم المجتمع المدني الديمقراطي، وتفكك وحدة المجتمع وتحولها إلى مكونات عشائرية ودينية وطائفية وقومية غير متفاهمة ومتصارعة، والعمل بالهويات الفرعية القاتلة على حساب الهوية الوطنية، هوية المواطنة الحرة والمشتركة والمتساوية الواحدة.
ت) ولعبت السياسات الدكتاتورية والعسكرية والحروب الشوفينية التوسعية الداخلية والخارجية إلى اختفاء نسبة عالية جداً من الطبقة العاملة العراقية والبورجوازية الصناعية المتوسطة وجمهرة كبيرة من المثقفين والمثقفات (موتاً في الحروب أو الهجرة أو السجن أو …)، في مقابل زيادة كبيرة جدا في حجم اشباه البروليتاريا والفئات المسحوقة في المناطق العشوائية والمهمشة سياسياً واقتصاديا واجتماعيا وثقافياً وبيئياً والتي وقعت ضحية فعلية لكل العوامل السابقة تحت عنوان متشابك من إرادة منتزعة أولاً، ووعي زائف ثانياً.
ث) لم يتعرض المجتمع إلى تراجع فكريٍ واجتماعيٍ وسياسيٍ وثقافيٍ فحسب، بل تعرض المجتمع إلى ردة فكرية رجعية عميقة وشاملة تقريباً على المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والبيئية وفي قيمه المدنية والديمقراطية.
جـ) إن ممارسة العنف من جانب الدولة خلال عقود كثيرة ازاء الفرد والمجتمع واستهتارها بالقيم والمعايير والحقوق خلق كراهية وحقداً دفينين (كامنين) ضد الدولة من جهة، وخشية التعبير عنه من سطوة الدولة من جهة اخرى، كما خلق خضوعاً وخنوعاً وتقية/ مع استعدادٍ جاهز لممارسة العنف حين تتوفر الفرصة المناسبة ضد الدولة والقوانين أو ضد الأفراد والجماعات وفيما بينهم من جهة ثالثة. إنها أزمة قيم إنسانية أجهزت عليها النظم المستبدة وعوامل مساعدة أخرى.
ح) كما لعب فساد الدولة بسلطاتها الثلاث وغياب الحياة المؤسساتية الديمقراطية في نشر الفساد على نطاق المجتمع وحوله إلى نظام سائد وفاعل ومتجذر.
وزاد في أوضاع المواطنات والمواطنين بِلةً كون النظام السياسي الجديد، الذي أقيم على أنقاض النظام الدكتاتوري السابق، والذي نحن بصدده والذي زرعته إدارة الاحتلال الأمريكي – البريطاني بعد حرب 2003 مباشرة، عمق من تلك العواقب التي وسمت الدولة والمجتمع والاقتصاد، لاسيما سياسات الطائفية السياسية والتمييز والعنف والقتل على الهوية والسلاح الميليشياوي والحشدي والمنفلت والفساد المالي والإداري المتفاقمين وتبعية الطغمة الحاكمة لقادة وسياسات إيران على نحو خاص، قد جعل ميزان القوى لا يميل لقوى الانتفاضة، بل لصالح الطغمة الحاكمة وأحزابها السياسية وميليشياتها المسلحة وحشدها الشعبي المتحيز للدولة العميقة والخاضع لقراراتها.
خ) لم يكن العامل الإقليمي والدولي مساعداً لقوى الانتفاضة الشبابية على معالجة نواقصها وتجاوز الأخطاء التي ارتكبت خلال الانتفاضة بسبب واقع المساومة المعروفة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران على إبقاء الوضع في العراق على ما هو عليه، لأهداف ذات طابع استراتيجي دولي وإقليمي للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط والحفاظ على التوترات فيه وما أطلق عليه بـ “الفوضى الخلاقة” منذ عهد جورج دبليو بوش ووزيرة خارجيته كوندوليزا رايز.
د) الدور الكبير لإيران في العراق لاسيما دور الجنرال قاسم سليماني قبل قتله في تنظيم وقيادة الميليشيات الطائفية المسلحة والدولة العميقة والدولة الرسمية التابعة في الأعمال العدوانية المشتركة ضد قوى الانتفاضة الشبابية وعموم الشعب.
2) العوامل الذاتية: ويمكن تلخيصها بالنقاط التالية:
أ) البنية الاجتماعية للمنتفضين: ** مثقفين ومثقفات ومتعلمين ومتعلمات وطالبات وطلبة مدنيين وديمقراطيين ويساريين؛ ** شرائح واسعة من العائلات الفقيرة والمعدمة التي تدخل ضمن أشباه البروليتاريا والفئات المسحوقة والمهمشة اقتصادياً وسياسياً وثقافياً وبيئياً؛ ** غياب الطبقة العاملة وفئات الفلاحين الواسعة عن المشاركة الفعلية المؤثرة في الانتفاضة التشرينية؛ ** مشاركة الشبيبة من الوسط والجنوب وبغداد بشكل خاص، في حين غابت عن المشاركة، ولأسباب كثيرة، شبيبة غرب العراق ونينوى وعموم كردستان العراق.
ب) الوعي الاجتماعي: لقد تميز المنتفضون بمشاعر وطنية عامة ومشاعر عدم احترام لكرامة الإنسان من قبل الطغمة الحاكمة، ولكن لم يكن الوعي الطبقي والعمق الديمقراطي في هذا الوعي حاضراً تماماً في صفوف القوى المنتفضة كافة، في حين كان المتتبع يلاحظ أحياناً كثرة تقلباً سريعاً في مواقف جمهرة كبيرة من المنتفضين نتيجة دور وتأثير الوعي الزائف الي يلعب يمكن أن يقلب ظهر المجن. ويمكن ملاحظة ذلك بعد مقتل قاسم سليماني ودور قوى الإسلام السياسي وشيوخ الدين في التأثير وتزييف وعي الإنسان المنتفض.
