سيرغي دوفلاتوف: عودة الساخر الحزين
لو لم يطأ سيرغي دوفلاتوف (1941-1990) الأرض الأمريكية في شباط/ فبراير 1979، لما عرفنا، ولا عرف العالم هذا الكاتب المدهش، الذي تحظى أعماله الأدبية بتقدير عظيم في روسيا والعالم. وهو أحد الكتّاب القلائل الذين لا يمل المرء من إعادة قراءة أعمالهم أكثر من مرة.
لو ظل دوفلاتوف في بلاده تحت مطرقة الرقابة الأيديولوجية، لما تمكن من نشر أعماله القصصية والروائية، التي يقرأها الروس بشغف لا نظير له طوال العقود الثلاثة الأخيرة. وقد صدقت نبوءة دوفلاتوف حين قال وهو يغادر وطنه: «إنهم لا يحبون سوى الموتى». الكثير من الفقرات والجمل التهكمية اللاذعة، التي وردت في رواياته وقصصه الساخرة، تملأ اليوم صفحات شبكات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية الروسية، ويستشهد بها النّقاد والباحثون في أعمالهم.
محطات في حياة دوفلاتوف
التحق عام 1959 بكلية فقه اللغة في جامعة لينينغراد، وتعرف في هذه الكلية على زميلته آسيا بيكوروفسكايا، التي كانت محط إعجاب العديد من زملائه الذين أصبحوا في ما بعد كتابا وشعراء معروفين ومنهم، الشاعر جوزيف برودسكي، الحائز جائزة نوبل في الأدب عام 1987. توثقت علاقة دوفلاتوف بآسيا حيث تزوجا عام 1960. وقد فصل دوفلاتوف من الكلية عام 1962 بسبب عدم مواظبته على الدوام، وتم تجنيده في الجيش حيث خدم بين عامي (1962-1965). كحارس معتقل. وكتب عن الحياة في المعتقل روايته الأولى «المنطقة». يقول برودسكي : «عاد دوفلاتوف من الجيش ذاهل النظرة، وهو يحمل معه مخطوطات روايته الأولى، كما عاد تولستوي من حرب القرم».
في 30 يناير/ كانون الثاني 1968 شارك في أمسية أدبية مع بعض زملائه الكتّاب في لينينغراد، وقرأ إحدى قصصه الساخرة التي تتناول قصة عقيد في الجيش وابن أخيه عندما أفرطا في شرب الفودكا إلى درجة خيل إليهما أنهما يطيران فوق لينينغراد. لاقت القصة استحساناً كبيراً، وضجت القاعة بالتصفيق. وكان ذلك شهادة على أن كاتبا ساخراً وموهوباً قد ولد في الأدب الروسي. ولكن سعادة دوفلاتوف لم تدم سوى بضعة أيام ، فقد قام أحد المخبرين السريين بالوشاية به وكتابة تقرير للأمن، يتهم فيها دوفلاتوف بالسخرية من الواقع السوفييتي. وبات مهدداً بالاعتقال، وسدت في وجهه كل الأبواب، وباءت كل محاولات نشر أعماله بالفشل. كان رؤساء التحرير يقرؤون قصصه الساخرة، ويبدون إعجابهم بها، ثمّ ينصحونه بأن يخفي ما كتبه بعيدا عن أعين الرقابة، ولم يفهم دوفلاتوف السبب، فهو لم يكن منشقاً، ولا معارضاً للنظام السوفييتي.. يقول في إحدى مقابلاته الصحافية: «لقد أدركت لاحقاً سبب الرفض، وهو أنني أكتب عن عبثية الواقع السوفييتي، وليس عن الواقع الموهوم الذي تصوره البروباغاندا الرسمية».
