فيلم «المصباح الغازي»… والتأثير في الثقافة السياسية والفنية.
من النادر أن يكون فيلما سينمائيا معينا بداية لنوع مهم من السينما العالمية ونموذجا لأفلام شهيرة أخرى، محدثا تأثيرا مثيرا للاهتمام في الثقافة السياسية والفنية والأكاديمية. والفيلم المعني هنا هو «المصباح الغازي» Gaslight الذي عرض للمرة الأولى عام 1944 من بطولة أنغريد برغمان وشارل بواييه وجوزيف كوتن.
قصة الفيلم
تدور أحداث الفيلم في ثمانينيات القرن التاسع عشر في العاصمة البريطانية لندن، حيث تُقتل مغنية الأوبرا العالمية «أليس الكويست» ليلا في منزلها الفخم على يد لص لسرقة مجوهراتها، لكن القاتل يفر عندما تنزل «باولا» (أنغريد برغمان) ابنة شقيقة الضحية من الطابق الأول لتتفقد سبب الضوضاء التي أيقضتها في ساعة متأخرة من الليل. وتفشل الشرطة في العثور على القاتل، لكنها تقتنع بأن سبب الجريمة كان مجوهرات الضحية الباهظة الثمن، التي لم يعثر عليها. أما «باولا» ذات الأربعة عشر ربيعا، التي كانت والدتها قد توفيت، وربتها خالتها القتيلة، فيتم إرسالها إلى إيطاليا لتعلم غناء الأوبرا على يد أستاذ شهير هناك كان قد درب خالتها. وبعد عدة سنوات تثبت «باولا» جدارتها في مضمار الغناء الأوبرالي، لكن مدربها يلاحظ أنها بدأت تفقد تركيزها، ويكتشف أن الحب كان السبب. وما لم يعرفه الأستاذ العجوز أن تلميذته قد وقعت في غرام عازف البيانو الجديد، «غريغوري» (شارل بواييه) الذي بدأ بالعمل لديه قبل أسبوعين فحسب، وامتاز بشخصية جذابة سحرت «باولا» بسهولة.
وتتوقف «باولا» عن التدريب، حيث تتفق مع «غريغوري» على الزواج بعد إلحاح منه، ويقترح كذلك الانتقال إلى منزل خالتها في لندن. وتتردد «باولا» نظرا لخوفها من ذلك المنزل، لكنها ترضخ أخيرا، لأنها اعتقدت أنها ستشعر بالأمان هناك بوجود زوجها. وبعد الانتقال إلى المنزل تعثر في المنزل على فردة كف عائد لخالتها حيث كانت القتيلة قد أخبرتها أنها أهدت الفردة الثانية لأحد اكبر معجبيها، دون أن تحدد هويته. وتعثر أيضا على رسالة من شخص يدعى «سرجس باور» يخبر خالتها فيها بأنه في لندن، لكن قبل أن تنهي «باولا» قراءة الرسالة ينفعل «غريغوري» بحدة وبشكل فجائي أخذ الرسالة منها. وتندهش «باولا» إلا أن زوجها يعلل ما فعله بمحاولته تجنيبها تلك الذكريات الأليمة. ويقترح «غريغوري» نقل جميع أثاث المنزل ومقتنيات خالتها القتيلة إلى مخزن يقع في أعلى المنزل لأن هذه الأشياء تثير لدى «باولا» ذكريات تلك المأساة. ويبلغها «غريغوري» كذلك أنه استأجر شقة صغيرة في المنطقة كي يتفرغ للتلحين، ولذلك فإنه يخرج كل ليلة ليعود في ساعة متأخرة، ويهديها حلى بسيطة كانت ملكا لوالدته. لكن «باولا» تبدأ تدريجيا بإضاعة بعض الأشياء البسيطة، مثل تلك الحلي البسيطة، وينبهها زوجها بانزعاج أنها تنسى أحيانا ما يقال لها. وتبدأ زلاتها تثير أعصاب زوجها قليلا، ويحاول جاهدا منعها من الاختلاط بالناس. وعلى الرغم من وجود خادمة كفؤة في المنزل، فإن الزوج يوظف خادمة جديدة (أنجيلا لانزبري) ذات وقاحة واضحة سرعان ما تثير حنق «باولا» التي تعبر عن شكواها لزوجها، إلا انه يأخذ جانب الخادمة الجديدة، ويبين استلطافه لها أمام «باولا» غير آبه بمشاعرها. وفي إحدى المرات، وأثناء زيارتهما لأحد معالم لندن السياحية، يلاحظان أن رجلاً لا يعرفانه ينظر إلى «باولا» ويلقي عليها التحية، ما يثير غضب «غريغوري» على الرغم من تأكيد «باولا» عدم معرفتها به. ولم يكن ذلك الرجل سوى»برايَن» (جوزيف كوتن) الارستقراطي الذي يعمل ضابطا في شرطة لندن. وقد نظر إلى «باولا» لشبهها الكبير بخالتها المغنية، التي عرفها جيدا في في مراهقته. وتزداد حياة «باولا» سوءاً حيث تبدأ بسماع أصوات خطوات من المخزن العلوي وخفوت المصابيح الغازية (لم تكن المصابيح الكهربائية موجودة بعد) في المنزل ليلا، فتشعر بالرعب في ذلك المنزل الكبير، لاسيما أن زوجها غائب لكونه في الشقة القريبة كعادته كل ليلة. وفي إحدى المرات تنادي الخادمة الجديدة لتسألها عن خفوت المصابيح، إلا أن تلك تدعي عدم ملاحظتها ذلك. وتزداد شكوى الزوج من نسيانها المتواصل وفقدانها للأشياء الثمينة، ما يسبب لها اضطرابات نفسية، وإحساسها بأنها تعاني من مشكلة عقلية. ويبلغها زوجها أن والدتها كانت مختلة عقليا وتوفيت في مستشفى للأمراض العقلية، أما تلك الرسالة التي قرأتها، فلم تكن سوى اختلاق من خيالها مما يثير فزع «باولا».
كان الفيلم قد بدأ كمسرحية ناجحة جدا للكاتب المسرحي البريطاني باتريك هاملتن عام 1938 في لندن، ثم عرضت المسرحية بنجاح مماثل في نيويورك حيث مثل البطولة الرجالية الممثل البريطاني فنسنت برايس، ولذلك أنتجت شركة بريطانية فيلما مأخوذا من المسرحية عام 1940 ونال استحسان النقاد.
في هذه الأثناء يراجع «برايَن» ملف مقتل مغنية الأوبرا العالمية، ويقرر إعادة التحقيق. ويكتشف أن الشرطي الذي يقوم بالدورية في المنطقة على علاقة بالخادمة الجديدة، فيأمره بمراقبة الزوج ليلا ومعرفة المزيد عما يدور في ذلك المنزل. ويبلغه الشرطي أن الزوج يخرج ليلا بكامل أناقته، لكنه يعود والتراب قد غطى ملابسه، وكأنه كان يقوم بعمل يدوي شاق. ويكتشف «برايَن» أن الزوج يدخل منزلا غير مسكون مجاور لمنزله وينتقل من سطح ذلك المنزل إلى سطح منزله ومن ثم إلى المخزن، وأن سبب التراب هو محاولته البحث عن شيء ما بين مقتنيات المغنية القتيلة. وبعد ذلك يعود إلى المنزل المهجور، ومنه إلى منزله من الباب الأمامي. ويحاول «برايَن» التعرف على جارة فضولية لـ»باولا» كانت تحاول جاهدة التعرف عليها كي تساعده على التعرف على «باولا» شخصيا، لكن محاولتها لم تنجح. ويبلغ الشرطي رئيسه «برايَن» أن الخادمة الجديدة أبلغته نية الزوج إرسال «باولا» إلى مكان بعيد، مما يثير قلق «برايَن» فيزور «باولا» أثناء غياب زوجها ويعطيها فردة الكف الثاني العائد لخالتها، موضحا أنه كان ذلك المعجب الذي أعطته إياه خالتها عندما كان صغيرا. وكانت هذه المحاولة جديرة بكسب ثقة «باولا» التي أبلغته بتخيلها خفوت المصباح الغازي وصوت الخطوات، لكنه يؤكد لها أنه يلاحظ كل ذلك في تلك اللحظة ويفتش مكتب زوجها، فإذا بـ«باولا» تكتشف» الرسالة التي وجدتها عند انتقالها إلى المنزل، ويقرأها «برايَن» ويبلغها أن المدعو «باور» كان قد عمل عازفا لدى خالتها واختفى مباشرة بعد مقتلها، كما أنه في الحقيقة متزوج من امرأة في براغ. وما أن يغادر «برايَن» المنزل حتى