وجوه مغتربة . .
وجوه مغتربة الروح تستفيق من تجارب وعذابات وآهات وجروح ، وجوه كثيرة ولكني اخترت وجوه قريبة مني لها تأثير روحي وفكري وإحساسي في الحياة التي تمر عبر أجيال مختلفة . .
الوجه الأول :
الشاعر والمصمم والفنان التشكيلي . . نزار البزاز مواليد 1950م دهوك .
في بداية السبعينات ، بداية الشباب الناضج اليافع ، لا يستقر في مكان فني ، ديمومة من النشاط والحراك الفكري الأدبي الفني المسرحي بأفعال ناتجة من تقديم الأفضل للإنسان ، بل كان محرك ناشط للعلاقات الفنية والإنسانية بصورة عامة لمجموعة من الوجوه الفاعلة في الشعر والموسيقى والتشكيل الفني والأداء المسرحي ومختلف الفنون الأخرى حيث أسس مسرح 11 آذار في دهوك يوم كانت دهوك كما كانت في عالم نادر من الفنون ، فألف مسرحيات وصمم لوحات فنية وأدى وأخرج العديد من المسرحيات وشارك فيها في وحدة إنسانية نقية ممكن أن يعتمد عليها حيث العلاقات الإنسانية قدسية طاهرة من الشوائب التي تعكر صفو الوجوه في أي مجموعة فنية مشتركة بين الأفكار والأفعال التي تجسد على خشبة المسرح وقبلها على مسرح الحياة ، فالعوالم التي تشحن هذه الطاقات الشبابية والوجوه الإنسانية دلالات وحركات وأحلام وأمنيات رغم الحاجة والعقبات والمعاناة ، يمكنها اختراق أي عالم افتراضي أو واقعي من خلال تدوير هذه الدلالات في محور الأفكار والأفعال من أجل تقديم شيئا مميزا للأرض والإنسان ، وفي ا1980 م استقر الأستاذ نزار البزاز في بغداد تم تعيينه في دار الثقافة والنشر الكوردية بدرجة خطاط ثم اصبح مصمما ومدبرا لتحرير مجلة بيان، حيث رئاسة تحرير وتصميم المجلات والكتب الكوردية آنذاك إضافة إلى كتابة الشعر والرسم ، أثمرت بصدور مجموعتين شعرية باللغة الكوردية وتقديم الجهد الفكري والفني للأدب الكوردي الذي تبنى التألق والإبداع فيه من خلال موقعه الوظيفي في دار الثقافة والنشر الكوردية في بغداد كمحرر ومصمم وشاعر وفنان تشكيلي ، إلى أن حزم أمتعته ذات يوم مغادرا هجرته الداخلية في2007 م بسبب الأوضاع السياسية بعد القلق والفوضى حيث الاغتيالات المجهولة والقتل على الهوية عائدا إلى دهوك وترك أثرا فنيا وفكريا في مكتبه ولا يدري أحد ما مصيرها وفي دهوك يعيش في غربة روحية وفكرية وحسية رغم إنه بين أهله وأقربائه هذا الشعور المؤلم للغربة قاسي جدا ولكن لا يظهره للعيان ومحرابه الوحيد مطبعته الصغيرة للتصميم في حي الشهداء كرى باصى قرب سفح جبل دهوك يقضي وقته من الصباح إلى المغرب ثم العودة إلى مسكنه وحيدا ، إن الفنان نزار البزاز من الوجوه المغتربة ثروة فكرية فنية قضى عمره بين الكلمة والفن الجميل داخل دهوك كوردستان .
الوجه الثاني :
سندباد القصيدة الكوردية في المهجر ، بدل رفو ، شيخان ، قرية شيخ حسن 1960م .
