حسابات توقع المنطق في الفخ
ضرغام الدباغ
إذا أجرينا حسابات (Calculation)، بالاعتماد على الرياضيات العالية واستبعاد الأهواء والمزاج، فسترى أن الموقف الداخلي العميق(في العراق والمنطقة)، أو السطحي الظاهري يشير إلى أن الأطراف المعنية وهي عديدة : فمنها من يدها في الفرن، ومنها من يساند هذا الطرف أو ذاك علناً، وهناك من يمد أسباب الدعم سراً، وهناك من يدعم بلسانه وقلمه، وهناك من يدعو بقلبه وهذا أضعف الأيمان، وهناك من ينفخ في الكير ليزيدها التهابا وله فيها مصلحة … والله والأذكياء والحاسوب يعلم بما في القلوب والخطط في الأدراج المقفلة …!
منذ العدوان الاسرائيلي على غزة (الاعتداء الأخير أيار / 2021)، وإسرائيل تحوص … والغرب يحوص أكثر من إسرائيل لأنه توصل لرؤية الأفق مبكراً وهذا شعور يطفح ويفيض من ثنايا مواقفها …ونلمحه من تصريحات قادة الغرب، هي أن (إسرائيل) شيئ لا ضرورة له في المنطقة، خطأ أرتكبناه في ساعة حماقة، واليوم تحوم حول الشرق الأوسط وعلى أجنابه تقديرات كبيرة، وهموم كبيرة ليس من بينها الحفاظ على إسرائيل، اليوم تراجعت قيمتها الاستراتيجية بسبب بروز شواغل كبيرة جديدة، لم يعد أحد يحسب حسابها بقيمة الماضي … لماذا …؟ لأن ثمن تأييدها والوقوف لجانبها ودعمها أصبح باهضاَ …!
ابتداء لأن إسرائيل ككيان لم تتقدم بمشروع سياسي / حضاري سوى الأعتداء والتوسع، وأرهقت حلفاءها وأصدقاءها بالطلبات التي لا تنتهي للأموال لتمويل الحروب والاعتداءات، وسياسياً في دعم مواقفها، وفي النهاية هي ليست أكثر من كيان مكلف ومحرج لأصدقائها الغربيين، يتولون واجب حمايتها والدفاع عنها من مجلس الأمن وحتى أسلحة الدمار الشامل، ولكن حتى هذه سوف لن تنقذها من مصيرها المحتوم. ثم أن الصهيونية العنصرية لم تنجح في بناء كيان ديمقراطي متحضر(في إسرائيل 157 قانون عنصري ينظم الزواج والملكية والوظائف وغيرها بناء على معطيات عرقية / دينية)، بوسعه أن يقدم حلول للعيش بسلام من شعبها أولاً (30% من غير اليهود)، ثم مع محيطها الاقليمي (بنسبة تقارب ال100%). لذلك صارت عبئاً يجب أن ينتهي، لتحل ديمقراطية تنظر للأفق كله وتقبل بالجميع، لأن الجميع له الحق في الحياة بدرجة متساوية، من سيستبعد عن المشهد هم مشعلوا الحرائق، العنصريون، الطائفيون، هواة التفجير والتخريب، أصحاب اللافتات المشتعلة، الثرثارون في زوايا المقاهي، تجار القضايا، اليمين العنصري الذي يواصل إشعال الحرائق منذ نحو 100 عام، دون أن يثبت لنا أنه على حق …!
لن نحاول أن نثبت أن عصر السيادة والهيمنة الأمريكي يتراجع، وبقوة، ليس بسبب الصعود القوي للصين العظمى .. وليس بسبب أن روسيا اليوم أقوى من الاتحاد السوفيتي المندثر، فحسب ..! بل وأيضاً لأن المعطيات في الداخل الأمريكي، بالإضافة إلى جديد مسرح العلاقات الدولية، يتنبأ بمستقبل جديد للولايات المتحدة ..! أميركا الامبريالية بوسعها إشعال الحرائق في أي بقعة في العالم، ولكن ماذا بعد ذلك ..؟ ليست حاملات الطائرات وكروز وطائرات الشبح من تحسم المعارك السياسية، لذلك هي لم تنجح في كل معاركها (كوريا، فيثنام، العراق، أفغانستان). وتشير المعطيات الواقعية الجديدة أن ….
- ليس كل رغبة امريكية تنفذ.
- ليس بالضرورة من تدعمه أمريكا ينتصر.
- نعم بوسع الولايات المتحدة التدخل في أية بلد في العالم، ولكن ليس بوسعها حسم المعركة.
