الفقرة 6: “أما عقوبة المرتد وكونها من عقوبات الحدود “فيستند فيها إلى” بعض أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. وأكثر هذه الأحاديث تداولا ثلاثة أحاديث، الحديث الثاني هو:
ب – الحديث الذي رواه البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما: “من بدل دينه فاقتلوه”.
وجدنا في السنن الصحيحة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يجعلنا نذهب إلى أن الأمر الوارد في الحديث بقتل المرتد ليس على ظاهره، وأن المراد منه إباحة القتل لا إيجابه “لا وجوبه”. ومن ثم تكون عقوبة المرتد عقوبة تعزيرية مفوضة إلى الحاكم: أي القاضي، أو الإمام: أي رئيس الدولة، أو -بعبارة أخرى- مفوضة إلى السلطة المختصة في الدولة الإسلامية، تقرر فيها ما تراه ملائمًا من العقوبات، ولا تثريب عليها إن هي قررت الإعدامَ عقوبةً للمرتد. وهذا -والله أعلم – هو معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن من بدل دينه فيجوز أن يُعاقب بالقتل، لا أنه يجب حتما قتله”.
*جـ – والحديث الثالث فهو الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة”.
الفقرة 7: فسَّر كثير من الفقهاء “المارق من الدين المفارق للجماعة” بأنه المرتد، وقرَّروا بناء على ذلك أن المرتد يُقتل حداً بنص هذا الحديث الصحيح. وهذا التفسير ليس محل اتفاق بين الفقهاء. فابن تيمية رحمه الله قرر أن المقصود بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المارق من الدين المفارق للجماعة” يحتمل أن يكون المحارِب قاطع الطريق لا المرتد.
*الفقرة 8: ما رواه البخاري ومسلم من أن “أعرابيا بايع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأصاب الأعرابي وعك “مرض” بالمدينة، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد أقلني بيعتي (أي أنه يطلب الاستقالة من الإسلام ويرتد عن الإيمان به -ع.ل)، فأبى، ثم جاءه وقال: يا محمد أقلني بيعتي؛ فأبى؛ فخرج الأعرابي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “إنما المدينة كالكير “منفاخ الحدادة” تنفي خبثها وينصع طيبها”، وقد ذكر الحافظ ابن حجر، والإمام النووي نقلاً عن القاضي عياض أن الأعرابي كان يطلب من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إقالته من الإسلام، فهي حالة ردة ظاهرة، ومع ذلك لم يعاقب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الرجل ولا أمر بعقابه، بل تركه يخرج من المدينة دون أن يتعرض له أحد.
*الفقرة 9: ما رواه البخاري: “كان أحدهم رجلاً نصرانياً فأسلم، ثم عاد نصرانيا”. ففي هذا الحديث أن الرجل تنصر بعد أن أسلم وتعلم سورتي البقرة وآل عمران، ومع ذلك فلم يعاقبه النبي صلى الله عليه وسلم على ردته.
*الفقرة 10: وردت حكايته في القرآن الكريم عن اليهود الذين كانوا يترددون بين الإسلام والكفر ليفتنوا المؤمنين عن دينهم ويردوهم عن الإسلام، قال تعالى: “وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ” (آل عمران: 72). وقد كانت هذه الردة الجماعية في المدينة والدولة الإسلامية قائمة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حاكمها، ومع ذلك لم يُعاقب هؤلاء المرتدين الذين يرمون، بنص القرآن الكريم، إلى فتنة المؤمنين في دينهم وصدهم عنه.
* الفقرة 11: ما رواه عبد الرازق بسنده عن أنس رضي الله عنه قال: “خلاصة الرواية هي أن مجموعة من بني وائل ارتدوا عن الإسلام فقتلهم القائد المسلم وحين أخبر عمر بن الطاب بذلك قال له “لأن أكون أخذتهم سلما أحب إلي مما طلعت عليه الشمس من صفراء وبيضاء”. قال: قلت: يا أمير المؤمنين وما كنت صانعاً بهم لو أخذتهم؟ قال: كنت عارضًا عليهم الباب الذي خرجوا منه أن يدخلوا فيه فإن فعلوا ذلك قبلت منهم وإلا استودعتهم السجن”.
*الفقرة 12: ومن الآثار المروي عن عمر بن عبد العزيز “أن قوما أسلموا ثم لم يمكثوا إلا قليلاً حتى ارتدوا، فكتب فيهم ميمون بن مهران إلى عمر بن عبد العزيز فكتب إليه عمر: أن ردَّ عليهم الجزية ودعهم”. أي اعتبرهم غير مسلمين وخذ منهم الجزية ولا تقتلهم.
*الفقرة 13: أن الأحاديث التي ورد فيها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قتل مرتدًّا أو مرتدة أو أمر بأيهما أن يُقتل، كلها لا تصحُّ من حيث السند. ومن ثم فإنه لا يثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عاقب على الردة بالقتل. وقد أورد هذه الأحاديث الشوكاني في نيل الأوطار، وبين ضعف إسنادها جميعًا. انظر: نيل الأوطار، جـ7 ص 217 (ط القاهرة بدون تاريخ)/هامش 35.
*الفقرة 14: وأخيرا ينتهي الباحث إلى: “وحاصل ما تقدم أن عقوبة الردة عقوبة تعزيرية مفوضة إلى السلطة المختصة في الدولة الإسلامية، تقرر بشأنها ما تراه ملائما من أنواع العقاب ومقاديره. ويجوز أن تكون العقوبة التي تقررها الدولة الإسلامية للردة هي الإعدام. وبذلك نجمع بين الآثار الواردة عن الصحابة، والتي ثبت في بعضها حكم بعضهم بقتل المرتد، وفي بضعها الآخر عدم قتله. وعلى ذلك أيضًا نحمل رأي إبراهيم النخعي وسفيان الثوري في أن المرتد يستتاب أبدًا ولا يُقتَل”.
