مبادرة جمعيات أمهات الضحايا في العراق
داخل خيمة صغيرة، في مدينة توسم بالقدسية، اعتصمت أمرأة نحيفة، منهكة الملامح، مجللة بالسواد، تتجمع دموعها في قلبها غضبا ينذر بالانفجار. انفجار أم عراقية ثكلى بابنها.
اسم المرأة المعتصمة هو سميرة. ينادونها أم ايهاب، تكريما للآصرة الأبدية بين الأم والابن/ البنت، في عراق يحترم الأم ويكاد يقدسها. أزالت القوات الأمنية الخيمة، عدة مرات، لأنها باتت مزارا للمطالبين بمعرفة قتل المتظاهرين. صارت أم ايهاب وخيمتها، تجسيدا حيا لشعار «من قتلني» الذي يستمر المحتجون، في عدة مدن، برفعه بصوت واحد لستمائة قتيل، تخضبت أيدي مسؤولي الحكومة بدمائهم، منذ انطلاق انتفاضة تشرين / اكتوبر 2019.
ولايزال المحتجون يتساقطون بينما يتمتع القتلة بالحماية والتكريم. حيث بات كتم الأصوات، اغتيالا، نسغا يمد الميليشيات وأحزابها بمواصلة البقاء والهيمنة. وهذا هو أحد أسباب أغتيال ايهاب الوزني، رئيس تنسيقية الاحتجاجات في كربلاء، جنوب بغداد، من الأصوات المناهضة للفساد وسوء الإدارة، المطالب بوطن يُحترم فيه المواطن ولا يهان، بوطن لا تتنعم فيه فئة لصوص ومجرمين على حساب أبناء الشعب، والحد من نفوذ الميليشيات. صورت كاميرات مراقبة قريبة من منزله لحظة اغتياله، في 9 مايو، كما وثقت أشرطة فيديو عمليات اغتيال ناشطين غيره من قبله. ووعدت القوات الأمنية بمحاسبة القتلة، كما وعدت سابقا، وكما وعد رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي شخصيا، لتبقى الجريمة بلا محاسبة، مسجلة ضد مسلحين مجهولين. وإذا كان رئيس الوزراء قد نجح سابقا في طمر الجرائم تحت غطاء وعوده وزيارته لذوي الضحايا، واحتضانه أطفال الضحايا أمام عدسات الكاميرات، واستنكار الجرائم خطابيا، كأنه مسؤول منظمة غير حكومية، وكأن القتلة نزلوا من المريخ، فان مثابرة أم ايهاب على المطالبة بمحاسبة قتلة ابنها، وفق القانون، وعدم رضوخها للضغوط والتهديدات، والقبول بالوعود المعسولة، وزيارة ممثلة الأمم المتحدة جينين هينيس بلاسخارت، يوم الخميس الماضي، يشير الى أن جسد الامبراطور، وليست ملابسه الوهمية فقط، قد تهرأ.
إن موقف أم ايهاب على المستوى العام هو استمرار للحركة الاحتجاجية ومشاركة النساء منذ احتلال العراق عام 2003. نساء العراق اللواتي يقفن أمام المعتقلات والدوائر الأمنية بحثا عن أحبائهن المختفين قسرا والمفقودين، مطالبات بحقوقهن كأمهات وزوجات، منذ عقود. يقفن أيام البرد والحر القائظ انتظارا. فقد يعطف عليهن شرطي أو رجل أمن « شريف» فيهمس لهن بخبر ما يمنحهن الأمل بوجود أحبتهن في أحد المعتقلات أو حتى امكانية العثور على جثة في ثلاجة إحدى المستشفيات. لتبدأ رحلة من نوع آخر. رحلة تقتضي، إذا كان الشخص حيا، ارضاء المرتشين والمبتزين وتحمل إهانات وتهديدات الشرطة وقوات الأمن. وبيع ما يملكن (الجسد أحيانا) لإشباع جشع المجرمين من دعاة حماية الأمن.
استنادا الى تجارب مماثلة في المغرب والجزائر وكولومبيا والمكسيك وتشيلي، من المفيد لأية مبادرة على غرار جمعيات العوائل التعاون مع المنظمات الحقوقية المحلية والدولية، لتحقيق رؤية أوضح واكتساب مصداقية أكبر
أما على المستوى الشخصي، فان موقف أم ايهاب انعكاس لموقف ابنها الذي أقسم حين قيل له إن أعداد المتظاهرين بدأت بالتناقص مع ازدياد حملة الاغتيالات، بأنه سيواصل التظاهر وحده، في بلد الحكومة فيه ظل شاحب لميليشيات تستعرض أسلحتها وقوتها حيثما وأينما شاءت في قلب البلد في العاصمة. وكأنه رسم بذلك مسار حياة أمه بعد اغتياله، أن تعيش حياته. لتعكس بذلك الصورة المتعارف عليها: أن يحمل الأبناء عبء مواصلة طريق الآباء ونقل الإرث من جيل إلى جيل.
