دون كيخوتي، الجهد التُّرْجمِي العبثي؟
ظاهرة قد تبدو غريبة، تلك المتعلقة بترجمة النص الواحد العديد من المرات؟ حتى أن الكثير من المثقفين يرون في ذلك ضرباً من العبث في ساحة تشكو أصلاً ندرة في الترجمات، ويتقرحون أنه بدل تضييع الوقت في نص مترجم، وقد يكون قد ترجم بشكل جيد، القيام بترجمة نص جديد لنفس الكاتب أو لغيره. وإذا بدا الأمر جائزاً من الناحية العقلية، فهو ليس كذلك في سياق العمل الترجمي من حيث هو تخصص قائم بذاته، وله ضوابطه وشروطه. لن نحتاج إلى أدلة كثيرة لنجيب عن هذا الانشغال، والحاجة الماسة إلى الترجمات المختلفة للنص الواحد.
كم من ترجمة تمت لرواية دون كيخوتي دي لا مانشا لسرفانتيس نحو الفرنسية وحدها؟ لماذا لم يكتف الفرنسيون مثلاً بترجمة واحدة لهذا النص، أي الترجمة الأقدم وإعادة طباعتها عبر الأجيال؟ كما لو أن فعل القراء لا يتحرك ولا يتغير؟ كما لو أن البشر في القرن السابع عشر هم أنفسهم في القرن الحادي والعشرين؟ كما لو أن اللغة نفسها على مدار الأربعة قرون لم تتغير قط، وبقيت مثبتة على حالها؟ كما كل الأعمال الخالدة العظيمة، مثل هوميروس، فيرجيل، دانتي، شيكسبير، سيرفانتس وغيرها، التي لم يمسسها الزمن في جوهرها، تعاد الترجمات وفق مقتضيات الحاجات الترجمية والثقافية والحضارية للأجيال. لهذا، ليس غريباً أن نقول «لكل جيل دونكيخوته» عالمياً. لأنه في كل زمن يتم اكتشاف زاوية ظلت مظلمة في الكتاب، تستطيع الترجمات الجديدة الكشف عن أسرارها.
نجد ترجمة فياردو viardot التي ما تزال تقرأ إلى اليوم، على الرغم من أنها ليست وفية للنص الأصلي، بل ثقيلة وتدفع القارئ إلى النوم كما تقول آلين شولمان في نقدها لهذه الترجمة، بالخصوص في الجزء الثاني. وترجمة أودانOudin للجزء الأول 1605 من الرواية نفسها وصديقه روسيrosset للجزء الثاني 1615، لم تكن وفيه بقدر ما كانت وسيلة للتسلية لا أكثر. وترجمة ش.
فوينت CH. Fuent، الذي أعاد قراءة الترجمات السابقة له وحاول ليس فقط أن يرمم ما غيبته الترجمات السابقة له، ولكن أن يجعل النص ممتعاً وسلساً، لأن قارئ القرن التاسع عشر ليس هو قارئ القرن السادس عشر والسابع عشر. وترجم جون كنافاجيو jean canavaggio رواية دون كيخوتي لصالح غاليمار (2010) وترجمت آلين شولمان Aline Schulmane الرواية نفسها لصالح دار لوسوي (1997) فأعادت النص إلى أصله الأول، الشعبي وليس إلى الثقافة الكلاسيكية الأنيقة كما أرادها الكثير من المترجمين ومنهم لويس فيياردو Viardo، الذي نزع كل النزعة الشعبية اللغوية التي اتسم بها نوع أدب الفروسية الذي كان يحكى أصلاً في الأسواق، فمسح عن الرواية صبغتها الشعبية الأصلية.
الهدف من الترجمة في النهاية، في مثل هذه الحالة التي اتخذناها كمثال فقط، هو العودة إلى نص مهم غيّر العالم نقدياً وأدبياً، يستحق كل الاهتمام. تحتاج الأجيال المتعاقبة ألا تكتفي بالسماع به، ولكن أن تتخطى عتباته من خلال حاجات عصرها اللغوية دون الإخلال بجوهر النص وقوته الباطنية. لقد صنعت هذه الرواية جزءاً من الذاكرة الغربية الجمعية والإنسانية لأن علاماته الداخلية لا تتوقف عند حدود غرب القرون الوسطى، الغرب في علاقاته المعقدة مع العالم المحيط بما في ذلك الحضارة الإسلامية التي كانت تمثلها وقتها الدولة العثمانية في صراعاتها وحروبها. كما صنعت جزءاً من الذاكرة المحلية.
