سعدي يوسف… «الشيوعيّ الأول»!
بعيداً في ضباب مدينتي الخجلى
لقيتُكَ أنت والعربات والليلا
حزينٌ أن أراكَ هنا
سعيدٌ أن أراكَ هنا
القصيدة لسعدي يوسف، وعنوانها الأصلي «لقاء مع رجل ما» وقد اخترت لها عنوان «الشيوعي الأول» لأن الزمن تغيّر، والأيام التي تمضي بنا تُغيّر كل شيء، حتى العناوين والأمكنة والأسماء…
لحدّ الآن، ومنذ تأسيس الدولة العراقية في ثلاثينيات القرن الماضي، ارتبطت الحركة الوطنية بالحزب الشيوعي العراقي، مؤسسين وقادة وأفراداً كانوا يمثلون جميع الطبقات، ولا أحد أحسن من أحد، والسيئ بينهم يُلفظُ حتماً مثل القذى في العين، ومنذ السنين التي فتحنا عليها الأعين، أي ستينيات القرن المنصرم، وإلى السنة التي أعلن فيها سعدي يوسف أنه الشيوعيّ الأخير، وإخوته في النضال يبنون عاما بعد عام معمارا للنزاهة، مثلما تصمّم النخلة معمارا للقبة. يلتقي الشاعر بالرجل الذي علّمه السير في هذا الدرب الوعر، للتعبير عن الذات التي تتفانى، وتتعإلى، وتزهر حباً للناس، وللوطن، ويصف الشاعر صديقه بلغة الشعر:
«وفي عينيكَ ألقى وجهَكَ الطفلا
نقياً كطيور البحرِ في أمسيةٍ جذلى
لقد علّمتني البغضاء والحبّا
لقد علّمتني أن أعبد الشعبا»
الحبّ الذي يكون بيننا، في أسمى معانيه، شيوعيّ، والبغض الذي يجبرنا البعض عليه، نتعلم أن يكون شيوعيّاً، أي ثلاثة أرباعه رحمة، وهذا الأمر يعرفه الجميع، خصوصاً أعداؤنا. الخجل شيوعيّ، والرقّة، والرأفة، وتنتقل الأخلاق الكريمة معهم حيثما ذهبوا، والأرض التي يسيرون على أديمها تصير منهم:
«والخطى تنأى.. وتلقى دوننا ظلا
بعيداً في ضباب مدينتي الخجلى
ويمكن للمتتبع آثارهم أن يختار من طريقتهم في الحياة إنموذجا نربّي وفق أصوله أبناءنا، ليمضوا باحثين عن النور، مدفوعين بالمثل الأعلى لما يكونه المواطن الحقيقي. أفلا يكفيهم فخرا أن لم يظهر من حزبهم طاغية يرتكب الجرائم بحق الناس والوطن؟
القصيدة، بلغة النقد، فيها السرد والحوار والتشبيه الذي يرتفع بالكلام إلى أن يكون لوحة، بالإضافة إلى ما في القصيدة من غناء وإيقاع وحيوية وحياة، علماً أن تاريخ الكتابة يعود إلى عام 1955.
تعريف الشعر
قصائد الشاعر هي بمثابة سيرة ذاتية، ويصحّ هذا القول مع سعدي يوسف، ولا يصحّ، فمن الناحية الفنية أتمّ الشاعر هندسة قصائده بالشكل المميّز الخاص بها، لكي تلامس أرواحنا بطريقة خاصة. منذ «القرصان» قصيدته الأولى، التي كتبها وهو لمّا يزل صبيا، وحتى اليوم، كلّ صفحة من كتاب سعدي فيها اكتشاف لا يشابه سواه، فيها كل ما هو غير مألوف، وعذب، وفيها ما يصحّ به تعريف الشاعر الإنكليزي وردزورث للشعر: هو الحقيقة التي تصل القلب رائعة بواسطة العاطفة.
