عام مع الكاظمي: ما الذي أنجزه في العراق؟
«إن قتلة الناشط الوزني موغلون في الجريمة، وواهم من يتصور أنهم سيفلتون من قبضة العدالة. سنلاحق القتلة ونقتص من كل مجرم سولت له نفسه العبث بالأمن العام». هكذا غرّد رئيس الوزراء بعد اغتيال الناشط المدني إيهاب الوزني هذا الشهر. «أقسم بدم الشهيدة أن المجرمين لن يفلتوا من العقاب» هكذا قال هو نفسه حينما زار عائلة الناشطة المدنية الشهيدة رهام يعقوب، التي تم اغتيالها في البصرة العام الماضي.
وفي لقاء له مع عوائل ثورة تشرين في ذي قار قال «الحكومة مضت بخطوات مهمة في الحفاظ على حقوق الشهداء، وتحقيق العدالة للقصاص من القتلة». أما في ملف المغيبين فصرح أمام عوائلهم قائلا «ملف المغيبين قسرا يمثل انتهاكا صارخا لحقوق الإنسان» وتعهد بمتابعته شخصيا. أقوال بدون أفعال، وكأني به يستعير دور بطل فيلم «إنها حياة رائعة» الذي كان يسأل كل من يلتقيهم: هل تريد القمر؟ فقط قل الكلمة وسأرمي الحبل حوله وأسحبه لك.
وإذا كانت السيرة اليونانية تقول إن الفيلسوف ديوجين كان يحمل قنديلا ويجول في الشوارع وسط النهار بحثا عن الحقيقة، فإن السيرة العراقية تقول إن مصطفى الكاظمي كان يجول طوال عام، يحمل دلوا مملوءا بالأقوال، ينثر منه على كل من يلتقيهم ظنا منه أن الأقوال بلسم لكل داء، في ما تواصل الميليشيات القتل بلا هوادة، وتبقى قصة العراق وشعبه قيد التشغيل والاستثمار. وها هم العراقيون بعد 12 شهرا في ظل سلطته ومسؤوليته السياسية والأخلاقية والقانونية والدينية، لم يتغير شيء من حالهم، حتى أداة الطحن التي كانت بيد كل رؤساء الوزارات الذين سبقوه، هي نفسها التي تطحنهم في الضوء والظلام في عهده أيضا، في حين تبقى الأسئلة نفسها على كل لسان، تلوكها شفاه الصمت مع مرارة الصبر، لكن لا غرابة في ذلك أبدا، فمن يخرج من بين صفوف الطبقة السياسية الرثة نفسها، حتى لو ألصقت به صفات الملائكة، فلن يكون قادرا إلا على بيع الكلام. وعلى الرغم من أنه حاول إظهار نفسه من خلال القول، إنه ضد النظام السياسي، وضد الفساد والسرقات والسلاح المنفلت، إلا أنه كان يحاول إيهام الناس بأن النظام حكر على عدد محدود هو ليس منهم، وفي سبيل تأكيد ذلك أحاط نفسه بأشخاص عديمي الخبرة، كانت مهمتهم تصويره على أنه محاصر من قبل الكتل السياسية، رغبة منه في تكوين شعبية له قائمة على مظلوميته بينهم. كان يظن أن خلفيته كرئيس للمخابرات تمنحه حالة من القوة في الأوساط الشعبية، لكن هذه الأوساط كانت تعرف أنه يحاول استغلال السخط الشعبي تجاه الطبقة الحاكمة، وهو ابنها البار، لتجميع كل المشاعر السلبية لدى الناس كي يضعها في رحله ويصنع بطولة زائفة.