الرواية الحديثة تدين لهذا النص بالكثير، لكن الكثير ممن قرأوه في الترجمات العربية مثلاً، وعددها اليوم لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة (ترجمة عبد الرحمن بدوي، سليمان العطار، ورفعت عطفة) تفاجأوا من ثقل النص وعدم استجابته وتماشيه مع الشهرة العالمية التي اكتسبها، حتى أصبحت الشهرة وحدها مقياساً للجودة. قبلوا به لأنه ظاهرة عالمية دون الاقتناع به أدبياً. ربما لم تستطع الترجمات العربية أن تدخل إلى روح النص ببعض الخفة والرشاقة اللغوية التي تقربه من القارئ، أو لم تفهم سخرية سيرفانتيس العميقة من العالم المحيط، أو لم تتمكن من نقلها إلى قارئ اليوم.
دون كيخوتي في النهاية نص شعبي، ويحتاج إلى الكثير من الذكاء اللغوي لترجمته. ألا يمكن مثلاً الدخول إلى هذه الشعبية باقتراض لغة عربية بسيطة، وأقل تعقيداً مما هو متوفر اليوم؟ هذا الجهد الترجمي الافتراضي، لو كتب له أن يكون، سيضع اللغة العربية في مواجهة ذاتها مثلما حدث مع اللغات الأخرى، إذ عليها أن تنسلخ من ثقلها وتقليديتها، وأن تقبل بالرهانات اللغوية الجديدة الأقرب إلى الشعبية دون أن تفقد اللغة قواعدها ونحوها وصرفها وامتدادها العربي، وإلا سيكون للجزائري دون كيخوته، وللمغربي والتونس أيضاً، ولليبي نصه، وللسوري والأردني والمصري والعراقي واللبناني، دونكيخوتهم، وهو ما يصعب تخيله اليوم على الأقل.
في النهاية، ليست مسألة الترجمات المتعددة مجرد نفض للغبار عن نص ترجم كثيراً وما تزال به بعض الزوايا المحتفظة بأسرارها، ولكنها مسألة ثقافية تضعنا على حافة الأسئلة التي عاشتها أجيال سابقة ونعيشها نحن اليوم. أجيال جديدة تبحث عن جديدها وثقافتها وخصوصيتها، وتقاليدها القرائية، بل ولغتها أيضاً. وليس القصد طبعاً بتر النص الأصلي من بعض مكوناته بحجة أن الجيل الجديد يستثقلها. كثيراً ما أخذت على سيرفانتس شعبيته الزائدة وقصصه الخرافي، الأمر الذي دفع بالكثير من المترجمين إلى نزعها أو تحويرها عميقاً بحجة أن القارئ اليوم لا يتقبلها. ليجد القارئ نفسه في النهاية أمام نص نُزع جزء من روحه. كأن تأخذ نصوص الجاحظ مثلاً وتبتر منها كل الاستطرادات والزوائد؟ بينما لا وجود للجاحظ أصلاً دون هذه الاستطرادات؟ المنطقي هو أن نضع النص في سياقه الثقافي وتاريخه وتقاليده وفهمها عميقاً، وبعدها نشتغل على أدواته لترهينها دون إفقادها جوهرها.
يمكننا طبعاً أن نجر القارئ نحونا بكل الصدق الذي يجب اتباعه لإقناعه بجدوى نص مثل دون كيخوتي هو من ميراث الإنسانية في بدايات القرن السابع عشر لتقديم طرقه وأساليبه، ولكن للمعاصرة شروطها داخل هذا العالم. ربما كانت هذه هي المعادلة الأصعب والأقسى في الترجمات الافتراضية الجديدة. وهو ما نفتقد إليه كلياً للأسف. نحتاج لاستعادة الأدوات التي تجعل من الترجمة ليس فقط عملاً تقنياً ولكن جهداً إنسانياً لاستعادة النصوص في كامل قوتها وبهائها ومعاصرتها. أن تترجم كتاباً مترجماً من قبل العديد من المرات، أصعب بكثير من أن تترجم نصاً جديداً؛ لأنك في هذه الحالة عليك أن تثبت نقائص الترجمة الأولى وجدوى الترجمة اللاحقة، حتى لا يكون الجهد المبذول مجرد تكرار لا يفيد القارئ في شيء.