في الحياة كلّ شيء جائز، وكلّ شيء ممكن، وكلّ شيء مستحيل. الفكرُ يعمل، والقلب، وبمعونة الخيال يتحقّق حتى ما تعجز الأحلام عن خلقه، وهذه وظيفة الأدب. ما الذي يمكن قوله عن شاعر لم تكن سيرته في أيّ يوم ظلاماً صامتاً، ولا موسيقى عادية، إنما هي ترانيم أصغى الجميع لها جيدا، حتى صارت إنشودة تردّدها القلوب مع الشفاه والألسن؟
الجلوس إلى منضدة الكتابة في البيت، أو المكتب، يختلف عن السياحة في الطرقات، وهذه بالطبع لا تشابه التجوال عند شاطئ بحر متطرّف.
أمي،
قالتْ لي يوماً:
«يا ولدي،
حينَ أتيتَ إلى الدنيا
أحسستُ بخطفةِ برقٍ في عينيّ…»
هي أم سعدي يوسف طبعاً.
ثلاثة عناوين رئيسة لدى الشاعر تحضر مباشرة من الذاكرة، ويمكن لها أن تلخّص تاريخ ترحاله في دروب الحياة، والشعر:
الأخضر بن يوسف
خطوات الكنغر
والشيوعيّ الأخير
التقسيم الثاني لحياة الشاعر قام به سعدي يوسف نفسه، في ديوانه «حياة صريحة»؛ سبعة فصول حواها الكتاب هي كل ما رأى: العائلة، المدينة، النضال، السجن، المرأة، الحانة، النهر.
كما أن ثلاثة ملامح تميّز شعره هي المعاصرة والواقعية والثورية. لو استثنينا تجربة السيّاب، نجد رفضا قاطعا لدى سعدي لماضي الشعر القريب، واعتزازا وتبجيلا للبعيد، يصل حد أن الشاعر ينتسب إلى الملك الضليل، وتعدّ تسميته لأحد دواوينه «حفيد أمرؤ القيس» موقفا نقديّا تقوده التجربة الفعلية، أكثر منه إعجابا بالجموح الرائع الذي يميّز هذا الشاعر عن غيره. الشعر القديم غائب، لكن الشعور به حاضر وراسخ، وهناك شعور بالزهو تتضمّنه رائحة كل ورقة في كتب سعدي لأنه تربّى على هذا النوع من الشعر. الجمع بين السيّاب والماضي القصيّ يمثّل خطوة حقيقية وثابتة تقدّم بها الشعرالعربيّ إلى أمام، دون الحاجة الكاملة إلى التجارب العالمية التي كان الشاعر على تماسّ مباشر معها.
مع أرسطو
بالإضافة إلى النبرة، لدى سعدي يوسف وجهة نظر جديدة في الشعر، وفي الفنّ عموماً، وبالتالي في الحياة. يعرّف أرسطو الشعر بأنه أداة ديناميكية وقوة فعالة من شأنها أن تتجاوز تمثيل الأشياء والأفعال، باعتبار ما هي عليه، إلى تمثيلها باعتبار ما ينبغي أن تكون عليه، وهذا بالضبط ما جاء به سعدي يوسف، فلا أحد ينكر أنه أكثر شاعر فتح الباب واسعاً لتحويل الخيال والواقع الحرفي إلى واقع شعري، وهنا تجيء مقولته الشهيرة: اكسروا مرآة الواقع، وشيّدوه بمرآة الشعر. اللغة الجديدة تعني أكثر من فكر جديد، هي اكتشاف لأرضين غير هذي الأرض على سطح الكوكب:
«أبصرْ…
وإلا فليمرّغْكَ الحذاءُ، على الزجاجِ، على المقاعدْ
وعلى أنابيب المياهِ، وفوقَ أغطيةِ الموائدْ
وأمامَ أبوابِ الأطباءِ الأنيقةِ، والمطاعمِ، والقضاهْ»
في يوم ما سيجد شخص ما حتما الطريقة ليخبرنا الحقيقة. منذ أبي نؤاس، لأول مرة يكون الشعر تنويرياً بطريقة ساطعة في المجتمع. الأدب العظيم هو الذي يجعلنا أفضل حالا، ويسهّل علينا صعوبات الحياة، ويجعل كلّ شيء في الوجود مطبوعا في أرواحنا. طوال سنوات نضال العراقيين للخلاص من حُكم البعث المجرم، ورئيسه المجنون كانت قصائد سعدي يوسف هي النشيد:
هذه الأرضُ، أرضُنا
لم نُمَتَّعْ بينابيعها، ولم نمشِ فيها مَرَحاً…
أرضُنا التي ما مددْنا غُصناً نحوها لنلمُسَها،