في الموصل بين الأزقة القديمة في شارع فاروق وفي أحد الدور القديمة لصديقي الفنان التشكيلي سالم كورد رأيت بدل رفو ذو الشعر الأسود والوجه السمح البهي والقامة الفارعة اليافعة بنشاط ذهني وحركي يحتل موقع الحياة التي يحاول أن يعيش فيها كما يريد بلا قيود ، تتعاضد معه الوحدة الفنية التي يشعر إنه منها الترجمة والشعر والدراسة فلمع أدبه من ذلك الوقت حيث قصائده تسافر بين العوالم الداخلية والخارجية وتطوف في فضاء الشعر والترجمة حينا وفضاء المقابلات الصحفية الفنية مع اكبر الفنانين والشعراء الكورد والتقديم التلفزيوني في نشرة الأخبار والاشتراك في المسرح الفلكلوري الكوردي في لوحات ودبكات كوردية مشهورة حينا آخر ، في كل هذه العوالم يحمل بدل رفو بصمت رهيب حلم حياة حرة كريمة ، وحين انتقاله لبغداد لتكملة الدراسة الجامعية لم يكن حاله سوى أفضل حالا من الموصل ، فقد فتحت أبواب الإبداع وتوسع العالم لديه أدبيا وفي نفس الوقت يكمل داسته ، يكتب الشعر ويترجم وأصدر باكورة أعماله الأدبية في بغداد ، التي تنتمي إلى لغة التذمر والغربة وإلى التناغم الإنساني ، ومن معاناة إلى أخرى كأمواج البحر التي تصدم بالصخور ، لجأ في التسعينات مع اللاجئين إلى خارج الحدود حيث اختارت دولة النمسا إلى وجوه تحمل الشهادات الجامعية فكان ضمن من مجموعة من الوجوه المغتربة ، لتبدأ رحلة عوالم مدنية عالمية بعيدة عن الوطن وقريبة روحا وفكرا ، لكن أحيانا يكون الانتماء للوطن الذي يحميه ويقدم له الرعاية والعيش الكريم ويفتح أمامه الجمال والطموح والحلم والإبداع ، ومن غربة الروح إلى غربة وطن ، حيث كرس نفسه لترجمة أعمال عمالقة الشعر النمساوي فأصدر عدة كتب مترجمة إضافة إلى ترجمة عدد من الكتب لأدباء كورد ، وتعكس رحلاته الأوربية العالمية دوره المهم في كتابة راقية عن آثارها وعظمائها وأدبائها وعشاقها ورغم كل ما وصل إليه ، الغربة قائمة في الروح والإحساس ،فعند زيارته لكوردستان خاصة لدهوك حيث الحنين إلى الأم ، أسس متحفا مميزا جميلا في إحدى شقق بروشكى العليا على سفح جبل يطل على مدينة دهوك يضم تحف نادرة للأماكن التي زارها في مدن العالم المختلفة مع شواهد دلالية ملموسة لرحلاته الفكرية التي تظهر مدى الغربة في هذا العالم بين وطنين الوطن المغترب نمسا والوطن المغترب دهوك كوردستان ما بين غربة الروح وغربة المكان تجلى وجه الغربة ” سندباد القصيدة الكوردية في المهجر بدل رفو ” ، وهو عنوان لكتابي القادم عن شعر وأدب بدل رفو .
الوجه الثالث :
عصمت شاهين دوسكي ، دهوك 1963 م .