* أختم هنا بتسجيل رأيي الشخصي ومفاده أنني لا أتفق مع الباحث في الاستنتاج التقريري الذي ينتهي إليه في نهاية دراسته من تحويل عقوبة “قتل المرتد” من الوجوب المفتوح إلى الجواز التعزيري بيد “سلطة الدولة الإسلامية” وسوف أوضح رأيي في الأسطر التالية:
أعتقد أن هذا الرأي التوفيقي للباحث العوا – مع احترامي وتقديري العالي لجرأة صاحبه قياسا لباحثين إسلاميين كثر لا يجرأون على مقاربته – لا يتناسب وحجم المتغيرات الهائلة التي طرأت في العصر الحديث على حياة الأمم والمجتمعات والإنسان العام، والتي توجب على المسلمين المعاصرين وفقهائهم استلهام أكثر الآراء الإسلامية تقدمية في هذا الباب ومن ذلك مثلا رأي الفقيه التابعي إبراهيم النخعي الكوفي من أهل القرن الهجري الأول والفقيه سفيان الثوري الكوفي أيضا ومن أهل القرن الأول، والقائلين إن “المرتد يستتاب أبداً ولا يُقتَل”. وقد أخذ بهذا الرأي بعض الفقهاء ورجال الدين المعاصرين كالشيخ علي جمعة مفتي مصر في فتواه الشهير سنة 2017، وشيخ الأزهر أحمد الطيب/ رابط تقرير إخباري مع الفيديو في نهاية هذه المقالة؛ والمرتد المقصود هنا هو مَن يعلن بنفسه طوعا ردَّته عن دينه الإسلام، وليس الشخص المتهَم بأنه مرتد أو كافر – قد كفَّره الآخر، فردا كان هذا الآخر أو مجموعة، فتوجيه هذه التهمة، بعد كل ما جرى من سفك للدماء، ينبغي أن تُحظر حظرا تاما بقانون ويعاقب مَن يرتكبها لانطوائها على جريمة التهديد بالقتل العمدي والمسبق “إهدار الدم” أو التحريض عليه ضمنا أو صراحة، ولنا في استلهام رأي الفقيهين العلمين الكوفيين خير سند في كتاب المسلمين المقدس القرآن والذي لا يوجد فيه عقوبة للمرتد والكافر في الدنيا وأن الأمر – عقاباً أو عفوا- موكل الى الله يوم القيامة، وإلى الله فقط كما يقول نص الآيات التي أوردها الباحث محمد سليم العوا.
أما إذا اندمجت الردة عن الدين لدى شخص مع الانحياز في حرب إلى جانب العدو الأجنبي، وأصبح يشكل خطرا ليس على الدين فقط بل الأمة جمعاء، فينبغي أن يعامل المرتد هنا معاملة الخائن ويستحق العقوبة التي ينص عليها القانون بحق الخونة وهذا أمر مفروغ منه ومتفق عليه في جميع المجتمعات والأديان والدول القديمة والمعاصرة، وعلى هذا ينبغي التفريق بين المرتد الخائن الذي يقاتل إلى جانب جيوش الأعداء وبين المرتد المسالم حامل الفكرة والقناعة الشخصية، فيعاقب الأول بموجب القانون الذي يحكم على الخائن بعقوبات معلومة ومنصوص عليها وبين الآخر الذي يوكل أمره إلى ربه يوم القيامة. وهذا هو المعنى الذي ذهب إليه شيخ الأزهر من 1958 إلى 1963، الشيخ المرحوم محمد شلتوت حين قال كما يقتبس الدكتور العوا في دراسته “وقد يتغير وجه النظر في المسألة -مسألة عقوبة الرِّدة والكفر- إذ لوحظ أن كثيراً من العلماء يرى أن الحدود لا تثبُت بحديث الآحاد، وأن الكفر بنفسه ليس مبيحًا للدم، وإنما المبيح هو محاربة المسلمين والعدوان عليهم ومحاولة فتنتهم عن دينهم، وأن ظواهر القرآن الكريم في كثير من الآيات تأبى الإكراه في الدين”.
1-رابط يحيل الى النص الكاتب للدراسة: قضية الردة.. هل تجاوزتها المتغيرات؟ عقوبة الردة تعزيرًا لا حدّاً:
https://islamonline.net/archive/%D9%82%D8%B6%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%AF%D8%A9-%D9%87%D9%84-%D8%AA%D8%AC%D8%A7%D9%88%D8%B2%D8%AA%D9%87%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%BA%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D8%AA%D8%9F/
2- رابط تقرير إخباري مع الفيديو: على جمعة ليس الأول.. المرتد لا يقتل.. هؤلاء أفتوى بذلك
https://www.youm7.com/story/2017/10/8/%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%AC%D9%85%D8%B9%D8%A9-%D9%84%D9%8A%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%AA%D8%AF-%D9%84%D8%A7-%D9%8A%D9%82%D8%AA%D9%84-%D9%87%D8%A4%D9%84%D8%A7%D8%A1-%D8%A3%D9%81%D8%AA%D9%88%D9%89-%D8%A8%D8%B0%D9%84%D9%83/3447467
3- رابط فيديو حديث شيخ الأزهر أحمد الطيب يتحدث عن موضوع الردة وعقوبتها:
https://www.youtube.com/watch?v=eIrNjKmI2Ng&t=218s&ab_channel=%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B2%D9%87%D8%B1%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D9%81OfficialAzharEg