من أعطى المراقد الدينية وظيفة سياسية ؟
من المعروف أن السياسة توغلت في كل شيء، وأنها أحاطت بمجالات حياتية كثيرة، لكن أن تُعطى للمراقد والمزارات الدينية وظيفة سياسية، فتلك مسألة يجب الوقوف عندها والبحث في دوافعها وأغراضها.
منذ أن زار العاهل الأردني المراقد الدينية في جنوب بلاده، قبل وصوله إلى بغداد للمشاركة في القمة العراقية المصرية الأردنية في 27 حزيران/ يونيو المنصرم، والكثير من مواقع التواصل الاجتماعي والصحف الإلكترونية والورقية، تتزاحم فيها الآراء والأفكار والتوقعات عن فحوى تلك الزيارة. بعضهم قال إنها رسالة أردنية الى إيران، بأن عمّان باتت جاهزة لفتح أبوابها للزيارات الدينية كما هو الحال في العراق وسوريا، ثم يذهبون إلى تعداد المنافع المقبلة للأردن من هذا المجال، ويحسبونها خسائر مادية كبرى تكبدتها عمّان طوال السنوات الماضية، لأنها لم تفتح هذا الباب أمام الزوار الإيرانيين والعرب الشيعة.
أطراف أخرى راحت تُحذّر من سقوط الأردن في جُب الفتنة الطائفية في حالة الموافقة على قدوم الزوار الإيرانيين وغيرهم، وانتقاله الى ما يسمى محور المقاومة واستنساخ صورة العراق ولبنان وسوريا واليمن فيه، حيث الخراب يضرب أطنابه في كل زاوية من البلاد، فيظهر على شكل استعصاء سياسي واجتماعي وأمني وفكري وثقافي وخدماتي. رأي ثالث قال إن الملك عبدالله الثاني لديه مشروع يشاطره فيه الرئيس المصري، وهو الإبقاء على رئيس الوزراء العراقي لولاية أخرى، ولأن من يقرر بقاءه من عدمه هي إيران وأحزاب الإسلام السياسي الشيعي المرتبطة بها، فإنه ذهب لزيارة مقامات الصحابة في محافظة الكرك وصلى في مسجد جعفر بن أبي طالب، مُرسلا إشارات السعي لكسب رضا أصحاب النفوذ في العراق. ويبدو واضحا أن القوم ذهبوا الى إعطاء تلك الزيارة طابعا سياسيا، وصوّروا الملك وهو يستثمر في هذا المجال بهدف الحصول على المنافع المادية من العراق، في ظرف مادي صعب يمرّ به الأردن الشقيق. وهنا يبرز السؤال المحوري وهو، هل للمزارات والمراقد الدينية وظيفة سياسية؟
بداية لا بد من القول إن هنالك حدثين مهمين حصلا في الشرق الأوسط، الأول هو وصول الخميني الى السلطة عام 1979، واعتماد النظام السياسي الإيراني على مبدأ ولاية الفقيه، وتكريس حاكمية مذهب معين في دستورها، ثم قادت حملة كبرى لترميم وتذهيب المراقد الموجودة في العراق وسوريا، كما شرعت ببناء مراقد ومزارات لم تكن موجودة أصلا. بعدها انتقلت إلى المرحلة الثانية وهي، تسييس المراقد الدينية في دول المنطقة، من خلال تأليف ونشر روايات غير موثوقة، تُظهر أن من يرقدون فيها قد تعرضوا للظلم والاضطهاد بسبب مواقفهم السياسية، على يد خلفاء أو أمراء في العصور الإسلامية، تضفي عليهم الانتساب للمذهب الآخر. في حين هي تعرف تماما أن مَن في المراقد ليسوا شيعة، وأن مَن كانوا يحكمون وتتهمهم بالظلم ليسوا سُنة، لأن الانقسام الطائفي والمذهبي لم يكن موجودا أصلا آنذاك، وكان الجميع ينتمون الى دين وليس مذاهب، لكنها كانت تريد من وراء ذلك إعطاء وظيفة سياسية لهذه المراقد كي تستثمر فيها لحشد الدعم السياسي لها، لأنها كانت تبشّر بأنها دولة الإمام المنتظر الكونية، وأنها الخطوة الأولى لتأسيس قاعدة لانطلاق ما يسمى (أم القُرى) التي ستكون نبراسا للمستضعفين من المسلمين في شتى أرجاء العالم، وليست مجرد دولة قومية مثل سائر دول العالم.