بعد أن باءت كل محاولاته لنشر أعماله بالفشل، أصبح البقاء في لينينغراد بلا معنى، فقد كان الأدب هو معنى حياته، ويحس بالاختناق إذا منع من الكتابة والنشر. وفي لحظة يأس قرر أن يجرب حظه في جمهورية أستونيا الصغيرة، فسافر عام 1972 إلى عاصمتها «تالين» وعمل مراسلا لصحيفة «أستونيا السوفييتية» وكانت هي الصحيفة الأولى في تلك الجمهورية الصغيرة الساحرة على بحر البلطيق. وكانت روايته الأولى «الزوايا الخمس» على وشك الصدور في «تالين»، ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان. كان دوفلاتوف قد أعطى نسخة من روايته المخطوطة إلى صديق أستوني، وعندما دهم رجال الأمن السري شقة هذا الصديق صادروا كل ما بحوزته من كتب وأوراق وبضمنها مخطوطة «الزوايا الخمس». فحامت الشكوك حول دوفلاتوف نفسه، وأتلفت الرقابة بأمر من لجنة أمن الدولة مخطوطة روايته الجاهزة للطبع، وطرد من أستونيا، فعاد إلى لينينغراد عام 1975، وأخذ يكتب مراجعات أدبية عديدة لبعض المجلات الأدبية، ولكن أعماله الروائية والقصصية ظلت حبيسة أدراج مكتبه ولم يتسن له نشرها.
غادر دوفلاتوف لينينغراد عام 1977 إلى جمهورية بشكيريا، وعمل هناك مرشدا سياحيا في محمية بوشكين في بسكوف، وكتب عنها لاحقا رواية خيالية بعنوان «المحمية». منذ أواخر الستينيات وحتى هجرته إلى أمريكا في عام 1979، نشر دوفلاتوف أعماله في مطبوعات سرية، أو ما يسمى (ساميزدات) أي النشر الذاتي، في داخل البلاد، وكذلك في المجلات الأدبية الروسية الصادرة في الدول الغربية، ما أدى إلى فصله من اتحاد الصحافيين السوفييت.
زوجته وابنته كاتيا هاجرتا إلى الولايات المتحدة، ورفض دوفلاتوف الهجرة، ولكن سرعان ما قامت المخابرات السوفيتية بالتحقيق معه بتهمة النشر في مطبوعات سرية داخل البلاد، ومجلات معارضة للنظام السوفييتي في الخارج. وقد أدرك من خلال التحقيق معه، أن أمامه خيارين لا ثالث لهما: إما السجن أو الهجرة. يقول دوفلاتوف في مقابلة صحافية مع مجلة «سلوفا ـ الكلمة» الروسية قبيل وفاته بفترة قصيرة: «أصبح بقائي في الاتحاد السوفييتي غير آمن. وإلى جانب ذلك لم تكن كتاباتي تنشر، في الأقل تلك التي كتبت بصدق وجدية. كان عليّ ببساطة أن أختار بين السجن ونيويورك. كان الهدف الوحيد من هجرتي هو الحرية الابداعية، لم تكن لديّ أي شكوى بشأن السلطات. لو سمحوا لي بالنشر لما هاجرت». وهكذا اجتمع شمل أسرته في حي المهاجرين في نيويورك.
دوفلاتوف في أمريكا
في نيويورك انطلقت مسيرة دوفلاتوف الإبداعية، حيث حقق نجاحاً سريعا. في البداية أصدر بالاشتراك مع بعض أصدقائه صحيفة «الأمريكي الجديد» الأسبوعية، حيث تولى رئاسة تحريرها. وأصبحت الصحيفة الروسية الأولى في أمريكا. ولكنها لم تدم طويلا بسبب قلة الخبرة الإدارية، وبذلك تفرغ لأعماله الأدبية. في غضون اثني عشر عاما من وصوله الأرض الأمريكية إلى وفاته عام 1990، نشر 12 رواية ومجموعة قصصية في أمريكا وأوروبا، بمعدل كتاب واحد كل عام. وكانت هذه الأعمال سرعان ما تترجم إلى الإنكليزية والفرنسية والألمانية. كما نشر قصصه القصيرة في دوريات أمريكية مرموقة مثل مجلة «نيويوركر» وهي أهم وأشهر مجلة ثقافية أمريكية.. تأسست عام 1925 وتخاطب النخب الثقافية. ومعظم القصص الأمريكية الشهيرة الحائزة الجوائز الأدبية المرموقة، ومنها جائزة «بوليتزر» ظهرت لأول مرة في هذه المجلة تحديدا. ورغم أن التركيز الأساسي في المجلة ينصب على الحياة الثقافية في نيويورك، إلا أن المجلة تحظى بشعبية واسعة على مستوى البلاد بأسرها. ويعتبر النشر فيها جواز مرور إلى عالم الأدب والشهرة. وهي تدفع لكتابها مكافآت سخية، ولم يتسن إلا لاثنين من الكتاب الروس النشر في هذه المجلة، وهما فلاديمير نابوكوف، الذي نشر فيها بعض القصص فحسب، أما سيرغي دوفلاتوف فقد حقق اختراقا أدبيا فريدا، حيث نشرت له «نيويوركر» عشر قصص خلال فترة زمنية قصيرة. وقد أخفق العديد من الكتّاب الأمريكيين في النشر في هذه المجلة، ومنهم على سبيل المثال الكاتب المعروف كورت فوينغوت، الذي كتب رسالة إلى دوفلاتوف يقول فيها: «عزيزي سيرغي دوفلاتوف! أنا أيضا أحبك، ولكنك حطمت قلبي. لقد ولدت في هذا البلد، وخدمته بلا خوف خلال الحرب، ومع ذلك لم أنجح في بيع أي من قصصي لمجلة «نيو يوركر».. والآن تأتي أنت وبضربة واحدة تنشر المجلة قصصك على الفور.
