المناضل شاطي عودة الاسم المحفور في الذاكرة
زهير كاظم عبود
بعض الأسماء تنقش لها مكانا بارزا ليس فقط في الذاكرة ، وليس في سجلات نضال الرجال والتميز بالعطاء والالتزام والثبات على القيم والمباديء ، إنما تحفر لها مكانا متميزا في تأريخ نضال العراقيين ضمن صفوف الحركة الوطنية ، حيث يبقى الاسم محاطا بالمهابة والتقدير ، مقترنا بالإجلال والزهو ، بعض هذه الأسماء تتميز بالتواضع والثقة بالنفس ، يبقى دورها وتاريخها وما قدمته من مواقف لا تحتاج الى بهرجة إعلامية وتزويق ، فقد اقتنعت تماما بأن العطاء يتجسد بموقف ، والنضال يتجسد بالثبات ، ومثل هذا الاسم لايمكن للنسيان أن يطرحه جانبا بعد كل هذا التاريخ ، والموقف يشكل جزء ثابت من تاريخ حركتنا الوطنية .
معيار بقاء الاسم حيا وفي الذاكرة تلك المواقف التي تعكس بحق الفكر الإنساني الذي يؤمن به الفرد ، وما يتركه من عميق الأثر عند الاخر ، وديمومة العطاء التي يقدمه رغم كل ظروف المواجهة ، المعيار يكون وفق ما يسجله التاريخ من أحداث ومواقف ووقائع له .
يمكن أن يكون أسم الراحل المهندس شاطي عودة محمد (( أبو سمير )) غائبا عن الكثير من شباب العراق اليوم ، والعذر أنهم لم يعاصروا الفترة التي كان فيها الراحل عمودا من أعمدة الحزب الشيوعي العراقي ، ومناضلا بارزا يعتمد عليه ويتباهى به التنظيم ، ويمكن أن لا يتعرف البعض الآخر على ما يشكله أسم شاطي عودة من مكانة وشخصية عاشت ضمن فترات حرجة من تأريخ العراق ، ويسجل للراحل تلك الصفات التي لم يزل يعرفها عنه كل من تعرف عليه ، ومن عمل معه في التنظيم أو زامله في السجون والمعتقلات .
تم اعتقال شاطي عودة محمد بعد ساعات من انقلاب شباط 1963 عصر يوم الجمعة ، واقتيد الى التحقيق بسيارة الحرس القومي صحبة كل من إبراهيم كبة وعبد الجبار عبدالله وخالد الجادر وشاكر خصباك ، حيث تم نقلهم بسيارة واحدة الى هيئة التحقيق ، وبالرغم من كل أساليب التعذيب الجسدي والمعنوي والأساليب الهمجية التي عرف بها أسلوب تحقيق الحرس القومي ، لم تتمكن الهيئة التحقيقية النيل من صموده وصلابته ، وبعد أن أنهك جلاديه اقتيد الى سجن رقم ( 1 ) وأودع في زنزانة ضمت عشرين شخصا وهي لا تتسع لأكثر من ثلاثة أشخاص ،وتم التعامل معهم بغاية السوء والخسة ، وبعد أن أمضى مدة شهر في هذه الزنزانة ومع التعذيب المستمر ، اقتيد الى المجلس العرفي العسكري ليحكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات .
أرسل الى سجن الحلة المركزي مع المئات من السجناء السياسيين ( الشيوعيين ) ، ولدماثة خلقه وتواضعه الجم وأدبه الرفيع ومحبة السجناء واحترامهم تم انتخابه مسؤولا عن السجناء ، وكان شاهدا من شهود العملية الجريئة التي قادها الشيوعيين في حفر نفق سجن الحلة الشهيرة ، والتي تم تنفيذها بأدوات بسيطة وبمهارة فائقة وبسرية تامة ، وساهم الراحل شاطي عودة بالتمويه على عملية الحفر ، وذلك بأشرافه على بناء حاجز في الجهة الشمالية من السجن والتي كان المطبخ في مواجهتها ، وتم إخفاؤها عن أعين نقطة حرس السجن التي تواجه منطقة الحفر .
كان الراحل مهتما بملاحظات السجناء ، وعمل على تعزيز وحدتهم داخل السجن ، وتميز بحديثه الدافيء مع الآخرين ، وعرف عنه التزامه الفكري ، تميز بسمرته العراقية وبطوله الفارع وبالهدوء الذي اتسمت به شخصيته .
بعد أن أكمل الراحل شاطي عودة محكوميته ، كان ضمن أعداد الآلاف من المفصولين السياسيين الذين لم تتم إعادتهم لوظائفهم حتى بعد انتهاء محكومياتهم ، عمل مع بعض المقاولين في مشاريع ناجحة ، ولعل ابرز تلك المشاريع الأشراف على الجهد الهندسي لبناء جسر الديوانية الحديث ، ومن خلال مركزه الهندسي عمل على إلحاق العديد من المفصولين السياسيين بالعمل في الجسر ، وكنت واحد منهم ، وجسد لنا شاطي عودة مثالا متميزا من أمثلة التفاني لرفاقه وإخلاصه لمباديء الشيوعي الملتزم .
في العام 1971 تم انتخابه ضمن الهيئة الإدارية لنقابة المهندسين بالرغم من كونه مفصولا سياسيا ، وأعاد الكرة مرة أخرى في العام 1972 حيث تم انتخابه لعضوية الهيئة الإدارية ، غير انه في العام 1973 وبعد توقيع الجبهة الوطنية بين حزب البعث والحزب الشيوعي ، تم تعيينه مديرا عاما للري ، بعد أن أصبح الرفيق مكرم الطالباني وزيرا للري ، واختياره لإدارة مرفق عام مهم جدا في العراق لم يكن اعتباطا أن يتم اختيار المهندس شاطي عودة لأدارته ، وهو المعروف عنه دقته ودراساته الهندسية الناجحة ، ولهذا تمكن الراحل شاطي عودة أن يحدث تحولا جذريا فريدا في عمل دوائر الري في العراق ، وتم إنجاز مشاريع عديدة بنجاح كبير ، ولما اشتكى بعض البعثيين من تحول مديرية الري الى خلية شيوعية لأن غالبية المهندسين والفنيين من الشيوعيين ، ألجمهم رده الصاعق من أن سير العمل وإنجاز المشاريع بشكل ناجح هو المعيار ، وليس للهوية السياسية وهذا يصب في مصلحة العراق.
ويسجل التاريخ للراحل الكبير تلك المآثر العديدة التي وقف بها مع كل من يحتاج الى وقفة دعم ومساندة بحق ، ووقفته مع خريجي المعهد الزراعي العالي للإقرار بنيلهم لقب ( معاون مهندس زراعي ) دليل باق في الذاكرة بعد أن تحقق ذلك ، بالرغم من انه لا يقع ضمن اختصاصه ، لكن الكفاءة والنزاهة والمصلحة العامة هي التي تبقى تتحكم في مشاعر النبيل شاطي عودة .
بقي المهندس شاطي عودة محمد علما عاليا ومتميزا ، ملتزما بتواضعه ومحبته للناس ، مخلصا للمباديء والقيم التي آمن بها ، وبعد تدهور العلاقة بين السلطة والشيوعيين وقبل عام 1978 تم تغيير عنوان وظيفته الى مستشار بوزارة الري ، بقي صامدا ومتمسكا بأفكاره بالرغم من كل الضغوط والممارسات التعسفية ، حتى وافته المنية في بيته بمنطقة المنصور ببغداد بتاريخ 13/11/1997 ، لتنتهي رحلة العطاء التي ما تخلف عنها يوما ، ويتوقف القلب الكبير تاركا خلفه سجلا ناصعا من المواقف ، وحافلا من الذكريات التي ستبقى أبدا في ذاكرة الطيبين من أبناء العراق .
ويسجل التاريخ لشاطي عودة التواضع الذي عرفه عنه ليس رفاقه في الحزب إنما جميع من عمل معهم مفصولا سياسيا أو مديرا عاما للري ، ويسجل له أيضا احترام وتقدير العديد من أعداء الحزب الشيوعي من الرجعيين والبعثيين لشخصيته التي تميزت بالإخلاص في العمل والنزاهة والمثابرة الجادة ، ترك خلفه مواقف ومآثر تحكي عن تأريخ هذا الرجل المتميز بالهدوء والتروي ، وصاحب الابتسامة الهادئة ، والمحدث اللبق البارع ،والحكيم الذي ما تمكنت الظروف وأنواع القهر وأشكال الملاحقات .
وسيبقى أسم شاطي عودة نموذج للشخصية العراقية المتمسكة بالمباديء فعلا وقولا ، ومثالا فريدا في الالتزام والخلق والبساطة لتجسيد صورة الشيوعي العراقي بشكل ناصع ومضيء .