الخرافة في خدمة انتشار وباء كورونا مع اشارات حول وضع العراق
د.عامر صالح
الخرافة في معناها العام تعني البعد عن الحقيقة، والخرافة هي اعتقاد أو فكرة لا تتفق مع الواقع الموضوعي بشرط أن يكون لهذا الاعتقاد استمرارية وله وظيفة في حياة من يؤمنون بها ويستخدموها في مواجهة بعض المواقف وفي حل بعض المشكلات الخاصة بهم في الحياة رغم عدم عثورهم على الحل الحقيقي والمنطقي الذي ينسجم مع طبيعة العقل في حل المشكلات.
والتفكير الخرافي يفتقد إلى العلية أو السببية العلمية” أي إن لكل ظاهرة اجتماعية أو طبيعية سبب واحد أو مجموعة أسباب ويمكن التحكم فيها عبر حصرها في دائرة أسبابها ثم فهمها فهما صحيحا وصولا إلى التحكم فيها “، ويبحث التفكير الخرافي عن تفسير للظواهر الطبيعية والاجتماعية خارج إطار أسبابها الحقيقة، وغالبا ما يبحث عن أسباب ماورائية ميتافيزيقية غيبية. وتنتشر الخرافة انتشارا واسعا كلما زادت ظروف الحياة صعوبة وكلما زادت الأخطار المختلفة من اقتصادية واجتماعية وأمنية التي تهدد جماعة ما دون العثور على الحلول الطبيعية والممكنة لذلك. وتنتشر الخرافة في أوساط اجتماعية مختلفة ذات ثقافة فرعية سواء كانت مهنية أو دينية أو طائفية في إطار المجتمع العام حيث يعم القلق والاضطراب وعدم الاستقرار وانعدام الحلول الواقعية.
لا اريد هنا استفزاز مشاعر الناس بمختلف معتقداتهم وطقوسهم الدينية والمذهبية وسلوكياتهم الأيمانية في دفع الاخطار المهددة لحياتهم جراء المخاطر المختلفة التي تحدق بوجودهم, من امراض مختلفة وأوبئة او توقعات بكوارث قادمة, ولكن ماهو مجافي لمكانة الانسان وحرمته هو اللجوء الى ما يعقد حياة الانسان ويضعها على حافة الاخطار الجدية جراء فهم مشوه للدين او المعتقد وممارسة طقوس تفضي الى تشديد قبضة الامراض والابئة وانتشارها على خلفية ممارسة طقوس تفضي الى انتشار الوباء كما هو في وباء كورونا, الذي سهل انتشاره وتمعقله وحتى تحوره الى اشكال مختلفة جراء الطعن بمكانة العلم والتشكيك بجدوى اللقاح وعدم اخذه, وحتى التشجيع على عدم اخذه في اعتقاد متخلف انه سبب الوباء.
وقد وصل الامر الى الاستعانة بأنصاف المراجع والفتاوى بل والاستعانة بعامة الناس من يمارسو الطقوس الدينية شكلا بدون مضمون الى الأخذ بوصفات شعبية وتعويذات وطقوس مختلفة للخلاص من الوباء, ولكن كانت نتائجها القريبة هو انتشار الوباء على اشده وتحوله الى كوارث يومية تؤدي بحياة الناس وتيتم الاطفال وتقتل النساء والرجال دون شفاعة من احد, فكانت الزيارات الدينية لمختلف المراقد والامكنة الدينية تأتي بنتائج عكسية حيث طبيعة الزيارات الحشدية تسهم بشكل فعال في انتشار وباء كورونا وتحوره الى اشكال خطيرة وسريعة الانتشار” رغم ان هناك بعض من المراجع الدينية تؤكد الأخذ بنصيحة الطبيب والجهات الصحية والحكومية المختصة وارشاداتها العامة بهذا الخصوص”, ولكن الخرافة شقت طريقها بهدوء وعمق الى مخيلة الناس لكي تغزز من استفحال الوباء وانتشاره وتكثر من الضحايا, ومن النماذج المتأصلة في تفكير الكثير من عامة الناس: ان الوباء قدر ألهي وعقاب رباني لما يقترفه الناس من مساوئ وموبقات في الدنيا ونسوا المعتقد السائد ان الله يحاسب في الآخرة على الافعال, وعندما كان الوباء محصورا في الصين كان عقابا للصين على سوء معاملتها للأقلية المسلمة كما يدعون, وعندما انتشر على اراضي المسلمين اختلف الامر واصبح عقابا ربانيا على الافعال وان الاوبئة اقدار من الرب والحكايات كثيرة ومعبئة بزخم انتشار الفكر الخرافي في عقول الناس.
