علاء اللامي
نعم، هناك مَن يعترف بنصف الحقيقة التي تفيد أن أور كسديم الوارد ذكرُها في التوراة، ليست هي أور الكلدانيّة، فيقول إنّ أور لم تكن كلدانيّةً بل أكديّة، وإنّها وُصفتْ بالكلدانيّة مجازًا لأنّ التوراة كُتبتْ في عهد الكلدانيّين. مِن القائلين بهذا القول المطرانُ الكلدانيّ سرهد جمو، الذي ذَكر في محاضرةٍ له بتاريخ 19/10/2013:
“أور الكلدان هي أكديّة. ولأنّ العهدَ القديم كُتب في عصرٍ متأخّرٍ أيّامَ الدولة الكلدانيّة (612-539 ق.م.)، فقد سمُّوها أور الكلدانيّين؛ كمن يقول إنّ كريستوف كولمبس اكتشف أو وصل إلى أمريكا، بينما لم يكن اسمُها أمريكا حين وصلها كولمبس. إنّ أور الكلدانيّين في الترجمة العبريّة الأصليّة هي أور الكاسديّين، أو الكاشديّين، وليس أور الكلدانيّين. وفي الترجمة السبعينيّة [للتوراة] 280 ق.م. بُدّلتْ إلى أور الكلدانيّين لأنّ اليهود، وبالذات النبيّ دانيال، كانوا قد سمُّوا الدولةَ البابليّةَ الأخيرة كلدانيّةً، واشتُهرتْ بذلك. وسواء كانت أور الكلدانيّين أو الكاسديّين، فهي ليست في العراق.”[1]
الحُجّة التي يسوقها المطران جمو لتبرير إطلاق صفة “الكلدانيّة” على مدينة أور السومريّة هشّةٌ جدّاً؛ دع عنك أنّها تقفز على الترجمة الغريبة لاسم المدينة، والمفترض أن يكون أور كلديم لا أور كسديم:
– أوّلًا، لأنّ بلاد سومر والسومريّين لم تكن مجهولةً من قِبل كتّاب التوراة. فقد ورد ذكرُهم في أسفارهم باسم شنعار، وسُمّيتْ بلادُهم “سهل شنعار.”[2] ونقرأ في تعريفاتٍ توراتيّةٍ أنّ “شنعار” في العهد القديم أُطلقتْ على السهل الغرينيّ بين نهرَي دجلة والفرات، وهو السهلُ الذي عُرف بعد ذلك باسم بابل. ونقرأ في الإصحاح العاشر من سِفر التكوين أنّ ابتداءَ مملكة نمرود كان في بابل وأرك، وهي يوروك السومريّة، وتسمّى حاليًّا وركة، وأكد أو أجاد، عاصمةَ الفاتح الساميّ الشهير سرجون في الألف الثالثة قبل الميلاد.
– ثانيًا، لأنّ الدولة الكلدانيّة كانت قصيرةَ العمر، بل هي أقصرُ الدول الرافدينيّة عمراً، إذ لم تتجاوزْ ثمانيةً وثمانين عامًا، ثم سقطتْ إثر الغزو الفارسيّ الأخمينيّ. فكيف أصبحت “الكلدانيّة” صفةً واسماً لمدنٍ ومناطقَ عريقةٍ في التاريخ كأور، التي هي الأقدمُ بين مدن بلاد الرافدين وعواصمها، في حين تكون الصفةُ التي يراد إطلاقُها عليها أحدثَ عهدًا منها كثير؟
وفي المقالة التي أوردتْ وجهةَ نظر جمو، نقرأ للبروفسور ناحوم سارنا، أستاذِ الدراسات التوراتيّة ورئيسِ قسم الترجمة العبريّة في جامعة براندايس الأمريكيّة، وجهةَ نظرٍ مطابقةً تمامًا لوجهة نظرنا، على الرغم من تحفّظنا عن تأثيله لاسم “كاسديم”، فهو يقول:
“من الخطأ أن نقولَ أور الكلدانيّين عن أور العراق، لأنّ أور كانت مدينةً سومريّة. وكلمة الكسدانيّون هي نسبةٌ إلى كاسد بن ناحور، من امرأته مِلْكة ابنة هاران، الوارد في سفر التكوين 22: 22، وكذلك يشوع 24: 2. وناحور هو أخو إبراهيم بن تارح، أيْ إنّ إبراهيم هو عمُّ كاسد. لذلك كلمة أور الكلدانيّين، الواردة في العهد القديم للكتاب المقدّس باللغة العبريّة الأصليّة التي كُتب بها، وفي كلّ قواميس شرح الكتاب المقدّس، هي أور الكاسديّين، وليست أور الكلدانيين”.