يدخله الزوج سعيدا، حيث وجد المجوهرات الثمينة بعد أن قضى كل تلك الفترة باحثا عنها. لكنه يكتشف أن «برايَن» قد فتش المكتب، فيستشيط غضبا، لكنه قبل أن يؤذي «باولا» يدخل «برايَن» مع الشرطة ويلقي القبض على الزوج، إذ فهم «برايَن» كل شيء، فقد كان الزوج في الحقيقة «باور» الذي قتل المغنية طمعا بالمجوهرات، إلا أنه لم يجدها حينذاك. وتحدق «باولا» بزوجها المكتف أمامها وتنجح في الانتقام منه بتظاهرها بمحاولة طعنه وهو العاجز عن الدفاع عن نفسه. وتأخذ الشرطة زوجها وينتهي الفيلم.
تاثير الفيلم على الثقافة العالمية
لم يكن الفيلم إلا رمزاً لنوع من الاضطهاد النفسي السادي، الذي يزداد اهتمام علماء النفس والاجتماع به كظاهرة حقيقية، وأكثر انتشارا مما يعتقده الكثيرون. ويذكر علماء النفس أن الاسلوب الذي أظهره الفيلم في التأثير في عقلية الضحية في الفيلم ليس خيالا، بل حقيقة واقعة ومعروفة، يكون فيها الضحية زوجاً أو زوجة أو موظفاً، أو حتى مجموعة أشخاص. أما الذي يقوم بهذا النوع من الخداع، فهو شخص مقرب جدا من الضحية من الناحية العاطفية، وقد يكون رئيسا في العمل، أو مدرساً، أو حتى مؤسسة حكومية. وأصبحت السيطرة بطريقة فيلم «المصباح الغازي» لجعل الضحية يعتقد أنه مضطرب نفسيا أو سيئا أو غبيا، مفهوما أكاديميا بارزاً في مجالي علم النفس وعلم الاجتماع. وكان نجاح الفيلم الكبير سببا في تبني اسم الفيلم كتعبير لوصف ذلك النوع من الاضطهاد النفسي، ودخول التعبير قاموس اللغة الإنكليزية وبرزوها في الثقافة الأكاديمية والسياسية. وقد استعمل التعبير للمرة الأولى في عالم السياسة عام 1995 في مقال سياسي للكاتبة الأمريكية مورين داود. ومنذ تلك اللحظة أصبح ذلك التعبير شائعا، حيث يُتّهَم بعض السياسيين أحيانا بأنهم يحاولون التأثير في الرأي العام على طريقة «المصباح الغازي». وتجاوز الاستعمال عالم السياسة، فمثلا عندما تم اتهام المنتج هارفي فاينشتاين بالاغتصاب، قام متهموه بوصفه بأنه يحاول السيطرة على الرأي العام بطريقة «المصباح الغازي».
تحليل الفيلم
جاء اختيار الممثلين في الفيلم موفقا، حيث برع كل من منهم في تمثيل دوره وكانت النزعة السادية طاغية على الفيلم، ونجح شارل بواييه في أن يكون رمز الفيلم، حيث تفوق على الجميع بشخصيته التي كانت جذابة تارة، ومخيفة تارة أخرى، فعندما كان يمثل الشخصية الجذابة يعتقد المشاهد باستحالة مقاومة أي فتاة له، لكن تلك الشخصية تنقلب فجاة إلى غول مخيف، ولا يستطيع القيام بذلك سوى الممثل القدير. ونجحت أنغريد برغمان في تمثيل دور المرأة الطيبة، وساعدها في ذلك المخرج جورج كوكر، الذي عرف بمخرج الممثلات لمهارته في إخراج الأفلام التي تكون الشخصية الرئيسية فيها امرأة. وعانت أنغريد من مشكلتين أساسيتين في الفيلم، أولهما طول قامتها ومنكباها العريضان، واضطر المخرج استعمال خدعة سينمائية لتجنب ظهورها أطول من شارل بواييه، والمشكلة الثانية، أنها لم تبدُ فتاة مراهقة إطلاقا، كما يقتضيه الدور، بل امرأة في حوالي الثلاثين من العمر. ولذلك فان فارق السن بينها وبين «شارل بواييه» لم يبدُ غير عادي، بينما ذكر بعض النقاد أن الفرق في السن بين الزوجين كان من المفروض أن يكون كبيرا.
