الجرح الإيزيدي… النزيف مستمر
على الرغم من عدم اندمال جراح الإيزيديين، واستمرار الكوارث التي تحيق بهم منذ آب/أغسطس 2014 عندما مارس تنظيم الدولة (داعش) بحقهم أعنف الإبادات الجماعية في التاريخ المعاصر، وأبناء الديانة الإيزيدية في العراق يقضون حياتهم بين مطرقة الإرهاب وسندان الفساد والإهمال الحكومي.
اليوم تلتفت المؤسسات الصحافية ومنظمات الإعانة الدولية إلى أن مئات الآلاف من الإيزيديين مازالوا يعيشون في مخيمات الإيواء التي تحولت إلى بؤر لانتهاك حقوق الإنسان والابتزاز الحزبي والسمسرة السياسية، إذ ما زال آلاف الإيزيديين يعيشون في أربعة مخيمات رئيسية في محافظة دهوك هي، شاريا وجمجكو وشيخان وبيرسف، وقد كشف المتحدث الرسمي باسم وزارة الهجرة والمهجرين علي عباس لوكالة فرانس برس، عن استمرار وجود حوالى 90 ألف عائلة مهجرة من سنجار 90% منها لجأت إلى إقليم كردستان.
كارثة جديدة سلطت الضوء مجددا على الجرح الإيزيدي، إذ أدى حريق في مخيم شاريا للنازحين الإيزيديين قرب الحدود التركية في محافظة دهوك، في إقليم كردستان يوم الجمعة 4 حزيران/ يونيو الجاري إلى احتراق 350 خيمة، وأصيب في الحادث الذي لم تعلن أسبابه 25 شخصا بجروح، بحسب ما أفاد به مسؤولون لوكالة فرانس برس.
كبر وامتداد الحريق وسرعة التهامه لخيام النازحين المنكوبين، احتاج إخماده لتدخل الجهات المختصة، والاستعانة بالطائرات المروحية وعشرات سيارات الإطفاء، وقد أفاد مسؤول إعلام دائرة الهجرة والمهجرين وإغاثة النازحين، في محافظة دهوك كاروان أتروشي، بأنه سيجري تشكيل لجنة لكشف ملابسات الحادث وتعويض المتضررين. وقد ذّكر الحادث الأخير بحوادث مشابهة سابقة، إذ لقي ثلاثة أشخاص حتفهم، إثر حريق شب نتيجة تماس كهربائي في مخيم لنازحي سنجار في إحدى ضواحي محافظة دهوك في شباط/فبراير الماضي، وقد اندلعت النيران في مخيم بيرسف شمال مدينة زاخو الذي أُنشئ عام 2015، ويقطن فيه بضعة آلاف من النازحين الإيزيديين معظمهم من سنجار. التحقيق كشف أن الحريق وقع بسبب تماس كهربائي، وأسفر عن مصرع أب وطفليه، فضلاً عن إصابة خمسة أشخاص بحروق متفاوتة. ولكن يبقى التساؤل المحير؛ لماذا لم يزل مئات الآلاف من المهجرين الإيزيديين يعيشون في مخيمات الإيواء بعد ست سنوات على تحرير مناطقهم من سيطرة التنظيم الإرهابي؟ لماذا لم تنجح عمليات إعادتهم وإعمار قراهم في قضاء سنجار؟ ومن يقف وراء مأساتهم المتجددة؟ المحللون السياسيون شبهوا حال قضاء سنجار اليوم ببرميل البارود، إذ يشكل هذا القضاء مثلثاً يجمع العراق بتركيا شمالاً وسوريا غرباً، ما يجعله منطقة استراتيجية مهمة تتنافس عليها عدة قوى، إذ تتصارع على إدارة القضاء حكومة الإقليم مع الحكومة المركزية، بالإضافة إلى القلق التركي من تواجد حزب العمال في المدينة، ما عرضها لعدة هجمات تركية حاولت القضاء على مقاتلي حزب العمال، الذي تضعه أنقرة على لائحة الإرهاب. كما يتواجد في سنجار العديد من ميليشيات الحشد الشعبي، التي شاركت في تحرير المدينة من سيطرة تنظيم الدولة (داعش) لكنها لم تنسحب بعد التحرير، ولم تسمح بعودة الإدارة الكردية في المدينة، إذ يصرح قادة الميليشيات الشيعية بأن أبناء قضاء سنجار هم من يرفضون عودة إدارة الإقليم الكردية، ويتهمونها بالتخلي عنهم بعد انسحاب مقاتلي البيشمركة الكردية في معارك 2014 من سنجار، ما عرض الإيزيديين للإبادة.
أبناء الديانة الإيزيدية في العراق يقضون حياتهم بين مطرقة الإرهاب وسندان الفساد والإهمال الحكومي
كما أن هذه الطائفة الدينية المسالمة، التي لم يرفع أبناؤها السلاح بوجه قتلتهم على امتداد التاريخ، أدركت اليوم أن خطر الإبادة يحيق بها، لذلك سارع شباب الإيزيديين إلى تشكيل وحدات حماية شبيهة بوحدات حماية الشعب الكردية في سوريا، وأشرف على تدريب هذه الميليشيا وتسليحها وإدارتها حزب العمال الكردستاني التركي (PKK ). وقد أشعل وجود مقاتلي هذا الحزب في سنجار عدة معارك، تارة بين ميليشياته وقوات البيشمركة الكردية، وتارة بين القوات التركية الموجودة في الإقليم، ومقاتلي حزب العمال، هذا الامر أضاف دمارا إلى الدمار الذي خلفه التنظيم الإرهابي في قرى وأحياء سنجار، وجعل عودة النازحين لبيوتهم يبدو أمرا شديد الصعوبة.
ويشير المحلل السياسي ياسين طه وهو من أبناء مدينة سنجار في حديث مع وكالة فرانس بريس إلى إن «سنجار اليوم بؤرة لتجمع الأجندات المتضاربة والأطراف المتخاصمة»، ويضيف «سنجار تعيش حالياً وضعاً معقداً وتوتراً يمكن أن يؤدي إلى انفجار الأوضاع في أي لحظة». وفي محاولة لحلحة أزمة سنجار، اتفقت حكومة بغداد مع حكومة إقليم كردستان في تشرين الأول/ أكتوبر 2020 على تفعيل إدارة مشتركة في قضاء سنجار التابع إداريا لمحافظة نينوى، الخطة الحكومية تستند إلى تواجد قوات من الحكومة الاتحادية فقط، وإخراج كل الفصائل المسلحة، وبينها قوات حزب العمال الكردستاني المعارض لحكومة كردستان، لكن يبدو أن «الواقع على الأرض أقوى من هذه الاتفاقات، وكل طرف في سنجار يرفض التخلي عن النفوذ الذي حصل عليه». وعلى الرغم من مرور سبعة أشهر على توقيع حكومة الكاظمي مع حكومة بارزاني وبمباركة الأمم المتحدة لـ(اتفاقية سنجار) التي تقضي بتطبيع الوضع في قضاء سنجار، وإقرار آليات الإدارة المشتركة بين الحكومة المركزية وحكومة الإقليم، إلا أن الواقع على الأرض في المدينة لم يتغير، وما زالت القوى المسلحة متمسكة بما حصلت عليه من مكاسب على الأرض. الإيزيديون يتخوفون من تفجر الاقتتال بين مقاتلي بيشمركة الحزب الديمقراطي الكردستاني المدعومة تركيا من جهة، وميليشيا حزب العمال التركي المدعوم من الميليشيات الشيعية من جهة أخرى، ويرى المنكوبون من أبناء سنجار أنهم سيكونون الطرف الخاسر، وسيدفعون فواتير الحرب لوحدهم. وكان مجلس الأمن الدولي، وبعد جهود دولية ومجتمعية ومبادرات فردية، قام بها ناشطون في مجال حقوق الإنسان، قد طالب الأمين العام بإنشاء فريق (يونيتاد) بموجب القرار 2379 لدعم الجهود المحلية الرامية إلى مساءلة تنظيم الدولة (داعش)، وذلك عن طريق جمع وحفظ وتخزين الأدلة في العراق على الأعمال التي قد ترقى إلى مستوى جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية، التي ارتكبها التنظيم الارهابي بحق الإيزيديين.
وقد دعا زعماء دينيون، من جميع أنحاء العراق، إلى مزيد من «تضميد الجراح والمصالحة» خلال فعالية نظمتها الأمم المتحدة في 16 تموز/يوليو 2020، مؤكدين التزامهم بدعم الناجين من الجرائم التي ارتكبها مقاتلو تنظيم الدولة الإرهابيون. وقد انضم الموقعون الرئيسيون على بيان تاريخي بين الأديان حول الضحايا والناجين، يمثلون الإسلام والمسيحية، وأديان أخرى إلى المناقشة عبر الإنترنت، التي عقدت تحت رعاية كريم خان المستشار الخاص ورئيس فريق التحقيق (يونيتاد) التابع للأمم المتحدة المعني، بتعزيز المساءلة عن الجرائم التي ارتكبها تنظيم الدولة في العراق، لكن بعد كل هذه التصريحات والاجتماعات هل تحقق شيء ملموس على الأرض؟ لقد أحرق وفجر تنظيم الدولة الإرهابي منازل ومدارس الإيزيديين ودور عبادتهم، كما ارتكب جريمة يندى لها جبين الإنسانية في القرن الحادي والعشرين عندما مارس الإرهابيون الاتجار جنسيا بفتيات إيزيديات بعمر الثامنة والتاسعة، وحتى الآن وبعد مرور سبع سنوات على الكارثة ما زال مصير أكثر من ألفي امرأة وطفل إيزيدي مجهولا، وتم اعتبارهم في عداد المفقودين، إذ لم تنته عمليات الكشف عن المقابر الجماعية، التي خلفها الإرهابيون في سنجار، ولم تنته عمليات البحث عن السبايا الإيزيديات اللواتي تم نقلهن إلى سوريا، ولم يتم الكشف عن مصير فتيان الإيزيديين الذين أجبروا على التدرب والقتال في صفوف التنظيم الإرهابي. ليبقى السؤال عالقا كالغصة في حلق شرفاء العالم ، أما آن للجرح الإيزيدي أن يكف عن النزيف؟ أما آن لهذا الجرح أن يندمل؟