والبروفسور سارنا مصيبٌ في مقدّمة كلامه، ولكنّه ينتهي إلى استنتاجاتٍ توراتيّةٍ غيرِ علميّة حول الأسماء والأنساب، ولا تؤكّدها أيُّ قرائن أو أدلّة. فهي، إذن، استمرارٌ لوجهات نظر الآخذين بالتوراة ككتابٍ تاريخيٍّ صحيح، وما هو كذلك!
وبخصوص اسم أور كسديم، وترجمتِها إلى أور الكلدانيّة، فثمّة معلوماتٌ مفيدةٌ نجدها في مقالةٍ بعنوان “التوراة تدحض خرافة ’من النيل إلى الفرات‘،” منشورة في موقع الجزيرة في 23/11/2016، من دون ذكر اسم كاتبها. ولكنّ موقعاً آخر هو شجون عربيّة أعاد نشرَها في 25/11/2016، ونسبها إلى الباحث العراقيّ فاضل الربيعي. وأرجِّح بقوّة أن تكون المقالةُ للربيعي فعلاً لأسبابٍ تتعلّق بأسلوب الكتابة، وبالمضمون الذي يحاول الكاتبُ الدفاعَ عنه، ومؤدّاه أنّ الجغرافيا الحقيقيّة للتوراة وقصّةِ بني إسرائيل هي اليمن، لا فلسطين. وكنتُ قد نقدتُ بالتفصيل هذه النظريّةَ في كتابي الصادر سنة 2020 عن مؤسّسة الانتشار العربيّ، نقد الجغرافية التوراتيّة خارج فلسطين.
أعود الى المعلومات التي تحتوي عليها مقالةُ الربيعي، غاضّاً الطرفَ عن محاولته اعتمادَ هذه المعلومات لبناء استنتاجاتٍ تخدم هدفَه البحثيّ، لأقرأ فيها:
“تقول الروايةُ الاستشراقيّة الزائفة إنّ النبيّ إبراهيم عليه السلام خرج من أور الكلدانيّين، أيْ من أرضِ ما بين النهريْن (العراق القديم). لكنّ اسمَ أور هذا ورد في النصّ العبريّ من التوراة في الصورة التالية: أور- الكسديم אור כשדים. والتهجئة الصحيحة بالحرف العربيّ هي: ء/و/ر. ك/س/د/ي/م. تنطوي هذه الرواية على خطأ تاريخيّ. ففي عصر إبراهيم (1800-1900 ق.م)، لم يكن هناك شعبٌ يُعرف باسم كلدانيّين، لأنّ هؤلاء سيَظْهرون بعد نحو ألف عام من هذا العصر. والمثير للاهتمام أنّ سائرَ الترجمات والطبعات وبكلّ اللغات، بما فيها الإنجليزيّة، تضمّنتْ نفسَ التعبير المزيّف (كلدانيين وليس كسديم، Ur of the Chaldees). المشكلة التي يثيرها هذا النصُّ أنّ اسمَ كسديم لا يمكن أن يُقرأ كلدانيّين، لأنّ العبرية لا تعرف انقلابَ السين إلى لام. لكلّ ذلك، يمكن الجزمُ دون تردّد أنّ سِفر التكوين الذي روى قصّةَ إبراهيم لا يقول قطّ إنّه خرج من مكانٍ يُدعى أور الكلدانيّين، وأنّ مترجمي النصّ العربيّ والإنجليزيّ وبقيّة اللغات هم مَن وَضع هذه الكلمة، بدلاً من الاسم الحقيقيّ في العبريّة كسديم (כַּשְׂדִּים)“.