أسلوب دوفلاتوف
طوّر دوفلاتوف أسلوبه الخاص المتفرد الذي يميزه على الفور عن أسلوب أي كاتب آخر، فهو بارع في نسج نصه السردي على نحو ساحر. يكتب عبارات قصيرة موحية، وليس لديه كلمات أو جمل عشوائية أو غير ضرورية. من يقرأ قصص سيرغي دوفلاتوف، عن عبثية الحياة، لا بد أن يضحك أو يحزن أو يسخط، إلا إذا كان أصمّ أو أعمى.. وربما خيل إليه أنها قصص واقعية من صميم الحياة، خاصة أن دوفلاتوف باسمه الصريح هو البطل في معظم تلك القصص. شخصياته حملت أحياناً أسماء أصدقاء ومعارف حقيقيين، وكذلك أسماء من جعلوا الحياة جحيما لا يطاق بالنسبة إليه، ولكن الأحداث المتعلقة بهم التي يصفها خيالية إلى حد بعيد. فالواقع لا يشكل عند دوفلاتوف سوى نقطة انطلاق لإعادة صياغة حقائق الحياة الواقعية وتحويلها إلى عمل فني.
شخصيات دوفلاتوف ليست مثل تلك التي كانت في الأدب السوفييتي ـ بل أناس أحياء بنقاط ضعفهم وفضائلهم الخاصة في الحياة. ولا يقسمهم الكاتب إلى أبطال سلبيين وإيجابيين. وعلاوة على ذلك يكتب بدفء خاص عن المهمشين. قد تجد بين أبطاله أناسا كاذبين، أو متبجحين، أو عديمي الموهبة. والراوي نفسه ليس ملاكا، بل إنسان يعاني من الواقع محتفظا بكرامته الشخصية.
عودة دوفلاتوف
منع النظام السوفييتي تداول أعمال دوفلاتوف الصادرة في أمريكا وأوروبا، ولم تظهر أعماله السردية في الاتحاد السوفييتي، إلا بعد وفاته، حين ألغيت الرقابة على المطبوعات في أواخر عهد البريسترويكا، وشرعت المجلات الأدبية الروسية بنشر أعمال الكتاب المهاجرين والمحظورين.
وفاة دوفلاتوف قصة دراماتيكية مؤلمة، فقد كان في ضيافة صديقة روسية، حين شعر بألم حاد في صدره.. استدعت الصديقة سيارة أسعاف، ولكن المستشفى القريب رفض استقبال المريض، لأنه لا يملك بوليصة تأمين صحي. وبحث سائق سيارة الاسعاف طويلاً عن مستشفى آخر، يقبل مريضا على شفا الموت من دون بوليصة تأمين، ولكن دوفلاتوف لفظ أنفاسه الأخيرة داخل سيارة الإسعاف قبل الوصول إلى المستشفى المنشود.
حققت أعمال دوفلاتوف عند نشرها في روسيا بعد وفاته مباشرة نجاحا مذهلا، وأصبح الكاتب الأشهر والأكثر شعبية بين أبناء جيله. وما تزال أعماله الروائية والقصصية تصدر بأعداد هائلة منذ ذلك الحين وإلى يومنا هذا.