رأيت غوغول في منامي
أ.د. ضياء نافع
كان أنيقا بشعره الطويل المسترسل حتى كتفيه , فقلت له رأسا , آه لو قابلك الآن خير الله طلفاح , لسحبك بالقوة وحلق شعرك كله , ولجعلك ( أقرعا!) . تعجّب غوغول من كلامي , وقال ضاحكا , ان أنفي سيبدو عندها أكبر حجما و أكثر طولا , فقلت له , ان الفنان التشكيلي العراقي فيصل لعيبي عندها سيكون أكثر سعادة , لانه كتب عن اعحابه الشديد بقصتك ( الانف ) , ورأى ان هذه القصة وتماثيلها في بطرسبورغ تمجّد ذوي الانف الكبير. ضحك غوغول وقال , آه لو يرسم هذا الفنان العراقي لوحات لكتاب ( الانف) , اذ ستكون القصة عندها ذات نكهة تشكيلية عراقية , قلت له , ان الفن التشكيلي العراقي حقق نجاحات باهرة جدا , لكنه لم يصل الى هذا المفهوم الموجود في مسيرة الفن التشكيلي الروسي , الذي يرسم عدة لوحات تعبّر عن مضمون الكتاب , رغم ان هذا المفهوم كان مزدهرا في ماضينا الجميل , ولازلنا نندهش من جماليات لوحات الفنان الكبير الواسطي لمقامات الحريري. صمت غوغول قليلا , ثم سألني – ولكنك لم توضّح لي , لماذا يقوم خير الله طلفاح عندكم بهذه الاعمال الغريبة وغير المنطقية تماما , التي قلتها لي حول حلاقة الشعر؟ فهمست باذنه بصوت خافت – اسكت ولا تطرح هذه الاسئلة الخطرة , اذ ان السلطة عندنا لا تحبها ولا تطيقها, بل ويمكن حتى ان تفتك بك . وهكذا أنتقلنا للحديث عن الاشياء التي تحبها السلطة ( عندنا وعندهم!) , وعن الاشياء التي لا تحبها ايضا. قال غوغول بأسى , انه عندما قدّم روايته ( الارواح الميتة) للنشر , كان يجب عليه ان يذهب الى الرقابة اولا , اذ هكذا كانت قوانين السلطة في الامبراطورية الروسية , فقال له الرقيب رأسا ( ودون ان يقرأ الرواية , التي لم تكن تدور حول اي أرواح أصلا ), ان العنوان يتعارض مع قوانين السلطة , لان الارواح عندنا لا تموت , فاضطر غوغول ان يضيف على العنوان عنوانا ثانيا وهو – مغامرات جيجيكوف , ثم بدأ بعدئذ بالبحث عن اشخاص مؤثرين كي يساعدوه بالحصول على موافقة الرقابة بشأن الحفاظ على العنوان الاول . صمت غوغول ثم سألني – هل الارواح عندكم في وضع يختلف عن الوضع في امبراطوريتنا ؟ فقلت له , ان قوانيننا الحالية مثل قوانينكم في الامبراطورية الروسية , ولهذا اضطر المترجم العربي الى تغيير عنوان روايتكم , فقال غوغول – اي ابقى فقط مغامرات جيجيكوف , فقلت له لا, لا, لقد ألغى كلمة الارواح نفسها اصلا . ضحك غوغول وقال يا لكم من شعب حاذق , ولكن هل القراء العرب يعرفون , انني لم اتكلم هناك عن الارواح بتاتا , وانما عن الجيجيكوفيين , الذين يستغلون بشكل بشع ورهيب كل تلك المواقف السائدة في قوانين النظام السياسي من اجل تحقيق مصالحهم الخاصة فقط ؟ قلت له مطمئنا – نعم , نعم , فالقراء العرب يعرفون ذلك ويتفهمونه , اذ ان تجربة الجيجيكوفيين عندنا مزدهرة جدا , وهم يتزوجون الجيجيكوفيات , وقد ولد الان عندنا جيل (كامل الاوصاف!) منهم , واستطيع ان أقول لك بكل ثقة , ان جيجيكوفيّنا قد غلبوا جيجيكوفيّكم , اذ انهم الان يبيعون ويشترون حتى الارواح الحيّة ايضا , فقال غوغول رأسا , لهذا أحرقت أنا الجزء الثاني من روايتي تلك , لأنني أردت ايقاف هذا المثل السئ وتأثيره على الآخرين , فالمثل السئ معدي كما يقولون في الامثال الشعبية , فقلت له رأسا , يا نيقولاي فاسيليفتش, روايتك لم تخلق ظاهرة الجيجيكوفيين , وانما انت تحدثت عنهم في المجتمع الذي يسود فيه النظام الفاسد أصلا , ولا علاقة لروايتك بمجتمعنا المعاصر , حيث تزدهر فيه الجيجيكوفية في كل المجالات , ولكن غوغول لم يتفق معي , وقال انه حسنا فعل بحرقه الجزء الثاني من الرواية , اذ لا ضرورة لنشر اعمال هذه النماذج الشريرة , قلت له , ولكنك سخرت منهم وضحكت عليهم , اي انك شجبت اعمالهم , ولكن غوغول اصرّ على موقفه وبعناد وتوتّر, فحاولت تغيير موضوع الكلام كي اخفف توتره, وقلت له , أتعلم اننا نحب مسرحيتك ( المفتش العام ) ؟ فاجابني مستفسرا – العام؟ وأضاف , عنوان مسرحيتي ( المفتش) دون اي صفة اخرى , فكيف اصبحت ( المفتش العام) عندكم ؟ قلت له , ان المذنب بذلك هو (ابو ناجي ) , فسألني , من هو ابو ناجي هذا ؟ فضحكت أنا , وقلت له , العراقيون يسمون الانكليز هكذا , وهم الذين أضافوا لمفتشك صفة ( العام) , فقال غوغول متوترا و معترضا , ان ذلك لم يحدث في فرنسا والمانيا وايطاليا , فلماذا أخذتم الترجمة الانكليزية بالذات ؟ , فقاطعته أنا قائلا , اني غيّرت حديثي معك كي اخفف من توترك , ولكنك تعود مرة اخرى الى حالة التوتر هذه , فابتسم غوغول واعتذر وقال , انني أتحدث لاول مرة مع عراقي , وكنت اتمنى ان اسمع منك اشياء سارة , ولكنك قلت لي , كيف يمكن ان يحوّلوني في بغداد الى أقرع , وكيف يزدهر عندكم الجيجيكوفيون وتذكرت كيف أحرقت الجزء الثاني من روايتي , ثم حدثتني , كيف حوّلتم المفتش الذي كان في العشرينيات من عمره ليس الا الى مفتش عام , ولهذا اصبحت أنا عصبيا , فقلت له , حسنا , ساخبرك الان بشئ يسرّك جدا , فقد كتبنا عنك اطروحة ماجستير في قسم اللغة الروسية بكلية اللغات في جامعة بغداد باشرافي العلمي , واستطاع منذر ملا كاظم تحقيقها ومناقشتها بنجاح , وسافر بعدئذ الى روسيا , وهناك حصل على شهادة الدكتوراة , وأصدر كتابا عنك بالروسية , وهو اول كتاب عن غوغول بالروسية يؤلفه عراقي , فهل يسرّك هذا الخبر يا نيقولاي فاسيليفتش ؟ فابتسم غوغول وقال , نعم, نعم , وبكل تأكيد , انه خبر جميل جدا بالنسبة لي , واراد غوغول ان يضيف شيئا , ولكني استيقظت من نومي , ولم اسمع جملته الاخيرة …