كلام الربيعي سليم تماماً من الناحية التأثيليّة (الإيتمولوجية). وقد كرّر هذه الآراءَ، كما قلنا، كثيرٌ من الباحثين الأركيولوجيّين والمؤرِّخين واللاهوتيّين غير التوراتيّين، أو التوراتيّين الموضوعيّين والرصينين. ولم يعد يرفضها ويكرِّر نقيضَها إلّا التوراتيّون واللاهوتيّون المتزمّتون والآخذون بالرواية التوراتيّة بحذافيرها لتأكيد أهدافٍ عامّةٍ تخدم الاستراتيجيّةَ اللاهوتيّةَ الجيوسياسيّة الصهيونيّة، القائمةَ على الوعد الإلهيّ بمنح إبراهيمَ ونسلَه من بعده الأرضَ الواقعةَ بين الفرات والنيل. وهذا ما سيكون هدفًا لمحاولتنا النقديّة التفكيكيّة في الأسطر التالية.
***
في الصلاة التي أقيمت في مدينة أور الأثريّة بحضور البابا فرنسيس وممثّلين عن عددٍ من الأديان والطوائف الدينيّة الحيّة في العراق، رتّل الأب نشأتْ متّي توزا، كاهنُ أبرشيّة بغداد الكلدانيّة، بصوته الشجيّ، وباللغة العربيّة، آياتٍ من سِفر التكوين – الإصحاح الثاني عشر. وبعده تُليتْ آياتٌ من القرآن الكريم.
في الإصحاح الذي رتّله الأب توزا، وردت الصيغةُ الأقلُّ شهرةً للوعد الإلهيّ في الآية السابعة التي تقول: “وتراءى الربُّ لأبرام وقال: ’لنسلِكَ أهبُ هذه الأرض‘. فبنى أبرام هناك مذبحاً للربّ الذي تراءى له”. ولم يرتّلْ توزا الآية الثامنة عشرة، المثيرةَ للجدل، في الإصحاح الخامس عشر، ونصُّها في الترجمة العربيّة كما يأتي: “في ذلك اليوم قطع الربُّ مع أبرام عهدًا قال: ’لنسلِكَ أهبُ هذه الأرضَ، من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهرِ الفراتُ”. وأعتقد أنّ مردَّ ذلك هو تفادي الإحراج الذي كانت ستولده تلاوةُ هذه الآية التي جعلت منها الحركةُ الصهيونيّةُ اليهوديّةُ والإنجيليّةُ البروتستانتيّة شعاراً لها في العصر الحديث. ولنا على هذا “العهد الإلهيّ” بعضُ الملاحظات التاريخيّة.
فمن الواضح، بحسب تسلسل آيات الإصحاح الخامس عشر، أنّ المقصود بهذا العهد الإلهيّ هو منحُ إبراهيمَ قطعةً من الأرض في منطقة شكيم الفلسطينيّة القديمة، نابلس. فقد ورد في الآية السادسة: “واجتاز أبرام في الأرض إلى مكان شكيم إلى بلوطة مورة. وكان الكنعانيّون حينئذ في الأرض.” وهذا أمرٌ يمكن تفهّمُه في ضوء السياق التاريخيّ والجغرافيّ والحياتيّ للعائلة الإبراهيميّة الرعويّة المهاجرة بموجب القصص التوراتيّ، في حال الأخذ به. أمّا العهد أو الوعد الإلهيّ الثاني في الإصحاح الخامس من سفر التكوين، الآية الثامنة عشرة، فهو أمرٌ آخر ومختلف، ومن الواضح أنّه مُبالغ فيه ولا يمكن تصديقُه منطقيًّا وسياقيّاً وحياتيّاً. ولتوضيح المقصود بهذه التحفظات نتساءل: ترى، ماذا كانت ستفعل عائلةُ رعاةٍ، أو عشيرةٌ صغيرةٌ أو كبيرة، أو شعبٌ صغير من شعوب المشرق الجزيري “الساميّ” القديم، بهذه المساحة الهائلة من الأرض (من الفرات إلى النيل)، التي – إذا اخذنا بحرْفيّة الآية التوراتيّة المذكورة – تشمل حاليًّا نصفَ مساحة العراق وكلَّ سوريا ولبنان والأردن وفلسطين التاريخيّة ونصفَ مصر والسودان؟!