- أميركا مقبلة على هزائم أكبر.
تدخل في القضية الفلسطينية أطراف كثر… وكما يقول المثل الشامي ” الكل بدو من العرس قرص ” ويمد يده ليشحذ ولو نقطة عسل. ومن هؤلاء من يريد التدخل في النزاع، ليضمن له كرسي على طاولة المفاوضات، وأن ينال قدراً من القدر والقيمة، ليحتسب من بين حراس الأمن في المنطقة، أو ليكون دركي .. أو وكيل مصالح القوى العظمى ..!. ” أنظر … بوسعنا أن نثير الإضطرابات …! “.
إسرائيل لا تكف عن إبداء الرغبة في الوسع … ولكن إلى أين تتسعون ..؟ فأنتم لستم أكثر من بضعة ملايين نسمة، أقل من حجم السكان في مدينة القاهرة وبغداد، فكيف تتسعون، ولغتكم العبرية لا يتقنها حتى معظم اليهود، واقتصادكم بالكاد يغطي عوراتكم .. وتعانون من أصناف المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية. لقد ورد أكثر من مرة أن طرح شعار ” أنقذوا إسرائيل من إسرائيل “، فالعدو الأكبر لإسرائيل، هو اليمين الفاشي الصهيوني، الذي عجز منذ مؤتمر بازل / سويسرا 1897، أن يقود مشروعاً سياسياً مقبولاً وقابل للتحقيق.
تردد أن الولايات المتحدة هدفت في إطار رؤيتها لشرق أوسط جديد، تجنيد الأقليات في مخططها، ومن تلك إيران، التي ابدت استعدادها لتحريك أذناب لها في بعض الدول، والهدف هو تقليص حجم النفوذ القومي العربي. وضرب بمخيلة الإيرانيين صناعة مجد دولة تمتد إلى الشرق الأوسط، وأن تقيم امبراطورية تمتد حتى البحر المتوسط. وفانها أنها كأسرائيل تفتقر أكثر من إسرائيل إلى مقومات التوسع، فأخذت تناور بالأتباع والأذناب، تأخذهم من باكستان، وتزرعهم في النجف، وتأخذ الهزارة الأفغان وتضعهم في تخوم حمص السورية، وبدا لها أن الهدف كبير والرقعة صغيرة .. وما موجود لا يكفي لسد الأحلام، بل أن إيران نفسها تعاني كإسرائيل، فهي ليست متينة داخل حدودها، تهبث بها العواصف والرياح، وتبحث عن القوة خارجها …! اللعب في الحلم شيئ، والتعامل على الأرض شيئ آخر تماماً..!
إذا وضعنا فرضية عريضة “Hypothesis” هل يفيد إيران أن تحرز حركة التحرر العربية نصراً أو حتى نصف نصر في أي مكان حتى في الصحراء المغربية. الجواب وفق الفقرة أعلاه هو : أن أي مكسب لحركة التحرر العربية هو مضر لكافة أطراف التحالف المعادي للأمة، فما بالك إذا كان النصر في جزء تشاغب عليه إيران وتلعب في ملعبه 43 سنة وأشبعته تحايلأ وخدعا .. بل هو جزء رئيسي من الخداع الاستراتيجي الذي تقوم به … للعبث في الساحات العربية …
وسنجد النتيجة المادية الملموسة وفق معطيات علمية…كلا بالطبع، فإيران هي الخاسر الأعظم من أي انتصار عربي حتى لو كان انتصاراً في جزر القمر لا يفيدها، ولا سيما في فلسطين بشكل خاص أكثر من غيرها. فالأمر في الواقع يستحق إقامة مجالس عزاء…! كما وليس من مصلحتها أن تساعد الفلسطينيين، نعم هي تقدم شيئاً، لتحقق شيئا أكبر، تناور وتكتك في هذا الميدان، ولكن شرط أن لا يؤدي ذلك الوصول إلى هدف. وإيران استغلت بدقة، الميل العربي العام ضد الوجود الاسرائيلي، ومن أجل أن تحقق تعاطفا واسعاً مع شعاراتها الديماغوجية، وتحقق لها ذلك بالفعل. وفي أولى سنوات الثورة الإيرانية، تمكنت من كسب شعبي كبير، وخاصة في لبنان. ولكن بأعتبار أن حبل الكذب والمناورة قصير، بدأ هذا الانبهار والالتفاف بالانحسار تدريجيا وببطء، بعد أوغلت إيران في إظهار العداء وتدمير وتخريب حيثما وصلت أياديها في الأقطار العربية: العراق وسورية ولبنان، وأخيرا اليمن. وهكذا تبين للجميع أن المشروع الإيراني هو مشروع توسعي، بالتفاهم والتنسيق مع القوى الدولية والاقليمية (الولايات المتحدة وإسرائيل)، مشروع لا علاقة له بالدين، ولا بشعارات التحرر والعداء للإمبريالية.