وكما اجتمع عدد من الأمهات في ساحة مايو، أمام قصر الرئاسة في وسط بوينس آيرس، عاصمة الأرجنتين، للمطالبة بمعلومات عن مكان وجود أبنائهن المختفين، في ظل النظام القمعي وما سمي «الحرب القذرة» عام 1977، وازاء ازدياد الضغوط الأمنية ومنعها من مواصلة الاعتصام أمام مقر القضاء في مدينتها، دعت أم إيهاب عوائل ضحايا الاحتجاج، خاصة النساء، من أمهات وشقيقات وزوجات، الى مشاركتها الاعتصام. ولبى الدعوة عدد من النساء في محافظات ذي قار وبابل وبغداد. مما يشكل نقطة تحول نوعية أبعد من المطالبة الفردية. فهل بتنا نشهد بذرة إنشاء جمعية أو جمعيات عائلات الضحايا، كما في عديد البلدان المحتلة أو الخاضعة لنظام قمعي، أو تعيش مرحلة العدالة الانتقالية ما بعد انتهاء النزاع او الحرب؟ جمعيات، غالباً، ما يتم تأسيسها من قبل أقارب اشخاص أغتيلوا أو اختفوا خلال بحثهم عن أحبائهم. فبسبب تجاهل المطالب الفردية للعائلات من قبل السلطات، يتكاتف الأهالي معاً للبحث عن أحبائهم وللتحرك من أجل قضيتهم أو محاسبة الجناة.
بالإضافة الى العمل على تشكيل شبكة وطنية للتوعية بخصوص حقوق الضحايا على الصعيدين الوطني والدولي والدفاع عن حقوق عائلات الضحايا في الحقيقة والعدالة. هل من الممكن تأسيس جمعيات كهذه في ظل حكومة تديرها، عمليا، ميليشيات مسلحة مسؤولة عن جرائم قتل وتهديد واختطاف موثقة محليا ودوليا؟ كيف يضمن أفراد الجمعيات سلامتهم وقد عاشوا أنفسهم مأساة اغتيال احبائهم، ومسؤولي الحكومة الذين يفترض اللجوء اليهم لتحقيق العدالة هم أما طرف فعلي في الجرائم أو متفرجون صامتون؟
كيف يمكن لمجموعة نساء التغلب على مشاعر الخوف وهو من أكثر المشاعر تجذرا في الطبيعة الإنسانية وهن يدركن أنه تحذير من خطر حقيقي يهدد حياتهن؟ قد يكون تواجد الأمهات معًا، ووجود محتجين آخرين، مصدر قوة لمواجهة العنف والقمع. عن الخوف تقول إحدى « أمهات ساحة مايو: «في كل مرة وأنا في طريقي إلى الساحة كنت أشعر بالخوف مما قد يحدث، كنت أسمع صوت قلبي وهو يخفق بشدة حتى يكاد أن ينخلع من مكانه، لكن ما أن أصل إلى الساحة وأنضم للأخريات حتى يزول خوفي بل أزداد قوة وإصرارًا على مواصلة النضال».
استنادا الى تجارب مماثلة في المغرب والجزائر وكولومبيا والمكسيك وتشيلي، ومع مراعاة خصوصية وخطورة الوضع في العراق، من المفيد لأية مبادرة على غرار جمعيات العوائل التعاون مع المنظمات الحقوقية المحلية والدولية، لتحقيق رؤية أوضح واكتساب مصداقية أكبر، بالاضافة الى التنسيق حول توثيق الجرائم والعمل على أعداد قاعدة بيانات، توضع على شبكة الإنترنت، من قبل ناشطين مقيمين في الخارج وذلك لأنهم لا يتعرضون للمخاطر الأمنية التي يتعرض لها الناشطون داخل البلد، آخذين بنظر الاعتبار تجنب مطب انتقائية الضحايا والشهداء الذي يعمل وفقه النظام الحالي، بل متابعة قضايا جميع أنواع الضحايا، مهما كانت خلفيتهم القومية أو الدينية، سواء كانوا ضحايا الدولة أو الجماعات الإرهابية أو الميليشيات بأنواعها. وأن يكون الهدف الأساسي هو تحقيق العدالة للجميع والعمل على عدم تكرار الجرائم مستقبلا.
كاتبة من العراق