حتى أتانا السيفُ الذي يبترُ الكفَّ، وأغصانَها، وأولى الأغاني
كم عدد الأنامل التي شوّهها المجرمون بالحرق، أو بالقطع، أو بالدفن حيّةً في أرضنا، أرض الفراتين؟ كم دالية مزهرة؟ كم نشيدا؟
التجديد في الشعر
تختصر الصفة في اللغة المرء منّا في كلمة واحدة، أي إنها ترسمه ومعه حياته من الألف إلى المنتهى في أحرف قليلة. هي شيفرة إذن، أو قل عنها بصمةً، إمضاءً… هي صورة كاملة لنا مثلما جئنا إلى الحياة. هي صورة عارية، أو هي الاسم الحقيقي لنا إذا شئت مراودة لغة التعريف، لكن أيّ صفة تؤدي إلى أن نحسّ بما يحيط باسم سعدي يوسف؟
هو شاعر لا يُحصى…
الحديث عن التجديد في الشعر صار مكررا، كذلك التسابق والمباراة في قول بيت من الشعر لا سبيل إلى نسيانه. الحديث اليوم صار يتجه نحو التجديد في إنشاء أسئلة تبقى تلحّ على العقل، وتُعطي في الوقت نفسه الأجيال القادمة الجرأة على مضاعفة الأجوبة:
لماذا تفيق صباحا
وتهجر مملكة كنتَ فيها الملكْ؟
لماذا المدينة؟
لماذا السلاحف تحمل مرآتنا؟
هي ثلاثة من مجموع عشرة أسئلة يلقيها الشاعر على القارئ، في صيغة موجزة، وسريعة، لكنها غير ممضة، وهادئة. إنها تساؤلات تجاهد أن تكون معتمة لنفس حائرة تطلب المشاركة في المعاناة، أكثر من البحث عن جواب، فما هو جواب السؤال: لماذا المدينة؟ الوضوح هنا من القوة أنه يزيل الغموض عن كل سؤال، وفي الشعر تتضاعف أقل إيماءة تقوم بها أصغر يد، وتكون مهارة الشاعر حاضرة عندما تتحول على يديه أحزان البشر إلى موسيقى وكلمات، حتى الزمن يختلف قياسه في الشعر عنه في النثر:
«مرةً كنت في دمشق، بها أمضيت قرنا ونصف قرن،
وأمضيت الثواني مدجّجات، وكان الصخر في قاسيونَ ماء»
الثواني قرون، وهذه ثوانٍ، حسب منطق الشعر، الذي هو منطق الحياة. من ثقافة الشعب الألماني أنهم يعدّون السعادة مصدرا لقوة البدن والنفس، وكانت حياة سعدي في قاسيون مدجّجة بهذه القوّة، فالصخر ثمة يرقّ ويجري في الأقداح، ويرتوي منه البشر والحيوان والنبات، وكذلك بقية الأشياء.
قراءة مجاميع الشاعر الثمانية تشبه النظر في مشكال، وهذا يشبه داخله نفس ساحر، والحياة مع السحر لا تنتهي لأن فيه لقاح ضدّ فكرة العدم القائمة فعلا، وضدّ الموت…
بعد الاحتلال
اختلفت قصائد الشاعر بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 في المعنى والمبنى. كانت البوصلة تتجه من الخارج إلى الداخل، وصارت الآن تعيش في شوارع الوطن وفي بيوته، ولا تؤشر إلى مكان آخر. حتى في أسعد أوقاته، وهو ينقش تعلّاته في بلاد الدنيا لا تفارقه أشجار العراق وأنهار العراق وناس العراق. والإعلان الصحافيّ الذي نشره مرةً غاضبا على أنه تبرّأ من ترابه كان في الحقيقة معكوس القصد، وهكذا صار الموضوع السياسي هو الوحيد، وليس الغالب، على كلّ شعره. صرنا نقرأ قصيدة مرصودة بعين جديدة بعد الاحتلال؛ اللغة سهلت، والفكرة انبسطت، وهنالك في كل مفردة قليل من الموت حزنا، ولا ينتهي يوم إلا بما هو أكثر سوءاً منه. صار الإبداع، ولأول مرة في حياة الشاعر، صيرورة ثورية أكثر منها إبداعية، وهذا ما لم يحدث حتى في سنين ارتباطه بالحركة الشيوعية أيام كان النضال للتحرّر هويّة الدخول إلى العالم الجديد، الذي كان يتشكّل في تلك الحقبة من السنين.