العراق ليس أمامه سوى طريق التغيير الجذري بالأفعال الحقيقية التي تشيد صروحا على أرض الواقع، لا سرابا تشيده الأقوال
لقد نسي رئيس الوزراء أن الولادة من رحم خزي العملية السياسية، الممتدة منذ عام 2003 وحتى اليوم، ليست مجال فخر لأحد عمل ضمنها أو في حواشيها، فكيف به وقد كان رئيسا لجهاز المخابرات؟ فهل يرسم هذا الموقع صورة له على أنه متمرد عليها، ومحاصر من قبل أقطاب النظام؟ ما هي مهمة جهاز المخابرات إذن؟ أليست هي حماية النظام السياسي وزعاماته، ولا يتولاه إلا من هو أخلص الموالين والمؤمنين بهذا النظام؟ ربما كان يتصور أن بؤس الناس والظلم الواقع عليهم، يعطيه فرصة كي يبدو أنه المنقذ، والمُعبّر الوحيد عن حالة الإحباط واليأس، لكنه واهم جدا لأن الوعي الذي زرعته مآسي 18 عاما، أعطت إدراكا للناس بأن كل رئيس وزراء هو نسخة مكررة من الآخرين.. نعم فشلوا كلهم والكاظمي فاشل أيضا لأنه ابن الطبقة السياسية نفسها، وفي ظل استمرار المناخ نفسه، فالتربة ستبقى خصبة لظهور نسخ أخرى منه ومن سالفيه، سواء بالانتخابات أو بالتعيين، أو باتفاق الفاعلين الخارجيين اللاعبين في الساحة العراقية. هذا هو قانون اللعبة العراقية التي حاول مصطفى الكاظمي على مدى عام ممارسة دور الحكواتي فيها، وبيع الناس المقهورين أقوالا لا تغني من جوع ولا تأمن من خوف، لكنه نسي أن القصص التي كان يرويها تعمل على المدى الطويل فقط، إذا كان لها صدى على أرض الواقع، وتنتج تغييرا حقيقيا. كما نسي أن إحدى المفارقات التي باتت تلاحقه اليوم، هي أن العاصفة الكلامية من الوعود بلا أفعال خرجت عن المنطق تماما، وباتت قصة يتندر بها الناس.
كان على رئيس الوزراء أن يتذكر أن من لم تُوقد المسؤولية السياسية والأخلاقية شعلة الروح فيه، فإنه لن يكون قادرا على أن يجبر الكسور التي أصابت خريطة الوطن، ولا أن ينحت مكانا مرموقا لبلده بين بلدان العالم، ولا أن يحفظ كرامة مواطنيه، وإذا لم ينفع المنصب في تسريع تعاطف المسؤول مع مواطنيه، وإذا لم يكن حافزا له كي يفتح النوافذ على الغموض الذي يلف حياة الناس، وأن يساعده على اكتشاف المظالم وضياع الحقوق، فما فائدة المنصب؟ لكن يبدو أن الرجل أخذ ورقة من كتاب صديقه القديم رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، ومارس الشكوى نفسها والبكاء نفسه من شركاء العملية السياسية، لأنهم يعرقلون عمله، خاصة بعد أن تجرأ الطرف الأقوى على تهديده بقطع أذنيه إن مسهم بسوء. فما كان منه إلا الهروب الى الخارج يبحث عن تجميل للصورة التي هو عليها، وليظهر نفسه أنه حمامة سلام بين الجيران. كما نزل إلى الشارع يبحث عن أنصار من عامة الناس، ولأنه ليس لديه سوى دلوه المملوء بالأقوال، فقد ذهب للقاء سيدات وسادة المجتمع المخملي في أرقى مطاعم بغداد، ممن ليسوا بحاجة إلى أقواله أو أفعاله، بينما تجنب أن يذهب فجرا إلى خلف السدة في بغداد، حيث مكب النفايات، لأنه يعرف تماما أن الموقف هنالك يحتاج إلى الإحساس بالحياء. فهناك صبية ينهضون قبل الفجر، كي يصلوا إلى المكب قبل أن يفرد النهار أضواءه على النفايات. لا يعرفون لغة الحساب ولا الألف من الياء، لكنهم يعرفون كم هو جاحد الحياء في قاموس هؤلاء الزعماء.. صبية ليس لديهم وقت لوضع وجوههم بين يدي رئيس الوزراء كي يرسم عليها علم العراق بالمقلوب، كما فعلها في أحد مطاعم بغداد. صبية يتناثرون على أكوام الأزبال ينبشون فيها عن قطعة بلاستيك، أو علبة مشروبات غازية فارغة أو صندوق ورق، يحملونها إلى معامل إعادة التدوير مقابل دنانير معدودات، كي يعودوا إلى عوائلهم بلقمة خبز أو قطعة ملابس من البالات.
إن الدول المنكوبة كالعراق ليس أمامها سوى طريق التغيير الجذري بالأفعال الحقيقية التي تشيد صروحا على أرض الواقع، لا سرابا تشيده الأقوال. قد يرى رئيس الوزراء وحاشيته أنه عندما يذهب إلى عوائل الشهداء يعطي صورة أنه أصيل ورجل دولة، لكن الحقيقة أن كلمات التعازي والمواساة هي مجرد كلمات جوفاء، والتعهد بإلقاء القبض، من دون فعل هو مجرد حديث رخيص عن تحمل المسؤولية. بينما تُرسم يوميا في مدن وشوارع العراق، وفي الأحياء الفقيرة بالذات قوانين الميليشيات، وتُرفع على جدرانها رموز الشرف الخاصة بهم، وتُثبّت خطوطها الحمر التي ليس أمام العراقيين إلا العيش في حدودها أو القتل.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية