هل الجميع سعيد باكتشاف علاج لمرض السرطان؟
تداول الإعلام خلال الأيام القليلة الماضية عن قيام إحدى الشركات الأوروبية بتجارب على لقاح للقضاء على مرض السرطان، حيث بدأت التجارب على مئة وعشرين مريضا، ويتمنى كل مريض بالسرطان نجاح تلك التجارب، التي ستعتمد على أخذ عينات من الخلايا السرطانية من المريض، وإنتاج لقاح ضدها يحفز جهاز المناعة لدى ذلك المريض على القضاء على المرض.
وقد بدأ هذا المفهوم في العلاج قبل سنوات قليلة، والأبحاث متواصلة في دول عديدة لتحقيق تقدم حقيقي فيه. وسيعني العثور على علاج للسرطان ليس فقط زيادة الأعمار بشكل جذري، بل نوعية الحياة كذلك، فالعمليات الجراحية والأدوية تسبب أعراضا جانبية مؤلمة من الناحيتين الجسدية والنفسية، لا يمكن تجنبها. وسيعني اكتشاف علاج للسرطان زيادة كبيرة في أعمار البشر، والبقاء بصحة جيدة والاستمتاع بالحياة لسنوات إضافية طويلة. وقد أعاد ذلك إلى ذاكرتي نقاشا ساخنا لي مع اثنين من كبار الأطباء الأوروبيين، حول إمكانية اكتشاف علاج للسرطان خلال السنوات القليلة المقبلة، حيث عبرت لهما عن اعتقادي بإمكانية ذلك، لكنهما أكدا استحالة ذلك.
ولم يقتصرا على ذلك، إذ ذكرا احتمال عدم العثور على علاج في المستقبل البعيد كذلك، نظرا لتعقيد هذا المرض الخطير. وقد أثار إصرارهما استغرابي، فدراستي للتاريخ أوضحت لي عدم إمكانية توقع المستقبل بالنسبة للتطور في الطب، إذ لم يتوقع أحد اكتشاف الأشعة السينية، أو المضادات الحيوية، أو حتى شيئا بسيطا مثل الأسبرين. وأخيرا، فإن زلة لسان من أحد هذين الطبيبين البارزين أعطتني حلا لإنهاء استغرابي، حيث قال إن علاجاً من هذا النوع يضر بمصلحته. ولم يكن الرجل مخطئا، فأحد أفضل الحلول المتاحة للتخلص من الإصابة بالسرطان، خلال أكثر من مئة عام وحتى الآن هو الجراحة، التي تكلف مبالغ طائلة، وتكون المصدر المالي الأكبر للجراحين، سواء أكانت الجراحة ناجحة أم لا. ولمَ لا؟ فكل شخص يفكر بمصلحته، وفوائد قوم عند قوم مصائب، على الرغم من أن هؤلاء الأطباء ينسون احتمال تعرضهم هم للإصابة بالسرطان، وبذلك فسيحرم هؤلاء الاختصاصيون من مداخيلهم المالية الكبيرة، وتغلق الكثير من المراكز المتخصصة في علاج السرطان الباهظة الثمن.
كانت هناك عدة دراسات، قبل ظهور احتمال العثور على علاج للسرطان، عن مصير الكثير من الأطباء، في ظل التطور السريع للتكنولوجيا المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، حيث ستستطيع الأجهزة الحديثة أن تحل محل الاختصاصيين. وكان الاعتقاد السائد أن أول المتضررين من المختصين، سيكونون مختصي التشخيص والعلاج بالأشعة، بسبب التطور السريع الذي يطرأ على التكنولوجيا في هذا المجال، لكن علاج السرطان، سيكون له تأثير أوسع وأسرع بكثير في حياة الإنسان، من مجرد التطور التكنولوجي المعتاد، وسيكون ضربة قاضية ستودي بمسيرة هؤلاء المختصين المهنية، ليتحولوا إلى أطباء عاديين، حيث أن العلاج بالأشعة يعتبر أحد أهم وأغلى طرق علاج السرطان في العالم.
بقاء كبار السن على قيد الحياة، سيغضب فئة أخرى غير الاقتصاديين، ألا وهي ورثتهم الذين عليهم الانتظار طويلا لاستلام ميراثهم مهما حقدوا على اكتشاف العلاج للسرطان. وبالتالي عليهم إظهار كل الطيبة التي في داخلهم كي يضمنوا استلام الميراث بعد عمر طويل.
لن يكون الأطباء والمراكز العديدة وحسب، بل يتوسع نطاق هذا ليشمل مجالات أخرى في الطب، حيث أن أجهزة الفحص والعلاج بالأشعة الباهظة الثمن ستختفي، ما سيشكل صدمة للكثير من الدول الصناعية وشركاتها العملاقة الشهيرة. وستكون هناك مشاكل كبيرة لشركات الأدوية العملاقة والصيدليات التي تعتمد على بيع أدوية السرطان والتي يتناولها المرضى بشكل دائم، وتكلفهم مبالغ طائلة، كي يبقوا على قيد الحياة يوما واحدا أكثر على الأقل. ومما هو جدير بالذكر أن شركات شهيرة تشكل أدوية السرطان مصدر دخلها المالي الرئيسي. وكذلك دور الاعتناء بالعجزة التي ستواجه نقصا حادا في مريديها. لكن إذا لم يعبر الأطباء عن امتعاضهم علنا، فقد عبر الكثير من الاقتصاديين عن انزعاجهم من الزيادة المتواصلة لعدد كبار السن في المجتمع، لاسيما أنها صاحبت تناقصا واضحا في عدد المواليد، وبالتالي حصول نقص واضح في الأيدي العاملة، إذ بلغت نسبة الذين تتجاوز أعمارهم الخمسة والستين عاما في اليابان 22% من السكان. أما في ألمانيا وإيطاليا، فقد بلغت 20%، حتى أن محافظ البنك المركزي الياباني عبّر أثناء اجتماع الدول الغنية العشرين G20 عام 2019 عن مخاوفه من أن تكون نسبة الكبار في السن في العالم المتقدم مشكلة اقتصادية كبيرة. ويعني كل هذا زيادة نسبة الذين لا ينتجون، في رأي الاقتصاديين، وعدد السنوات التي يعيشونها، بل إن أحد الكتاب البريطانيين وصلت به الجرأة إلى حد التعبير عن رغبته في خلق مجتمع يتخلص من الكبار في السن.
بداية، فإن الرأي الذي يعبر عنه هؤلاء الاقتصاديون والكتاب، يعطي الانطباع بأن الشخص الشاب أكثر أهمية من الشخص المتقدم في السن على أساس إنتاجية الفرد، أي أن البشر غير متساويين، ما يعني أن هناك خطأ واضحا في آرائهم، حيث إنه من المفروض أن يكون البشر متساوين. ويدل هذا أيضا على أن أفكار علم تحسين النسل (Eugenics) المخيفة التي برزت بشكل واضح في القرن التاسع عشر، ما تزال حية ترزق، فهذه الأفكار ركزت على كون السبب الوحيد لبقاء الفرد هو فائدته الاقتصادية، ويجب التخلص من كل فرد لا يفيد.
ينسى هؤلاء الكتاب والاقتصاديون حقائق مهمة جدا، فالتقدم في السن إلى هذا الحد مع نوعية مقبولة للحياة، يعتبران في الحقيقة انتصارا للبشرية، والهدف الأول للتقدم العلمي والنشاط الاقتصادي. أي أن الانتعاش الاقتصادي والتقدم العلمي هما وسيلتان لإسعاد الإنسان وحل مشاكله، وليسا هدفا بحد ذاته، بل إن كل عمل يجب أن يكون في خدمة الإنسان. وحتى إذا تجاهلنا الهدف الحقيقي للاقتصاد والعلم، فإن هؤلاء «الخبراء» ينسون كذلك أن الكبار في السن يمتلكون خبرات في الحياة العامة والمهنية لا يملكها الشباب. وبالتالي، فإن أغلب كبار السياسيين الغربيين من كبار السن، والرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن خير مثال. ولا يحتاج المرء أن يكون خبيرا في التاريخ كي يلاحظ أن أغلب العظماء في جميع المجالات كانوا من كبار السن، وأن إنتاجهم كان في تحسن مستمر حتى آخر يوم من حياتهم، وأنهم كانوا سينتجون أكثر لولا تخلف العلم في زمنهم. وغيب الموت عظماء آخرين كانوا في قمة عطائهم، قبل أن يصلوا مراحل متقدمة في السن مثل موزارت وبيتهوفن. ويدل هذا على أن البشرية خسرت الكثير بسبب الوفاة المبكرة لهؤلاء العظماء. لكن الأمر يتخطى العظماء، فخدمة حياة الإنسان تبقى الهدف الوحيد مهما كان ذلك الإنسان عظيما أو لم يكن.
لا يقتصر اتهام الاقتصاديين للكبار في السن بعدم الإنتاج، بل يتجاوز ذلك حيث أن الكبار في السن متَّهَمون من قبل الاقتصاديين بعدم القابلية على المخاطرة في إدارة أموالهم، على عكس الشباب الدائمي المخاطرة في رأي الاقتصاديين ما يفيد الاقتصاد، أي أن الكبار في السن يجلسون على مبالغ كبيرة لا تستخدم من أجل إنعاش الاقتصاد. ويعطي هذا الرأي الانطباع بأن الاقتصاديين يسعون إلى تحقيق هدف مثير للرعب، وهو أن يقوم الكبار بالسن فور إحالتهم على التعاقد، بوهب كل ما يملكون للدولة أو لأفراد من الشباب، ثم ينتحرون من أجل «إنعاش الاقتصاد». واذا كان هذا صحيحا، فعلى هؤلاء الاقتصاديين مراجعة أقرب مستشفى للأمراض العقلية.
في الواقع أن الكبار في السن ليسوا عبئا اقتصاديا لعدة أسباب، فهم على سبيل المثال من كبار المستهلكين للبضائع والخدمات، ويملكون أعمالا تجارية في العالم حتى وصلت حصتهم من الاقتصاد الأمريكي عام 2015 إلى ثمانية تريليونات دولار أمريكي. ونظرا لتحسن صحتهم في سنواتهم المتقدمة، فقد ظهر اقتصاد كبير يعتمد على خدمتهم خارج نطاق الرعاية الصحية. وتدرس عدة دول بجدية فكرة رفع سن ترك العمل، والتعاقد كي تستفيد من خبرة وإنتاج الكبار في السن، لاسيما أن التكنولوجيا الحديثة تسهل العمل بالنسبة لهم خاصة في المصانع.
في نهاية المطاف، فإن بقاء كبار السن على قيد الحياة، سيغضب فئة أخرى غير الاقتصاديين، ألا وهي ورثتهم الذين عليهم الانتظار طويلا لاستلام ميراثهم مهما حقدوا على اكتشاف العلاج للسرطان. وبالتالي عليهم إظهار كل الطيبة التي في داخلهم كي يضمنوا استلام الميراث بعد عمر طويل.
باحث ومؤرخ من العراق