من يريد بناء علاقات خارجية رصينة ومفيدة له، عليه بناء سياسة خارجية وفق منظومة العلاقات الدولية الحديثة
أما الحدث المهم الثاني فهو غزو واحتلال العراق في عام 2003، حيث كانت بغداد تمثل جدار برلين العرب في وجه هذا التوجه الإيراني. وحالما امتلك الأمريكيون زمام الأمور في البلد، بدأوا بتطبيق نظرية بريجينسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي في عهد الرئيس الأسبق جيمي كارتر، التي نشرها في سبعينيات القرن المنصرم وسماها (الضرب أسفل الجدار). وفحواها أن السيطرة على هذه المنطقة تتطلب تفتيت الدول فيها، وإعادتها إلى المربع الأول، حيث كانت الهويات الفرعية هي السائدة، وأن الدول ككيانات هي حالة لاحقة وجديدة في هذه المنطقة. لذلك بدأ الأمريكيون بتطبيق هذا التوجه على أرض الواقع في العراق، من خلال إعطاء كل فريق طائفي ومذهبي وإثني حصة سياسية. وقد مثّل هذا التوجه تناغما واضحا مع التوجه الإيراني، الذي كان يسعى جاهدا لتفتيت دول الجوار العربي كي تصبح أذرعه هي الفاعله. ومن هنا أخذت الطائفية وظيفة لأول مرة في أن تكون جزءا من السياسة، ثم انتشر هذا الوباء في كل أرجاء المنطقة العربية. ومع تقدم الحياة السياسية الطائفية في العراق، وتغلبها على كل النصوص والقوانين، فإن كل ملحقات الطائفية أخذت وظيفة سياسية أيضا، ولأن المزارات والمراقد الدينية أصبحت تمثل هذه الطائفة أو تلك، وحكرا لهذا المذهب دون الآخر، فهي الأخرى جرى إعطاؤها وظيفة سياسية، وتم اعتمادها كعنصر من عناصر صنع السياسات الخارجية، لذلك وجدنا العراق وقد تحول إلى حالة اللاهوية، بعد أن أسقط المحتلون وأعوانهم هويته العربية أولا، ثم هويته العراقية ثانياً، وبذلك سقطت الأسس الرئيسية التي يمكن اعتمادها في صناعة نظرية سياسية خارجية خاصة به مع الدول العربية الشقيقة له. وبات يُطلب من الأردن، على سبيل المثال فتح بعض المراقد الدينية في أراضيه أمام زوار طائفة ما، كعربون لتعميق العلاقات الاقتصادية والسياسية، متناسين تماما روابط الأخوة العربية، وفي أضعف الأيمان روابط الجوار.
في كل تاريخ العراق كان الرأسمال القومي والوطني يشكل مدماكا رئيسيا ومهما في العلاقات العراقية العربية، وليس مصادفة أن يكون أول من اعتلى عرشه كان ملكا عربيا ولم يكن عراقيا، لذلك كان وما زال العراق مذكورا بالخير على لسان كل مواطن عربي، نتيجة ما قدمه للأمة. وعليه فإن بناء علاقات سياسية واقتصادية مع الدول العربية، قائمة على الابتزاز الطائفي، والضغط عليها من أجل السماح بالزيارات الدينية، وبناء أماكن عبادة ذات صبغة طائفية، لن تصنع مجدا لهؤلاء الذي يرسمون الصورة بهذا الشكل، وإذا كانت الطائفية قد أصبحت جزءا من السياسة في العراق، فليس معنى ذلك أنه يجب على الدول العربية الاخرى أن تتناغم مع الحكام في بغداد في السلوك نفسه. ومن يريد بناء علاقات خارجية رصينة ومفيدة له، عليه بناء سياسة خارجية وفق منظومة العلاقات الدولية الحديثة، التي تبحث عن المشتركات وليس الفواصل. وعليه فإن المنطق يقول إن بأمكان العراق الاستثمار في الأهمية السياسية للأردن، التي تفرضها خريطته الجغرافيه، والاعتماد على مصر كدولة كبيرة ووازنة في المنطقة. وما يقال عن هاتين الدولتين يمكن أن يقال أيضا عن بقية الدول العربية الأخرى التي يمكن التكامل معها سياسيا واقتصاديا وأمنيا، لكن المشهد السياسي العراقي خال تماما من رجال دولة، ويتحكم بمصيره ثلة من الطائفيين والشعبويين الذين لا يدركون معنى العمل السياسي، والذين يبحثون عن أعمال مرحلية وليست منهجية.