***
ولكنْ هل ورد اسمُ النيل والفرات في التوراة الأصليّة فعلًا، أم أنّ هناك تسمياتٍ أخرى؟
للإجابة على هذا السؤال نعود إلى مقالة الربيعي، ومنها نسجّل المعلومات الآتية. غير أنّنا سنأخذ بها بشيءٍ من التحفّظ بسبب الطريقة غير العلميّة في التوثيق أحيانًا، وبسبب بعض الأخطاء المعلوماتيّة التي سنشير إليها في مواضعها.
– يعتقد الربيعي أنّ النصّ العبريّ من التوراة بخصوص الوعد الإلهيّ، بأن يهَبَ اللهُ النبيَّ إبراهيم أرضاً تمتدّ من النيل إلى الفرات، إنّما هو نصّ مضافٌ لاحقاً، وليس نصّاً أصليّاً. فهو يؤكّد عدمَ وجود “أيّ إشارةٍ إلى نهر النيل أو الفرات”. ولذلك فإنّ “كلَّ المزاعم القائلة بأن تكون له الأرضُ من نهر النيل إلى الفرات… لا أساس لها”[3]. ويشرح الكاتب اعتقادَه فيضيف: “ما يقوله نصُّ سِفر التكوين، كما في الطبعة العربيّة وبقيّة اللغات (1: 15:7)، هو التالي: “في ذلِك اليوْمِ قَطَعَ الرَّبُّ مَعَ أَبْرَامَ مِيثاقًا قائلاً: ’لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ، مِنْ نَهْرِ مِصْرَ إلى النَّهْرِ الكبيرِ، ونهْرِ الْفراتِ‘،” مثبتًا النصَّ باللغة العبريّة، ليقرِّر من ثم ما يأتي:
“هذه ترجمةٌ مزيّفةٌ ومضلّلة. ولنلاحظْ هنا أنّ النصّ العبريّ الأصليّ يَستخدم صيغةَ ’من/ نهر مصريم מִנְּהַר מִצְרַיִם‘ (من نهر مصريم מִנְּהַר מִצְרַ) وليس ’من نهر مصر‘. كما أنّه يستخدم جملة ’حتّى النهر الكبير עַד–הַנָּהָר הַגָּדֹל،‘ ولا يقول ’الفرات.‘ أمّا الإضافة ’نهر فرات- فرث נְהַר–פְּרָת‘ فهي إضافةٌ متأخّرةٌ لم تكن موجودةً في النصّ القديم من التوراة، وقد نُقلتْ عن نصّ يونانيّ. بكلامٍ آخر، تمّت إضافةُ كلمة ’فرت-فرث‘ إلى النصّ التوراتيّ نقلاً عن هوامش وتوضيحات النصّ اليوناني. والأصل في الجملة هو ’من نهر مصريم إلى النهر الكبير .‘ على هذا النحو ظهرتْ خرافةُ ’من النيل إلى الفرات‘ استنادًا إلى تفسير (تأويل) محرِّري النصّ اليونانيّ.”[4]
المؤسف هنا أنّ الربيعي لا يُثْبت في مقالته ترجمةَ النصّ اليونانيّ المعرَّب الذي احتجّ به أو يذكر مصدرَه؛ وهذه ثغرةٌ كبيرةٌ تُفْقِدُ منطقَهُ الكثيرَ من الصدقيّة والتماسك. ولكنّ الفكرة المشكِّكة في مضمون آية الوعد الإلهيّ بصيغتها السائدة، أو الرافضة لها، تبقى سليمةً من حيث الجوهر.