ج) لم تستطع قوى الانتفاضة التشرينية الشبابية تحويلها إلى انتفاضة شعبية عارمة قادرة على إسقاط الطغمة الحاكمة لأسباب كثيرة، بما في ذلك دور العشائر والدين وتخلف الوعي، إضافة إلى دور قوى الطغمة الحاكمة في اللعب على شعار الطائفية السياسية وحكم الشيعة المعرض للانهيار بسبب الانتفاضة.. إلخ. (تجد تفسيراً علمياً ومنطقياً واضحاً لهذه الظاهرة في محاضرة افتراضية قيمة عن الوعي الزائف (لماذا يهادن المقهورين قاهريهم؟ للأستاذ الدكتور فارس نظمي بتاريخ 22/05/2021).
د) غياب الرؤية المشتركة والموحدة لقوى الانتفاضة في الموقف من الإصلاح والتغيير ومن قوى الطغمة الحاكمة، وغياب وحدة الرأي والعمل والتنسيق المنشود بين قيادات كثيرة ومبعثرة وغياب القيادة الواحدة المنظمة والمشتركة.
ه) النظرة الخاطئة والمزيفة والمضرة بحامليها والشعب للحياة الحزبية والأحزاب من جانب كثرة من قوى الانتفاضة التشرينية ودعوتها إلى رفض كل الأحزاب والحياة الحزبية دون تمييز مطلوب بين الأحزاب الحاكمة الطائفية والشوفينية والأحزاب المناضلة ضد نظام الحكم الطائفي الفاسد، والتي تعني في واقع الحال ضمن أهم أسباب العجز عن تحقيق النصر المنشود.
و) إن كل ذلك ساعد على امتداد الانتفاضة لأكثر من سنة واحدة مع تحمل قواها الحية خسائر بشرية كبيرة جداً وفادحة (أكثر من 700 شهيد وأكثر من 25 ألف جريح ومختطف ومغيب نهائياً)، بسبب استخدام الطغمة الحاكمة للعنف الحكومي والدولة العميقة وحشدها الشعبي في آن واحد وبالتنسيق بينهما.
فما العمل؟
أدرك صعوبة المهمة وأدرك أيضاً إمكانية تحقيق النصر على القوى القاهرة الراهنة لاسيما وأن هدف القوى والأحزاب السياسية المناضلة هو تحقيق التغيير الجذري في العراق. لهذا يفترض في قوى الانتفاضة كافة دراسة هذه التجربة الغنية بجوانبها الإيجابية المفعمة بالوطنية والحماس الشبابي، وجوانبها السلبية التي أدت إلى عدم تحقيق ما كانت تسعى إليه قوى الانتفاضة بشكل عام بعناية كبيرة وبمنهج علمي تحليلي، للاستفادة منها في مجرى النضال اليومي الراهن والتمعن ببوادر النهوض الثوري الجديد والانتفاضة الجديدة التي سوف لا تعيد نفسها تماماً، بل ستكون إعادة إنتاج موسعة أكثر وعياً، عمقاً وشمولية وسعة، وأكثر إدراكاً ومعرفة بما يسعى إليه معارضو النظام الطائفي المحاصصي الفاسد القائم كافة من جهة، وما يريده معارضو الانتفاضة من جهة أخرى.
إن ما حققته انتفاضة تشرين حقاً هو عجز الطغمة الحاكمة، رغم كل الجهود التي تبذلها اليوم، لاسيما ممارسة العنف المفرط واستخدام الرصاص الحي والقتل (اغتيال إيهاب الوزني بكربلاء، وأخيراً اغتيال هشام الحجازي ببغداد)، على مواصلة ذات المسيرة الكارثية السابقة. فليس وجود مصطفى الكاظمي سوى تأكيد هذه الحقيقة وسعيه الصارخ لتعبيد الطريق وتوفير مستلزمات بقاء الطغمة الحاكمة على الدولة وهيمنتها على السلطات الثلاث وعلى المجتمع في آن واحد.
الشعب العراقي بحاجة إلى وحدة القوى والأحزاب المناضلة للتغيير، بحاجة إلى تنظيم يجد تعبيره في تحالف سياسي-اجتماعي جبهوي متماسك، بحاجة إلى قيادة واعية للمهمات والأهداف وموحدة وفاعلة، بحاجة إلى تعبئة قوى الشعب والفئات التي لم تشارك حتى الآن حول أهداف الانتفاضة الوطنية والديمقراطية والمهنية، لاسيما العمال والفلاحين والبرجوازية الصغيرة والبرجوازية الوطنية الصناعية والمزيد من المثقفين والمثقفات وكادحي المجتمع والعاطلين عن العمل والفقراء، بحاجة إلى تأييد الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي، بحاجة إلى مكافحة الوعي الزائف الفردي والجمعي، رغم صعوباته، أياً كان مصدره وأياً كانت أشكال ظهوره. فلنعمل من أجل تهيئة المستلزمات الذاتية لتحقيق التفاعل الإيجابي مع العوامل الموضوعية وتذليل الصعاب لتحقيق النصر على الطغمة الحاكمة الفاسدة والجاحدة لإرادة وحقوق الشعب العراقي المقهور والمسحوق بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه الدينية والفكرية.
23/05/202