ونالت أنغريد برغمان جائزة الأوسكار لأفضل ممثلة رئيسية بينما ترشح شارل بواييه لجائزة أفضل ممثل رئيسي، دون أن ينال الجائزة. ومن الجدير بالذكر أن الفيلم تم ترشيحه لسبع جوائز للأوسكار، لكنه لم يحصل سوى على اثنتين. ومن مفاجآت الفيلم ترشيح أنغيلا لانزبري لجائزة الأوسكار لأفضل ممثلة ثانوية عن دور الخادمة الجديدة، على الرغم من أن ذلك الفيلم كان الأول لها، وكانت في الثامنة عشرة من عمرها. وكانت بعض أحداث الفيلم غير منطقية، فمثلا بالنسبة للممثل جوزيف كوتن كان يتكلم بلهجة أمريكية واضحة، وهو الذي من المفروض أن يكون ضابط شرطة في لندن، وكان اقتحامه للحياة الشخصية للزوجين أنغريد برغمان وشارل بواييه غير طبيعي، إذ أنه لم يبلغ أيا منهما أنه ضابط شرطة، ما كان سيسهل فهم الموقف، فبدا وكأنه مهووس بالزوجة. ولم تكن علاقة الخادمة الجديدة بالزوج واضحة، ففي المسرحية الأصلية كانت عشيقته وتساعده في المؤامرة، أما في الفيلم فقد كان ذلك الجانب مبهما. وعلى الرغم من أن المتابعة الدقيقة للفيلم تبين أن الطابع المسرحي كان الأغلب عليه، فإن المخرج أثبت براعته في الحفاظ على صفة التشويق طوال الفيلم.
التحضير للفيلم
كان الفيلم قد بدأ كمسرحية ناجحة جدا للكاتب المسرحي البريطاني باتريك هاملتن عام 1938 في لندن، ثم عرضت المسرحية بنجاح مماثل في نيويورك حيث مثل البطولة الرجالية الممثل البريطاني فنسنت برايس، ولذلك أنتجت شركة بريطانية فيلما مأخوذا من المسرحية عام 1940 ونال استحسان النقاد. وفي بداية الأربعينيات فكر المنتج ديفيد سيلزنيك في إنتاج نسخة أمريكية من الفيلم، واتصل بأكثر من مخرج لإخراجه. وكان من هؤلاء المخرج البريطاني المعروف الفريد هتشكوك، الذي سبق أن أخرج فيلمين شهيرين عن زوجة تتعرض للاضطهاد النفسي، كما في فيلم «المصباح الغازي» وهما «ريبيكا» Rebecca (1940) و»شك» Suspicion (1941). لكن هتشكوك رفض لسبب ما، وظل نادما طوال حياته على هذا القرار. وفي نهاية المطاف تولت شركة «أم جي أم» MGM الأمر، حيث قررت إنتاج الفيلم واتفقت مع الشركة المنتجة للفيلم البريطاني على إتلاف جميع نسخ الفيلم الأول، لكن المخرج البريطاني لحسن الحظ احتفظ بنسخة واحدة، ما أتاح الفرصة للأجيال التالية من هواة السينما التعرف على الفيلم الأول، ونال استحسانا كبيرا من قبلهم.
تم اقتباس فكرة الفيلم من قبل العديد من الأفلام والمسلسلات الشهيرة في السينما العالمية وحتى المصرية. وما تزال المسرحية تعرض بنجاح في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية.
باحث ومؤرخ من العراق