ربما الحديث والسرد عن نفسي صعب ومتعب ، لكن أحاول أن أوجز في سطور ، بعض عوالم حياتي سردتها في روايتي الواقعية .. ” الإرهاب ودمار الحدباء ” ..يلعب الحرمان الفقر دورا في حياة الإنسان ولا يمكن نكرانه والبعد عنه ، فالإشباع في الصغر ليس كالفقر في الكبر ، حيث كانت الولادة في محلة شيخ محمد وسط دهوك بيت راقي نسبة لذلك الزمن الذي كانت معظم البيوت من طين وسقفها من خشب إلا ما ندر ، وجيراننا بيت مصطفى القصاب ومحمد مبارك ، نلعب مع الأطفال بين الأزقة القديمة في دهوك ببراءة لم نهتم ما يكون هذا دينه أو من أي طائفة ، لم تكن موجودة أصلا ، فكانت أمي قد ورثت الكثير من البساتين من أبويها تكفي لسكان مدينة كاملة ، ورغم هذا لم تكن مظاهر الغنى ظاهرة سوى القدر اليومي إلى أن تغيرت الأمور والظروف صدفة وبدأت الهجرة الداخلية إلى الموصل وعمري لا يتجاوز 6 سنوات وبعد العز والجاه سكنا في منطقة الجامع الكبير في الموصل بيت آيل للسقوط قريب من شارع فاروق والسرجخانة وبعد مرور زمن من الغربة المكانية والروحية يلازمه الفقر والحرمان حيث كان أبي عاملا كاسب يوم يشتغل وعشرة عاطل عن العمل ومن إيجار إلى بيت آخر قرب بيوت اليهود القريب من حظيرة السادة ومنطقة شيخ فتحي بدأت معاناة لقمة العيش والسكن في بيوت مشروخة تخرج منها الثعابين حينا وحشرات لا أعرف كيف كانت شكلها ، وفي خضم هذه الأحداث بدأت دراستي الابتدائية المتعبة التي أثقلت قدمي من السير إليها عابرا أزقة وشوارع للوصول إلى مدرسة الوثبة التي كانت في منطقة الساعة لعدة سنوات ، كان أبي يعطيني عشرة فلوس وأنا في الصف الرابع أجمعها وفي نهاية الأسبوع أمر على شارع نجفي وعلى باعة الكتب لأقتني كتاب أدبي ، فانتقلت من غربة الحياة والمكان والحاجة إلى غربة حياة افتراضية بين عوالم نجيب محفوظ وطه حسين وإحسان عبد القدوس والعوالم النفسية لدستوفسكي وبلاغة المتنبي والبحتري والسياب وغيرهم وفي الثمانينات دقت الغربة أجراسها فكتبت قصائد ومزقت قصائد وقصيدة أرسلتها لجريدة الراصد وإذ بها تنشر القصيدة بعدها توالت القصائد والكتابات والنشر في مجلات عربية ومحلية وفي كتاباتي كنت أجزء الغربة بحرمان كبير روحا وفكرا وإحساسا إلى أن صدرت لي مجموعة شعرية ” وستبقى العيون تسافر ” ، وفي فترة وجودي في بغداد في التسعينات وتواجدي في ملحق باشكو عيراق ودار الثقافة الكوردية كتبت مقالات نقدية عديدة لكثير من الأدباء الكورد توجت بإصدار كتابين عن الأدب الكوردي ” عيون من الأدب الكوردي المعاصر ” وكتاب ” نوارس الوفاء ” وديوان شعر ” بحر الغربة ” صدر في المغرب ، طنجة ، لكن لا يبقى حال على حاله عدت إلى الموصل حيث بدأت العمل في شركة تجارية لأكثر من عشرة سنوات وبعد احتلال الموصل من قبل داعش وتكرار الهجرة الداخلية بين الموصل ودهوك ، قصفت الطائرة بيتي خطأ وصار بيتي ركاما مع سيارتي وكتبي وارثي الأدبي الجميل ، وبين غربة المكان وغربة الروح وتجسيد وجه الحرمان والفقر ، يظهر الأقرباء وقد احتلوا واغتصبوا بطرق مختلفة أراضي أمي بل حتى وهي ميتة تحت التراب لم تخلص من تصرفاتهم ووجوههم الطامعة فغيروا اسم جدها وأشياء أخرى لكي يهيمنوا على بساتين واسعة ودونمات جزؤوها بينهم ” حسبي الله ونعم الوكيل ” ، فكيف لا نعيش في غربة روحية وذاتية وإنسانية بين عوالم إنسانية فقد الضمير دوره الحقيقي وفقد الإنسان إنسانيته .جزيل الشكر للأستاذ سربست ديوالي أغا الذي جمع شمل عائلتي في شقة وصان كرامتها زمنا ، بدلا أن يصونها الأقرباء ..!
هذه الوجوه الثلاثة نماذج عصرية للغربة الحقيقية . . وغيرها كثير . . و بأشكال وصور ومعاني مختلفة .
بقلم الكاتب
عصمت شاهين دوسكي