اما علاج كورونا خرافيا فقد تنوعت اشكاله وابرزها رفض اللقاح لانه يقي من الاصابة, وقبل ان يتم اكتشاف اللقاح كان الجميع بأنتظاره, ونشر وعي مزيف بأن كل من اخذ اللقاح او معظمهم في العراق اصيبوا بكورونا, الى جانب الوصفات الشعبية بتناول بعض المأكولات بانتظام طقوسي وشرب بعض السوائل ايضا وقراءة التعويذات بانتطام وبترديد اشد وطأة من المعتاد كي يقف مناعة ضد الفيروس ولعل من الوصفات التي شاعت مؤخرا في العراق هو تناول خمسة حبات من التمر يوميا مع اكل نصف رمانة واضفاء قدسية على تلك الوصفة بأنها “وصفة من الصين وقد عالجت الوباء هناك بسرعة”, ولكن النتائج الميدانية في العراق تقول مزيدا من حبات التمر والرمان تقابلها ارتفاع نسبة الاصابة حيث انعدام العلاقة المنطقية بين هذا وذاك والحديث يطول.
استورد العراق اكثر من 16 مليون جرعة لقاح ضد كورونا ولم يبلغ عدد الملقحين لحد المليون ونصف في بلد يقترب او بلغ عدد سكانه 40 مليون نسمة وبقسمة بسيطة لو حصل كل عراقي جرعة واحدة لبلغ عدد الملقحين 16مليون واذا اخذ جرعتين فهناك 8 ملايين ملقح ويصل المجتمع بسرعة مقبولة الى ما يسمى ” بمناعة القطيع “. وأرد هنا نموذجا لأحدى دول العالم وهي السويد” رغم ان المقاررنة فيها الكثير من الاجحاف بحق العراق لأن السويد احدى بلدان العالم المتقدم, ولكن العراق يمتلك موارد قد تجعله منافسا للكثير من دول العالم ان توفرت الظروف لذلك, حتى الآن، تلقى ما يقرب من 5.5 مليون من جميع السويديين جرعة واحدة على الأقل من لقاح كوفيد، وتلقى حوالي 3.5 مليون أيضًا جرعتهم الثانية (عدد السكان 10 ملايين), ويقف المواطن في الطابور لتعاطي اللقاح بأنتظام وحسب الفئات العمرية والمهن ذات الخطورة.
لقد شيدت الحضارات الإنسانية المعاصرة بالاستناد إلى التراكم المعرفي العلمي في مختلف المجالات التي نشهدها اليوم، ولم تبني الخرافة أي عالم معاصر لأنها لا تستجيب منطقيا لحاجات الإنسان المتواصلة في العيش الكريم وفي البحث عن حلول لمشكلاته. وفي الوقت الذي تنحسر فيه الخرافة في المجتمعات المتقدمة انحسارا شديدا وتبقى في أطرها الفردية الضيقة، فأنها تشيع شيوعا مذهلا في المجتمعات المتخلفة وتهدد بناء المستقبل تهديدا لا ياستهان به، بل يستعان بها لبناء المستقبل وأي مستقبل يشيد بالخرافة. ويبدو إن الخرافة ستظل تضطلع بدورها الكبير في نفسية الأفراد والجماعات مهما تقدمت العلوم والمعارف وذلك للأسباب الآتية:
1ـ لأن سواد الناس ليس في وسعهم أن يتخلصوا من العقلية البدائية، فكل ما ينهكهم ويوهن أجسادهم ويقض مضاجعهم كالمرض والحزن والفقر والمصيبة وما إلى ذلك، لابد أن يدفعهم إليها طوعا أو أكراها.