«عشرون ألفاً من بساتين السماوة | أقبلوا متدافعين | ومن غياض الكوت…| كانوا يحملون بنادق البَرْنو| ويستبقونَ سيّارات «لادا» من ذوات المبدل اليدويّ والدفع الرباعيّ…| الغبارُ يشوّشُ الآفاقَ| والراياتُ حُمْرٌ| لا تكادُ تُرى من النقْع المُثارِ| الفجرُ لوّحَ| والهتافُ:| تعيشُ بغدادُ! | الشيوعيّ الأخيرُ هنا…| الشيوعيون جاؤوا| حرّروا بغداد!».
البناء الشعري الجديد جعل النقاد يرون فيه بعض الليونة، غافلين عن أنه وثبة جريئة إلى سماء المعنى، بواسطة الغذاء الجديد الذي تدعمه القوة العارمة في الصدق وفي الدلالة، فجاءت الأخيرة جاهزة دون الحاجة إلى أدوات الشعر الصعبة. الشاعر الذي كان يريد تغيير العالم في السابق اكتفى بمطلب واحد؛ تحرير بلده من المحتلّ، فهو اليوم يكتب لا للانتلجنسيا، بل لابن الشارع، يريد أن يشعر به، ويكون قربه. الشيوعيّ الأخير عاد إلى دينه، وكانت عودته مزلزلة لكل ما فيه، وبالأخصّ شعره.
مع رجل دين
الحياة مخففة والأدب مكثّف، وشاء سعدي يوسف أن تبلغ تجربته الأدبية الدرجة القصوى من التكثيف. هي ألوان الطيف الشمسي مقارنة باللاشيء من اللون، أي العدم. لا تمكث العين أمام هذا المشهد الملوّن في بقعة واحدة على حساب لون آخر. قراءة شعر سعدي إذن يجب أن تكون بالطريقة التي تبصر بها العينان الوجود. فهما تبدآن بالأصفر مثلاً، وتقرّر البصيرة بعد قليل أن ترتاح مع الأخضر، ثم تشتاق الروح أن ترى من الأبيض شيئاً… لا وجود لتسلسل زمني في تتبع آثار شاعر لا يُحصى، فقصائده ألوان، واللون لا يُملّ، ولا ترتاح العين إلا عندما يقع في مسكنها الفسيح.
ضمّني مجلس مع أدباء وأطباء وكان يحضر معنا رجل دين.. أشار إلى ديوان سعدي يوسف «الخطوة السابعة» وقال إن في هذا الكلام تجديف ومروق يشبه الضلالة، وأفهمت الرجل أن الشاعر يقصد أنه بلغ المجلّد السابع من دواوينه الشعرية، وكان أن سكت الرجل المعمّم. النيّة في تفسيره لمعنى الدرجة السابعة، أخذت بها منذ تلك الجلسة كلما قرأت من شعر سعدي. لقد بلغ بالشعر العربيّ السماء السابعة، وهو يطرق الباب، فهل يؤذن له بالدخول؟
منذ أبي نؤاس؛ لأول مرة ترتدّ صرخة الشاعر إلى صخرة صدره، ولا يصلنا غير صدى موسيقى هادئة نتعلم منها بصورة واضحة كيف تكون المعاناة طريقا للتعلّم. بعد أن كان الشعر أحلاما وخيالات مهجورة، لأول مرة ينفعل الشاعر، ونرى في انفعاله معنى.
كاتب عراقي