– أمّا ملاحظة الربيعي التي يقول فيها إنّ اسم الفرات “لم يكن معروفاً حتى العصر الآشوريّ بهذا الاسم”، وأنّ “المؤكّد” هو “أنّ اسمَه بورانو أو بورانوم وليس الفرات”[5]، فهي معلومةٌ ليست دقيقةً أيضاً. إذ إنّ اسم الفرات كان موجودًا في صيغة قريبة من لفظه باللغة العربيّة والعبريّة: ففي اللغة الأكديّة، الأقدم من الآشوريّة بكثير، نجد أنّ اسمَ الفرات كما يُلفظ بالحروف اللاتينيّة هو Pu-rat-tu، بو-رات-تو. ولمّا كانت الباءُ المستعملة هنا هي الباءَ البابليّة، وهي نفسُها P اللاتينيّة القريبة جدًّا من F، بل هي تُلفظ فاء في بعض اللغات الأوروبيّة المعاصرة كالألمانيّة مثلًا، فإنّ لفظَ بوراتو الأكديّة هي نفسُها فوراتو (= فرات) العربيّة والعبريّة. أمّا في الآراميّة فهي بالفاء حصرًا: ܦܪܬ Froṯ .
– كما لم يكن الربيعي دقيقًا حين كتب أنّ اسمَ مصر “لم يكن معروفًا في عصر إبراهيم، والسجلّات المصريّة الرسميّة تؤكّد أنّ اسم مصر ظهر فقط بعد 750 ق.م، وأنّ الاسمَ الذي عُرفتْ به هو إيجبت-القبط”. فالحال أنّ اسمَ مصر لم يردْ في العبريّة فقط بلفظ “مصر أو مصريم”، بل هو كذلك في لغاتٍ جزيريّةٍ “ساميّةٍ” أخرى: فهو في الأكديّة القديمة (التي ظهرتْ وسادت في الألفيّة الثالثة ق.م) “مصري،” وفي الآراميّة “مصرين”، وفي الآشوريّة “مشر”، وفي البابليّة الحديثة “مصر”، وفي الفينيقيّة “مصرو”، على ما يؤكّد الدكتور عبد الحليم نور الدين، العميدُ الأسبق لكلّيّة الآثار في القاهرة، في الجزء الأول من كتابه، تاريخ وحضارة مصر القديمة. أمّا تامر أحمد عبد الفتّاح فيضيف، في مقالةٍ بعنوان “أسماء مصر القديمة”، المعلومات الآتية:
“أنّ البابليّين كانوا يطلقون عليها مصرو ومصر. ووردتْ كلمةُ مصرم في نصٍّ فينيقيّ يعود إلى أوائل الألفيّة الأولى ق.م. والمعينيّون في اليمن كانوا يسمّونها مصر ومصرى. وفي النصوص الآراميّة والسريانيّة مصرين… وظهرتْ باسميْ شرى ومصوى في لوحة ميتانيّة وُجدتْ في شمال غرب العراق وُجّهتْ إلى فرعون مصر، وفى لوحة أشوريّة ونصٍّ من رأس الشمرة فى شمال سوريا.”[6]
***
وأخيرا، فقد يتساءل البعض: ترى، ألا يترتّب على القول بعدم تأريخيّة النبيّ التوراتيّ إبراهيم نفيٌّ تلقائيٌّ لما أكّدته في صدده الكتبُ السماويّةُ الأخرى كالقرآن؟ وعلى هذا التساؤل أجيب بالآتي:
في هذه القضيّة ميدانان أو جانبان: جانب إيمانيّ دينيّ غيبيّ، وجانب تاريخيّ وآثاريّ علميّ تجريبيّ. الأوّل ميدانُه الدين وعلومُه، ولا علاقةَ له بتأريخيّة وجود إبراهيم أو آثاريّة هذا الوجود، لأنّ هذه قضيّة علميّة. والقضايا العلميّة غير ثابتة، بل متغيّرة تبعًا للاكتشافات والنظريّات المتواترة: فربّما تُكتشَف أدلّةٌ علميّةٌ تُغيّر هذه النظريّة أو تلك جذريّاً، وتثبت أشياءَ أخرى كانت غيرَ ثابتة؛ وقد تكشف لنا ذاتَ يوم عن إبراهيم الحقيقيّ أو عن مثيلٍ له، أو قد لا تكشف. بكلمات أخرى نقول إنّ النبيّ إبراهيم، كمقولة دينيّة، هو شخصية دينيّة ورد ذكرُها في الكتب المقدّسة — وهذا أمر محترم، شأنه شأن الأديان المحترمة نفسها، وهو موضوعٌ يؤمن به رجالُ الدين وعامّةُ المؤمنين بالديانات الثلاث، وليس موضوعًا للبحث الأركيولوجيّ. أمّا قضيّة وجود أو عدم وجود آثار أركيولوجيّة تؤكّد وجودَ هذا الحدث أو تلك الشخصيّة التوراتيّة، وصحّةَ خطّ رحلتها، ودقّةَ المعلومات المذكورة عن إبراهيم وعن هجرته وعمره وعائلته، فهي قضيّة تاريخيّة علميّة يُجاب عليها بالطرائق والأساليب العلميّة. وفي حال عدم وجود أدلّة وحجج ملموسة على تأريخيّة شيء أو حدث أو شخصيّة، فإنّه لا يمكن أن يقال العكس.