الولايات المتحدة هي اليوم في حال لا تحسد عليه، وهي مضطرة لإعادة النظر في حساباتها، فهي ليست في وارد أن تفكر بهموم حليف أو مقاول ثانوي (Second Contractor)، فلسان حالها يقول لملالي إيران : لقد ساعدناكم وأتينا بكم للسلطة، وهيئنا لك سبل النجاح، وقاتلنا خصمكم اللدود الذي مرغ وجهكم بالتراب، وحاربناه، وسلمناه لكم لتغتاله بخسة يحسدها عليكم الضباع، في ليلي شتائي … إلا أنكم لم تدبروا أحوالكم، 18 سنة، تقتلون وتنهبون وتمارسون قبيح الأفعال، وحين تفشلون تريدون منا أن ننجدكم ..! مولانا دبر أحوالك .. اليوم تفر المرضعة من رضيعها، والولد من أبيه … الصين تقتحم العالم ..!
ولسان حال الولايات المتحدة يقول لإسرائيل : فعلنا كل شيئ لترسيخ كيانكم، بالمال والسلاح، وساءت علاقاتنا مع عشرات الدول العربية (22 دولة) والإسلامية (52)، وفعلنا كل شيئ لأجلكم، ولكن الخطوة الحاسمة للنجاح كان ينبغي أن تقوموا بها، ولكنكم لم تدركوها، ولم تتمكنوا من توفير سبل الحياة لدولتكم في الشرق الأوسط.
هذا ملخص لما حصل، وتنبؤات لما سيحدث، ربما أحياناً خطأ بسيط من هنا، ومن هناك، ولكن هذا هو الخط العام، وسائر ذلك تفاصيل، أميركا كانت تدرك أن أفضل طريقة لتدمير ثلاث بلدان عربية مسلمة كانت راقية ومتقدمة هي العراق وسوريا ولبنان وتسليمها لهذا الفصيل المتوحش ليمعن فيها قتلا وحرقا .. هدفا مخجلاً معيباً، أوكلته للصفوي الهمجي، وأميركا لم تقاتل حتى من أجل إسرائيل ولكن فعلتها لخاطر عيون الفرس فلاحظ عمق العلاقة ..! بل كبر الهدف ، فأميركا لا تشتغل بالعواطف، ولكن رغم ذلك إيران ستهزم لأن لا قدرة لها على التوسع لا سياسية ولا عسكرية ولا اقتصادية ولا ثقافية، والصراع العربي/ الإسرائيلي سيشهد تحولات مهمة، وإذا سمحتم لي بالتنبؤ: ستقوم دولة فلسطينية، النظام الصهيوني العنصري الفاشي سينتهي، وتقوم دولة ديمقراطية، وأعتقد أنها ستسعى ” للتكامل ” مع الدولة الفلسطينية.
نظام الملالي سيبدو مثل النشاز في المنطقة، وقد احترقت أوراقه التي لعب عليها نحو نصف قرن، وخسر الشعب الإيراني هذه المدة مقادير خيالية من الثروات والجهد والبشر من أجل لا شيئ …! أرجح أن شعبهم سيحاسبهم حسابا عسيراً …!
الوضع الآن بين الحلفاء الغربيين سيئ، ولا ينبئ بالخير .. الثقة مفقودة بين الاطراف، التعامل السياسي والتجاري مهزوزة بسبب فقدان الثقة، العلاقات ضمن الناتو ليست في أفضل مستوياتها. الولايات المتحدة ستحاول أن تمنع تمدد الصين وحليفتها روسيا، وأن لا تصل إلى المناطق المسيحية : أوربا، الأمريكيتين، أستراليا ونيوزيلندة، وسيكون لها أساليب عمل جديدة، ولست متأكداً من حجم نجاحها ..! ما حدث وما سيحدث تنبأ به بعض العباقرة من الاستراتيجيون قبل عقدين من الزمن … اليوم فصاعداً هناك متغيرات كبيرة.. السياسيون المحترفون يفهمونها بسرعة، أما الذين ختم على قلوبهم ….. الله يعينهم …!