2ـ لأن الإنسان يعاني من جوع نفسي، فهو يصعب عليه أن يعترف بجهله وعجزه. انه يؤثر الخداع الذي تشيعه الخرافة على الفراغ النفسي الذي لا يطاق والذي يشعره بالعدم.
3ـ لأن سواد الناس تلم بهم حاجة ملحة إلى المشاركة بالوجود. فهم لا يكفيهم أن يؤمنوا بالقيم أو أن يتقبلوها. أنهم يصبون إلى الاتصال بها.
وهكذا فالخرافة تشيع التوازن بين الإنسان وبيئته، وتنظم زمانه ومكانه، وتمد له في الوجود مدا، على تفاوت في الناس. ففي الوقت الذي يكون فيه تحكم الخرافة هامشيا في حياة الناس في المجتمعات المتقدمة، فأنها تشكل مفتاح الحل في مجتمعاتنا المتخلفة، بل هي العصا السحرية لكل صغيرة وكبيرة.
لقد شاهدنا في بداية انطلاق فيروس كوونا وبفعل محدودية المعارف عنه وقبل اكتشاف اللقاح ان الخرافة اخذت حيزا كبيرا في عقول الناس وفي مختلف مجتمعات العالم بغض النظر عن مستوى تطورها, بدا من رفض وجود هكذا فيروس واعتباره كذبة كبرى على الصعيد العالمي او انه فيروس صيني مصنع لمقاتلة امريكا او بالعكس انه فيروس امريكي لأعلان الحرب على الصين او انه جند الله لمحاربة الغرب الكافر وهكذا, وقد رافق ذلك رفض وتعنت من قبل الناس لوضع الكمامات ورفض فكرة التباعد الاجتماعي, ولكن ما ان انجلت حقيقة الفيروس والمعرفة به ثم اكتشاف لقاحات من عدة شركات عالمية له حتى بدأت النفوس تهدأ واخذ العقل يشق طريقه في ملاحقة الفيروس, وقد لعب هنا دور العلم ومكانته والثقافة العلمية المجتمعية الى جانب متانة المؤسسات الصحية دورا كبيرا ولكنه متفاوت على الصعيد العالمي استنادا الى مستويات التطور الاجتماعي وقد عبر الفيروس بوضوح عن صراع التخلف مع التقدم.
وللأنصاف فأن هناك في اقصى العالم المتقدم فسحة من الخرافة وبالمقابل هناك في العالم الآخر فسحة من التفكير العلمي والعقلانية ولكن الاختلاف في فسحات ذلك في حياة الناس اليومية ورقيها والتعويل على هذا وذاك في بناء المستقبل. ولكن الاخطر في ذلك هو شرعنة الخرافة وزجها في التفكير الديني حتى اصبح من الصعب الفصل بينهما بل اصبحت الخرافة دين والدين خرافة واصبحت الخرافة مقدسة الى درجة ان من يعترض عليها يعترض على الدين واصبحت الخرافة تستمد القوة والثبات من الدين.
في العراق الحال اسوء عن مما ننظر له حيث اختلط الدين في السياسة والخرافة وقد انتج ذلك خلال اكثر من 18 عاما نظاما محاصصتيا منتج للتطرف والخرافة ويسعى لتكريس الخرافة كسلوك تخدم بقائه واعادة انتاجه ولا نستغرب من فساد اداري ومالي استنزف موارد البلاد وانهيار للبنية التحتية والخدمية من صحة وتعليم وغيرها وانعدام ابسط مقومات الحياة الكريمة, ونشير هنا الى انهيار القطاع الصحي وضعف ادائه وعدم توفر ابسط المستلزمات حتى بدت مخاوف المواطن من اخذ اللقاح وعدم ذهابه الى مراكزه واضحة جدا وهي من اسباب العزوف عن التلقيح, وقد تحالف هذا الانهيار مع الخرافة لينتج اشكال خطرة من الاحجام في وقت وصلت فيه الاصابات في بعض الايام بحدود تسعة آلاف اصابة ويقترب مجموع الاصابات الكلية من المليون والنصف.