يضاف إلى ذلك أنّ القرآن لا يقدّم حيثيّاتٍ قصصيّةً تفصيليّةً عن إبراهيم وغيره من الشخصيّات التوراتيّة، كما هي الحال في أسفار التوراة، إلّا نادراً، وبشكلٍ عامّ أو إيحائيّ، وخصوصًا في سورة إبراهيم، حيث نجد أفكارًا ومبادئَ إيمانيّةً عامّةً ونصائحَ وتوجيهاتٍ أخلاقيّةً ودينيّةً من الآية الأولى في سورة إبراهيم (التي تقول “الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ”) وحتى الآية الأخيرة (“هَذَا بَلاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ”). أما تفاسير السور القرآنيّة، ففيها الكثيرُ ممّا جِيءَ به من خارج القرآن، أو ما أطلقوا عليه مصطلحَ “الإسرائيليّات،” أي الروايات التي أخذها المفسِّرون المسلمون من الأحبار اليهود. وما يقال عن هذه الروايات الأحباريّة يقال عن التوراة نفسها بوصفها كتابًا غيرَ تاريخيّ بالمعنى التاريخيّ والعلميّ. إضافةً إلى ذلك، فإنّ المسلمين يؤمنون بأنّ التوراة التي كانت موجودةً في عصر صدر الإسلام وحتى الآن هي توراةٌ محرَّفة. وهذا أمرٌ مهمٌّ ومفيدٌ لتأكيد ضرورة عدم الخلط أو المساواة بين النصّ القرآنيّ والنصّ التوراتيّ، وضرورة عدم اعتبارهما كلًّا واحدًا منسجمًا.
هوامش الجزء الثاني:
[1] – نيسكو موفق، “بحثٌ يؤكّد: مسقط رأس النبيّ إبراهيم أور الكلدانيّين لا تقع في العراق!” موقع صحيفة أزاميل، 6/2/2021.
2 – نقرأ في موسوعة الكتاب المقدّس على النت تعريفًا لشنعار يقول: “شنعار هي المنطقة التي تمتدّ بين بابل وارك وكلنة وأكد، وكانت ضمن مملكة نمرود، وفي هذه المنطقة أقيم برج بابل.” وإرك هي أوروك “الوركاء،” عاصمة الملك السومريّ كلكامش، صاحب الملحمة التي عُرفتْ باسمه. ويعتقد بعضُ الباحثين أنّ اسم “العراق” تحوّر عنها إلى العربيّة.
3– فاضل الربيعي، موقع شجون عربية، 25/11/2016: https://arabiyaa.com/articles/%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%88%d8%b1%d8%a7%d8%a9-%d8%aa%d8%af%d8%ad%d8%b6-%d8%ae%d8%b1%d8%a7%d9%81%d8%a9-%d9%85%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%8a%d9%84-%d8%a5%d9%84%d9%89-%d8%a7%d9%84%d9%81%d8%b1%d8%a7%d8%aa/?fbclid=IwAR3WvrfCke8GU1YtFnxa98Gp9tAE6zS1DFdUvSCkJA5FbdOWG8jaA80nxSU
4 – المصدر السابق.
5 – المصدر السابق.
6 – عبد الفتّاح تامر أحمد، مدوّنة “حضارة مصر القديمة،” 27/6/2020.
* رابط لقراءة الجزء الأوّل من المقالة: