حضانة الطفل ومشروع تعديل المادة 57 من قانون الأحوال الشخصية العراقي!
علاء اللامي*
تجري منذ أيام جدالات صاخبة وعدائية في الإعلام المرئي والمقروء ومواقع التواصل الاجتماعي حول مشروع تعديل المادة 57 من قانون الأحوال الشخصية لسنة 1959 المعدل. ومن الواضح أن تسييس وأدلجة شتى المواضيع القانونية والاجتماعية والثقافية، بات أمرا مألوفا في عراق دولة المكونات والمحاصصة الطائفية منذ عدة سنوات، وهو يلحق أفدح الضرر بالقضايا المختلف عليها لأنه يخرجها من طابعها الحقيقي ويحولها الى مادة للصراع الأيديولوجي الحزبوي بين إسلاميين طائفيين ثأريين وعلمانيين قشريين اشتركوا كلهم في إقامة وشرعنة وخدمة هذا النظام الممزِّق للمجتمع والدولة؛ وهذا الصراع والاستقطاب الأيديولوجي، وبهذا الشكل العدائي، يلحق ضررا أكبر بالمعنيين بهذه المادة وهم الأطفال قبل غيرهم، وأستثني طبعا بعض الأصوات الرصينة التي أفلتت من هذه الثنائية الصراعية الجوفاء وقدمت أو حاولت تقديم أفكار ناضجة وبناءة ونقدية تجاري روح العصر.
*سأحاول في هذا النص مقاربة هذا الموضوع بطريقة مختلفة قليلا، وأكثر شفافية وتوازنا، وسأبدأ بقراءة المادة 57 كما هي في نسختها النافذة الآن، ثم نطلع على نص التعديل المقترح عليها، ثم نستخلص الفروق الحقيقية بين الصيغتين النافذة والمقترحة، ثم لنلق نظرة على موضوع حضانة الأطفال في العالم وفي دول عربية قريبة، وكيف تطورت معالجة هذه القضية من ثنائية صراعية إلى حالة بناء بديل جديد لها يقوم على مقاولات من نوع ” الحضانة للأصلح” و “مصلحة وحقوق الطفل هي الأولى”، وأنهي النص بتقديم وجهة نظري الخاصة لمقاربة البديل الأكثر إنصافا وتقدمية.
*فالمؤيدون للتعديل بحجة الدفاع عن الأب المُطَلِّق – والذي لا شك في أن المادة تنطوي على إجحاف بحقه خصوصا في قصر مدة تواصله مع أطفاله والتي لا تتجاوز في المعتاد الساعتين في الشهر كما قيل – ينطلقون أحيانا وفي غالبيتهم من منطلقات سياسية ثأرية تنظر الى هذه المادة كمادة سنتها حكومة ثورة 14 تموز 1958 التي ناصبتها الأوساط الإقطاعية والمرجعية الموالية العداء، وعدَّلها اكثر لمصلحة المرأة الحكم البعثي الصدامي، ولما كانوا يريدون اجتثاث كل شيء كان موجودا في العراق قبل قيام حكم المحاصصة الطائفية والعرقية التابع للأجنبي حتى لو كان قد شُرِّعَ في السنوات الأولى للثورة الجمهورية 14 تموز 1958. إنَّ هذه النظرة المتشنجة التي يأخذ بها المتحزبون للأحزاب الإسلامية الشيعية هي نظرة سلبية وضارة جدا لأنها لا تفرق بين الدولة العراقية ومنجزها التراكمي منذ قيامها في سنة 1921 وحتى الآن والنظام الحاكم في عهد صدام حسين، وتحاول إحلال قوانين مستمدة من فهمها الخاص والمستمد من فكرها الديني المذهبي محل القوانين القديمة.
*لقد بلغت ذروة هذه المحاولة في مشروعهم لاستبدال قانون الأحوال الشخصية العراقي كله بقانون أحوال طائفي أطلقوا عليه اسما يكشف جوهره وهو “قانون الأحوال الشخصية الجعفري 124 لسنة 2019″، ولكن هذا المشروع تم تأجيله أو سحبه من التداول ولم يتمكنوا من تمريره حينها. وقبلها، وبعد أشهر على الاحتلال الأميركي للعراق سنة 2003، استغل رئيس حزب “المجلس الأعلى للثورة الإسلامية” كما كان يسمى آنذاك عبد العزيز الحكيم منصبه كرئيس تناوبي لمجلس الحكم الذي شكلته سلطات الاحتلال الأميركي، وأصدر امرا مرتجلا وفرديا بإلغاء قانون الأحوال المدنية لسنة 1957، ولكن سلطات الاحتلال ألغت قرار الحكيم بل وأجبرته على أن يغير اسم حزبه لاحقا فخضع لأوامر الاحتلال وأبطل قراره بالإلغاء، وغير اسم حزبه إلى “المجلس الأعلى الإسلامي”! ويبدو أن هذا التعديل يجري في السياق ذاته، سياق تطييف قانون الأحوال الشخصية بطريقة متدرجة بعد فشل تلك المحاولات والاقتراب به من صيغة قانون الأحوال الجعفري المطبق في لبنان والذي يحرم الأم من حق حضانة طفلها، وفي حين كان قانون الأحوال الشخصية العراقي بنسخته مصدر أمل وإلهام للنساء العربيات وخاصة في لبنان، خاصة وأن مرجعية المحاكم الجعفرية في لبنان مركزها العراق، فإن التعديلات التي يحاول الساسة الإسلاميون الشيعة العراقيون إدخالها على القانون تشكل ردة اجتماعية وحضارية على ما هو نافذ اليوم.
*على المقلب الآخر، يقف المعارضون لهذه التعديلات بضراوة، بحجة الدفاع عن المرأة الأم – والتي ينطوي التعديل على إجحاف بحقوقها كأم وامرأة أيضا ويحاول سلبها أو تقييد حقها في حضانة أطفالها في حال زواجها بعد طلاقها أو جعل الحضانة لسبع سنوات فقط – فهؤلاء المدافعون لا يقلّون أدلجة وتسييسا في نظرتهم وموقفهم للموضوع عن خصومهم الإسلاميين الشيعة وهم في دفاعهم الأعمى عن المادة يستندون الى فهم متخلف لنسخة بائسة من علمانية قشرية لا تأخذ بها حتى الدول التي تعتمد العلمانية منهجا رسميا لها في ميدان الحوال الشخصية بل طورت مفاهيم وصيغ جديدة أكثر إنسانية وتقدما وإنصافا للطرفين الأم والأب وإعطاء الأولوية لمصلحة وحقوق الطفل نفسه قبل غيره، وهؤلاء العلمانيون القشريون بهذه المواقف يحشرون أنفسهم في منطق رد الفعل الأيديولوجي بدلا من تقديم بديل إيجابي متطور وأكثر تقدمية من تلك المادة ومن التعديل المقترح عليها يستفيد من آخر التطورات القانونية والتربوية والاجتماعية العلم نفسية في هذا الباب.
سنلقي نظرة الآن على الفقرات ذات الصلة الأهم في النص النافذ الآن من هذه المادة 57 من القانون عدد 188 الصادر عام 1959:
“1 –الأم أحق بحضانة الولد وتربيته، حال قيام الزوجية. وبعد الفرقة، ما لم يتضرر المحضون من ذلك.
2 –يشترط ان تكون الحاضنة بالغة عاقلة أمينة قادرة على تربية المحضون وصيانته، ولا تسقط حضانة الأم المطلقة بزواجها. وتقرر المحكمة في هذه الحالة أحقية الأم والأب في الحضانة في ضوء مصلحة المحضون.
4 –للأب النظر في شؤون المحضون وتربيته وتعليمه، حتى يتم العاشرة من العمر. وللمحكمة أن تأذن بتمديد حضانة الصغير، حتى إكماله الخامسة عشرة، إذا ثبت لها بعد الرجوع إلى اللجان المختصة الطبية منها والشعبية، أن مصلحة الصغير تقضي بذلك، على أن لا يبيت إلا عند حاضنته.
5 –إذا أتم المحضون الخامسة عشرة من العمر، يكون له حق الاختيار في الإقامة مع من يشاء من أبويه، أو أحد أقاربه لحين إكماله الثامنة عشرة من العمر، إذا آنست المحكمة منه الرشد في هذا الاختيار.
7 –في حالة فقدان أم الصغير أحد شروط الحضانة أو وفاتها، تنتقل الحضانة إلى الأب، إلا إذا اقتضت مصلحة الصغير خلاف ذلك. وعندها تنتقل الحضانة إلى من تختاره المحكمة، مراعية بذلك مصلحة الصغير.
8 –إذا لم يوجد من هو أهل للحضانة من الأبوين، تودع المحكمة المحضون بيد حاضنة أو حاضن أمين، كما يجوز لها أن تودعه إلى دور الحضانة المعدة من قبل الدولة عند وجودها.
9 –أ- إذا فقد أبو الصغير أحد شروط الحضانة فيبقى الصغير لدى أمه ما دامت محتفظة بشروط الحضانة، دون أن يكون لأقاربه من النساء أو الرجال حق منازعتها لحين بلوغه سن الرشد.
ب- إذا مات أبو الصغير فيبقى الصغير لدى أمه وإن تزوجت بأجنبي عنه من العراقيين بشرط:
1 –أن تكون الأم محتفظة ببقية شروط الحضانة.
2 –أن تقتنع المحكمة بعدم تضرر الصغير من بقائه مع الأم.
3 –أن يتعهد زوج الأم حال عقد الزواج برعاية الصغير وعدم الإضرار به.
ج- إذا أخل زوج الأم بالتعهد المنصوص عليه في “3” من البند “ب” فيكون ذلك سبباً لطلب التفريق من قبل الزوجة.
إن هذه المادة النافذة معدلة، وليس بحوزتنا المادة الأصلية لعهد ثورة 14 تموز، حيث يقول الهامش 19 إن الصيغة القديمة منها لسنة 1959 قد ألغيت و(حل محلها النص الحالي بموجب القانون رقم 21 لسنة 1978/قانون التعديل الثاني، وألغيت الفقرة 9 منها وحل محلها النص الحالي بموجب القانون رقم 65 لسنة 1986/قانون التعديل الحادي عشر. وعدلت الفقرة 2 منها بالقانون رقم 106 لسنة 1978/قانون التعديل الثالث عشر”. وهذه الصيغة مجحفة بحقوق الأب في اشتراطها عدم مبيت ابنه في مقر إقامته، ولكن هذه جزئية صغيرة ويمكن تعديلها بسهولة ولكن المادة تلوِّح بمبدأ المشاركة في الحضانة تلويحا غامضا في فقرة (وتقرر المحكمة في هذه الحالة أحقية الأم والأب في الحضانة في ضوء مصلحة المحضون) وأرجح أن يكون المقصود بعبارة “هذه الحالة” حالة زواج الأم الحاضنة من رجل آخر، والمطلوب التقدم خطوة أكبر على هذا الطريق وجعل حالة المشاركة والتوافق على الحضانة بإشراف القضاء حالة عامة وليست استثناء خاصا بالأمهات الحاضنات المتزوجات. كما أن حضانة الأم في هذه المادة ليس مطلقة ولا هي غير مشروطة كما يقول المناهضون للمادة، بل هي مشروطة بإشراف الأب على شؤون ابنه المحضون وتربيته وتعليمه حتى يتم العاشرة من العمر، وبموافقة القضاء واقتناعه بانعدام الإضرار بالطفل من العيش في كنف زوج الأم، وكذلك بتعهد من هذا الأخير برعاية المحضون وعدم الإضرار به.
أما النص الكامل للمادة الجديدة المقترحة فليس متوفرا في الإعلام ولكن الفقرات التي نُشرت منه يفيد الآتي:
* ينص على أن “الأم أحق بحضانة الولد وتربيته حال قيام الزوجية والفرقة حتى يتم السابعة من عمره ما لم يتضرر المحضون من ذلك”. حيث أضيفت عبارة جديدة تفيد تحديد فترة الحضانة للأم بسبع سنوات من عمر الطفل وتكون مشروطة، وتقول العبارة “حتى يتم السابعة من عمره” بعد أن كانت تصل الى خمسة عشر عاما كما يفهم من منطوق الفقرة الخامسة والتي تقول “إذا أتم المحضون الخامسة عشرة من العمر، يكون له حق الاختيار في الإقامة مع من يشاء من أبويه”.
وهذا التحديد لفترة الحضانة بسبع سنوات هو تطبيق لفتوى المرجع السيستاني التي تقضي بأن “للمرأة الحق في حضانة طفلها لغاية عمر سبع سنوات (الحضانة الأحوط وجوباً)”، هو تحديد مجحف بحق المرأة قياسا لحقها الذي ضمنته المادة النافذة اليوم، ويزداد إجحافه حين تتزوج الأم إذْ يسقط حقها في الحضانة تلقائيا وكأن المشرع يريد مصادرة حق الأم في أن تعيش حياتها كسائر النساء وتتزوج وتنجب من جديد، وهذا اعتداء صارخ على حقوق المرأة كأم وكإنسانة.
*كما تعطي المادة المقترحة، في حال أتم الطفل المحضون السابعة من عمره، وكان أبوه متوفى أو مفقوداً أو فقد أحد شروط الحضانة، الحق إلى “الجد الصحيح”، ثم إلى أمه ما دامت محتفظة بشروط الحضانة، ومنها أهليتها على المستويين المادي والعقلي وعدم زواجها مرة أخرى، من دون أن يكون لأقاربها من النساء أو الرجال حق منازعتها فيه لحين بلوغ الولد أو البنت سن الرشد. وهذا يعني أن المادة تحصر حق الحضانة بالأب بعد سن السابعة ثم تحيل هذا الحق إلى الجد في حال وفاة الأب ثم إلى الأم إذا لم تكن قد تزوجت وهذا يعني أن الحاضن الأول ينتقل الى إلى الأب ثم إلى الجد ثم إلى الأم، ولا يوجد قانون كهذا في العالم يجعل الأم هي الحاضن الثالث.
*نلاحظ في شرط عدم الزواج للأم الحاضنة انحيازا فاضحا إلى الأب لأنه لا يضع الشرط نفسه عليه لنيل حضانة الأبناء، وكأن المشرع ينظر الى الآباء كملائكة لا يقصرون أو يخطأون بحق الأبناء أما الأم فهي مدانة سلفا أو على الأقل مشكوك فيها دائما لأنها امرأة وهذه نظرة ذكورية رجعية متخلفة! إن “ترتيب الأب في الحضانة في ثماني دول عربية في المركز الثاني كما هي الحال في العراق، سوريا، تونس، الجزائر، المغرب، الإمارات، قطر وسلطنة عمان” ولكنها في مصر متأخرة كثيرا وتحديدا “إلى الرتبة السادسة عشر بعد كل نساء العائلتين من جهة الأم ومن جهة الأب، ثم يأتي بعدهم جميعا ترتيب الأب في حضانة أبنائه الذين من صلبه” كما قال العميد محمد صلاح المتحدث الإعلامي باسم “جبهة أرامل مصر” من الرجال للصحافة.
في الجزء الثاني من المقالة نواصل الحديث عن التجارب القانونية لموضع الحضانة في لبنان وإيران وسويسرا ودول أوروبية وعربية أخرى ونختم بطرح وجهة نظرنا الشخصية.