مِعْطَفُ غَادَة السَمّان: كَبيرتُنا التي علَّمتْنا السِّحر
هل يشبه معطف غوغول، وهل نشبه أكاكي، بطل المعطف، حياً وشبحاً؟ لا أعتقد، معطف غادة السمان شفاف، يكشف كل الجراحات التي خلفها التاريخ في حربه ضد المرأة حينما حارب أنوثتها بإخفائها تحت الأطنان من عقد التاريخ وصخوره البركانية المحروقة. كتبت غادة كثيراً، وملأت الساحة العربية باستحقاق. منجزها الأدبي شاهد إلى اليوم على جهودها الإبداعية وعلى خياراتها القومية، على الرغم من انسحابها من ساحة ثقافية مرتبكة، في وقت مبكر. مكانها الذي تركته منذ أعمالها الأخيرة ظلّ شاغراً، لم يملأه آخر غيرها، على الرغم من الأجيال المتعاقبة. ثمة امرأة اسمها غادة السمان لم تكن عادية، كتبت «بيروت 75» (1974) بأفق مفتوح وحساسية ثقافية لامست الحرب الأهلية حتى قبل اندلاعها بسنة، وكتبت «كوابيس بيروت» (1976) ووضعت الجنون اللبناني في مرمى البصر العربي المغمض العينين والمخ، و»الرواية المستحيلة (فسيفساء دمشقية1)» (1997) و»يا دمشق وداعاً (فسيفساء دمشقية2)» (2015) لاسترجاع زمن مات، أو كاد، و»سهرة تنكرية للموتى» (2003) التي توقعت فيها انهياراً مدوياً لبيروت، وغيرها من النصوص السابقة، لا يمكن لامرأة مثلها أن تتوقف عند حافة انهار فيها كل ما يحبط بنا دون أن يتجدد التساؤل: هل كنا في وهم جميل، نتغنى بعالم عربي أعقد مما تصورناه؟ عالم يسبح في دائرة تخلف أصبحت جزءاً منه، بل تكاد تكون دينه الأرضي، في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بالمعتقدات الشعبية، بالمؤسسة الدينية التي أوقفت أي اجتهاد. وكأن غادة اختارت بعزلتها، بدل الدوران في طاحونة الفراغ، أن تدور في فلك سري وحدها تعرف معناه وجدواه وحدوده أيضاً، وربما مآلاته، في صمت وأناة كالساماراي الذي يتهيأ لطعنة الخصر القاتلة.
اللمسة العظيمة التي تركتها غادة السمان على الأدب العربي، والأدب النسوي (المفهوم غير دقيق) تحديداً، كانت عظيمة، وما زالت الكثيرات يدن لها بالكثير، وإن لم يصرِّحن بذلك. فقد عملت على شيء أعظم من تحرير المرأة من قيد اليومي الثقيل، بمنحها مساحات نصية لم تكن متاحة، لكنها حررت أو عملت على أداة التعبير الجريحة، اللغة العربية. جاهل من يقول إن اللغة العربية عاجزة عن المحمولات الإنسانية أو الحسية، وأن قرون الرمل التي كبرت فيها وتمرغت داخلها تمنعها من رؤية الماء والخضرة والجسد بمعناه الأكثر اتساعاً الذي يشمل جسد الأرض في جراحاتها المعلنة والسرية، والجسد الإنساني، والأنثوي تحديداً، لأنه الأكثر تعرضاً للاغتصاب الفعلي والرمزي. غادة السمان حررت اللغة بإعادتها إلى جوهرها الأنثوي الجميل والشعري الدافئ والمدهش. فقد منحت كاتبات وكتاب اللغة العربية لغة حية وشهية أيضاً، تشبههم في أحلامهم المؤجلة، في دواخلهم وفي يومياتهم، لغة قريبة من سحر الحياة، وبعيدة عن فتاوى القيامة وصكوك الجنة والغفران. وكسرت حجر الصوان الذي أثقل اللغة العربية ردحاً من الزمن. تكاد تكون غادة السمان هي الكاتبة الوحيدة التي جعلت من اللغة المادة الحيوية التي نكتب بها جميعاً، وحررتها من ثقل الرمال والأعشاب الضارة وشح الماء، والأصداء الثقيلة. ألا تستحق أن تكون الكبيرة التي علمتنا السحر كله؟
ما قالته غادة، من وراء ردها عن مقالتي «السر الغائب في الرسائل العربية» (القدس العربي 20 أبريل 2021) ينم عن حالة غبن مضمرة من وسط ثقافي شديد الصعوبة والقسوة واللاتسامح، وكثيراً ما يني آراءه الإقصائية على مسبقات تحتاج إلى بحث حقيقي قبل التسليم. أتذكر جيداً المعارك العاصفة التي قامت بعد صدور كتابها «رسائل غسان كنفاني» (1992) وكانت كبيرة واتخذت منحنين، المنحنى الأخلاقي الذي وضع غادة في دائرة الاتهام وحملها مسؤولية الإساءة لميت نشرت أسراره على الملأ حتى ولو بررت ذلك في مقدمة الكتاب أنه ليس أكثر من تنفيذ لوصية جمعتهما وأنه على الذي يستمر في الحياة أن ينشر هذه الرسائل. المنحنى الثاني يتعلق بشخصية أدبية وسياسية لها رمزيتها الكبيرة في العالم العربي، والفلسطيني تحديداً. وكأن غادة بنشر الرسائل يومها، مارست اعتداء ضد مقدس، وحوّلت الجنرال إلى جندي بسيط في عز المعركة المصيرية؟ بينما يتعلق الأمر أولاً وأخيراً بإنسان، يحب ويكره كما جميع البشر. وكأن الحب ينقص من قيمة البطل وسمعته؟
من الصعب عليّ ألا أتذكر ما حدث للشاعر الرواسي الأسطوري ماياكوفسكي، يوم انتحاره. فقد رفضت المؤسسة الرسمية هذا الانتحار. الأسطورة ليست إنساناً لكي تنتحر حبّاً وعشقاً. تذكُرُ فيرونيكا بولانسكايا، حبيبته الأخيرة، في مذكراتها التي صادرها أمن ستالين، لأنها كانت الشاهد الأخير على انتحار الشاعر. يوم نشرت المذكرات في ثمانينيات القرن الماضي، مع إصلاحات البيريسترويكا، في مجلتي سبوتنيك والآداب السوفييتية، اكتشف العالم شيئاً آخر، عندما حان وقت ذهابها إلى المسرح، ضمت بولانسكايا حبيبها ماياكوفسكي طويلاً، ثم اعتذرت منه لأن العرض الذي يخرجه زوجها، حان موعده. طلب منها أن تبقى ما دامت تحبه، لكنها رفضت، وأصرّت على الذهاب لتأدية عرضها المسرحي. فجأة، قام من مكانه وأغلق باب الغرفة، ثم وضع المفتاح في جيبه مثل طفل معاند.. «لن تذهبي» أصرت على الذهاب قبل أن تستسلم بحزن. قال لها: خذي المفتاح، اذهبي أنّى شئت، لكن بمجرد تخطيك العتبة سأنتحر، ثم أخرج مسدسه، وصوبه نحو قلبه. كررت على مسمعه: حبيبي، عندي عرض مسرحي يعني لي الكثير، زوجي هو من يخرجه، ولا أريد أن أخيِّبه، سامحني حبيبي. ظل صامتاً، عندما فتحت الباب، عند العتبة، سمعت طلقاً نارياً جافاً. رصاصة واحدة في القلب كانت كافية لتحويل عمر من الشعر والحب إلى كومة رماد. الحقيقة التي رفعت عالياً ماياكوفسكي لأن الشاعر لم يكن صخرة، واستسلم لحبه. الكتاب الذي نشرته فيرونيكا بولانسكايا أعاد الحقيقة إلى مسلكها الطبيعي.
عندما تحدثت عن غسان كنفاني وغادة، كان المقصد واضحاً، كنت كما ملايين من القراء العرب، أحب كتاباً تاماً وغير مبتور، لكن ما العمل؟ كيف ننشر ما لا نملك كما قالت غادة؟ هذه الحسرة ملأتني وأنا أقرأ وأترجم «رسائل البير كامو وماريا كاساريس» (2017) المذهلة (1465 ص). كيف وصلت إلينا تلك الرسائل غير منقوصة؟ اقتضى ذلك توفر فريق عمل حقيقي ترأسته زوجته فرانسين وابنته كاترين، بمساعدة أصدقائه، بمن في ذلك حبيبته ماريا كاساريس التي منحت رسائل كامو لصديق العائلة روني شار، الذي منحها بدوره لكاترين كامو، التي لم تكن تحب كثيراً ماريا لكنها كانت تحب والدها جداً. فكونت فريقاً مختصاً بدأ العمل على رسائل ماريا ورسائل كامو المتوفرة، فرتبت بشكل دقيق، فكان كتاب المراسلات المدهش الذي نقرأ فيه 12 سنة من الهزات الجميلة والخيبات، و865 رسالة. نكتشف الإنسان في كل تحولاته وضعفه أيضاً. حاولت بيأس تخيل ذلك المشهد المتكاتف بين محبي الكاتب أو الكاتبة، في العالم العربي، فلم أر إلا رماد الرسائل وبقايا ذاكرة اشتعلت بقوة، ثم خفتت إلى الأبد. ربما هذا بالضبط ما أدى برسائل غسان إلى المحو والغياب؟ هل نلوم غادة على نشر الكتاب مبتوراً من روح المراسلة التي تقتضي وجود شخصين، قبل أن تقدم على الفعل نفسه مع أنسي الحاج، لكنه حب العشرينيات من العمر (1963) من طرف واحد، كتب لها لكنها لم ترد عليه بأية رسالة؟ ليس موضوع هذه المقالة.