القدس
قضية “القضية”
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
كل شيء يبدأ من القدس وينتهي إليها، الرواية والصراع والميثولوجيا، لكونها مدينة فريدة ولها تاريخ فريد ومشكلتها فريدة، خصوصاً ارتباطها بثلاث ديانات سماوية هي: اليهودية والمسيحية والإسلام. وخلال تاريخها الذي يقارب 40 قرناً، تعرّضت المدينة إلى الحصار 20 مرّة، وإلى التدمير 17 مرّة، وتناوب على حكمها أقوام وأعراق ومِللٌ ونِحلٌ، ومجموعات مختلفة زادت على 25 “دزينة”، وتنازعت عليها قوى وجهات ومصالح دولية مختلفة؛ ولكنها كانت تنهض مثل طائر الفينيق كالعنقاء لتجدّد نفسها، وتنبعث من جديد.
وعلى الرغم من الصراع والاحتراب والغزو الخارجي الذي عانته المدينة، إلاّ أنها عاشت نوعاً من التسامح، وخصوصاً بعد الفتح الإسلامي لها ودخول الخليفة الثاني الفاروق عمر بن الخطاب إليها، بصحبة البطريرك صفرونيوس، في العام 15 للهجرة، وصادف أن كان الخليفة عمر في كنيسة القيامة، وحان موعد الصلاة، فدعاه البطريرك للصلاة فيها، إلاّ أنه اعتذر بحكمة وبُعد نظر تحسباً لمن سيأتي من بعده ويقول أنها أرض المسلمين لأن خليفتهم صلّى فيها، وقام وصلّى بالقرب منها، حيث تمّ بناء جامع باسمه لاحقاً، وعمل الخليفة عمر بن عبد العزيز المعروف بـ “الخليفة العادل” على توسعة جامع عمر الكبير، وما يزال إلى اليوم دليلاً على التسامح والتعايش الذي عرفته المدينة في تاريخها، حتى بعد حروب الفرنجة، وقد تحرّرت القدس على يد القائد صلاح الدين الأيوبي في معركة حطين في العام 1187.
وقد عانت المدينة المتعايشة والمتسامحة من موجة عنصرية منذ ثلاثة أرباع قرن من الزمان، تعرّضت فيها لاستلاب واحتلال واستيطان وظلم، وظلت هدفاً للحركة الصهيونية تسعى للهيمنة عليها. فمنذ قيام “إسرائيل” في 15 أيار/مايو 1948 قال بن غوريون، رئيس أول حكومة: “لا إسرائيل من دون القدس، ولا قدس من دون الهيكل”. وفي العام 1967 ترجم الجنرال موشي دايان، كلام بن غوريون ليحتل القسم الشرقي من القدس بعد أن استولت “إسرائيل” على قسمها الغربي، ليبدأ مسلسل الضم والإلحاق والاستيلاء والإجلاء، الذي توّج بقرار “الكنيست” في العام 1980، تنفيذاً للرواية “الإسرائيلية” التي تقول: “إن حائط المبكى “حائط البراق” هو الأثر الوحيد المتبقي من هيكل سليمان. وهي ادعاءات أسقطتها “منظمة اليونسكو” حين قرّرت اعتباره جزءًا من التاريخ العربي والسيادة العربية بقرارها رقم 211 في 15 إبريل/نيسان 2021، مؤكدةً على أن جميع الإجراءات الرامية إلى تغيير طابع المدينة المقدسة ووضعها القانوني باطلة ولاغية.
وكان مجلس الأمن الدولي قد أصدر قراراً برقم 476 في 30 يونيو/حزيران 1980 يعلن فيه بطلان الإجراءات “الإسرائيلية” لتغيير طابع مدينة القدس، كما أصدر القرار 478 في 29 أغسطس/آب 1980 تضمّن عدم الاعتراف بالقانون “الإسرائيلي” بشأن القدس، ودعا الدول إلى سحب بعثاتها الدبلوماسية من المدينة. وعلى الرغم من ذلك فإن “إسرائيل” مضت من دون اكتراث إلى تهيئة المستلزمات لإعلانها “عاصمةً موحّدةً” لها، لأنها تحظى بدعم الولايات المتحدة. وكان الكونغرس الأميركي قد أصدر قراراً في العام 1995 يقضي بالاعتراف بالقدس الموحّدة عاصمة لدولة “إسرائيل” والعمل على نقل السفارة الأمريكية إليها، وهو القرار الذي ظل مؤجلاً في عهد الرؤساء بيل كلينتون وبوش (الإبن) وباراك أوباما، ولكن الرئيس دونالد ترامب أقدم على تنفيذه باندفاع شديد وحماسة كبيرة، في إطار ما عُرِف بـ “صفقة القرن” التي روّج لها، داعياً العرب للانضمام إليها. وقد باشر عملياً بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة في 6 ديسمبر/كانون الأول 2017 من دون مراعاة أو اعتبار لمشاعر مئات الملايين من البشر، مسلمين كانوا أم مسيحيين، أم غيرهم.
ففي القدس ولد وعاش ومات السيد المسيح، وفيها القبر المقدس وكنيسة المهد وحديقة الجتسمانية وجبل الزيتون وفيها 38 كنيسة. كما أنها مكان مقدس للمسلمين، فهي أولى القِبلتين وثالث الحرمين وتأتي مكانتها بعد مكة والمدينة، وفيها مسجد الصخرة، ومنها عرّج الرسول محمد إلى السماء في رحلة المعراج. وفيها 34 مسجداً وجامعاً (27 منها في المدينة القديمة والبقية خارج أسوارها).
لا يمكن الحديث عن فلسطين من دون الحديث عن قلبها القدس الشريف كما أسماها الشاعر محمود درويش وهو يكتب إعلان استقلال فلسطين في الجزائر في مؤتمر المجلس الوطني الفلسطيني العام 1988، ولا يمكن الحديث عن القدس من دون فلسطين، فهما في ترابط عضوي لا يمكن فصمه.
اليوم وبعد 73 عاماً على النكبة، وعلى الرغم من كل ما حصل من تشريد للشعب العربي الفلسطيني، وتقطيع أوصاله وبناء جدار عنصري، فإن فلسطين تعود مجدداً إلى الخريطة موحّدة واقعية وليست متخيّلة، بمعناها الراهني والمنظور وليس بمعناها التاريخي المعروف، وبصفتها المعاشة وليس بصفتها المقروءة في الكتب، وهي أقرب إلى الحضور منها إلى الغياب.
وقد أكّدت أحداث “حي الجرّاح” والالتفاف الشعبي من مختلف أنحاء فلسطين على الحيوية الفائقة للشعب الفلسطيني وقدرته على بلورة مطالبه وابتداع أساليب كفاحية جديدة لإلفات النظر إلى قضيته العادلة والمشروعة عالمياً، لأن قضية فلسطين عموماً وقضية القدس خصوصاً هي قضية الحرية والتحرّر وحق تقرير المصير في كل مكان من العالم.
لم يعد “الخط الأخضر” وبقية خطوط التقسيم وجميع خطوط الضم والإلحاق والترسيم قائمة، ولم تنفع محاولات التهويد والأسرلة، ولا دعوات التطبيع ممكنة، لا سيّما حين ظهر الداخل الفلسطيني وعرب الـ 48 سكان البلاد الأصليين وهم يستوعبون الخارج الفلسطيني في تكامل وتواصل وترابط، وظهر الشتات متفاعلاً ومكمّلاً للوطن بتضاريسه البهية والملوّنة في هارموني متّسق وجديد يؤشر إلى فلسطين المستقبلية، فلسطين الحقيقية كقضية حق وعدل وإنسانية. وهو الأمر الذي تم التفاعل معه من جميع أنحاء فلسطين، يافا وحيفا واللدّ والخليل والنقب وأريحا وغزة التي انضمت لنصرة القدس، وهو ما أثار ردود فعل دولية، خصوصاً حين شنّت “إسرائيل” عدواناً في إطار حرب شاملة وقصف وتدمير أثار استنكاراً دولياً كبيراً على المستوى الشعبي، وهو الذي يذكّر بعدواناتها السابقة، الرصاص المصبوب 2008، وعامود السحاب 2012، والجرف الصامد 2014.
ثلاث أحداث مهمة لفتت انتباهي خلال أحداث “حي الجرّاح”:
أولها – إرسال 191 منظمة حقوقية دولية رسالة إلى المدعية العامة لدى المحكمة الجنائية الدولية تطالبها بشمول تحقيقاتها الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولا سيّما تلك الواقعة في “حي الجرّاح”، على خلفية توجّه ممثلين عن 500 لاجىء فلسطيني برسالة تواصل اجتماعي في 22 إبريل/نيسان 2021.
وثانيها – توقيع 185 مثقفاً وفناناً وكاتباً “إسرائيلياً” بمن فيهم جنرالات سابقين في الجيش، مذكّرة موجّهة إلى المحكمة الجنائية الدولية يطالبون فيها بالتدخل للتحقيق في جرائم الحرب “الإسرائيلية”، وفي ذلك إشارة صريحة إلى عدم حيادية القضاء “الإسرائيلي” وعدم نزاهته، ومثل هذا التطوّر الجنيني يؤكّد أن شرعية نظام الأبرتايد Apartheid، بدأت تهتز، حتى داخل “إسرائيل” ومن قِبَلِ “إسرائيليين” وهو الأمر لا بدّ من العمل على تطويره وتفعيله وتوسيعه.
وثالثها – التقرير الذي أصدرته منظمة هيومن رايتس ووتش، وهي منظمة حقوقية أمريكية، بخصوص الانتهاكات “الإسرائيلية” الصارخة لحقوق الإنسان، وذلك عشية أحداث “حي الجرّاح”. والمطلوب تفعيل ذلك حقوقياً، لا سيّما من جانب المنظمات والهيئات الحقوقية، وهو ما ينبغي أن يوضع في أجندة المنظمات الحقوقية العربية بدعوة المنظمات الدولية الكبيرة مثل: منظمة العفو الدولية (أمنتسي)، وهيومن رايتس ووتش (منظمة مراقبة حقوق الإنسان)، والفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان FIDH، ومنظمة المادة 19 “Article 19“ الخاصة بحرية التعبير. وكانت الرابطة العربية للقانون الدولي أن دعت إلى عقد اجتماع في جنيف، وفي مقر المنظمة الدولية (الأمم المتحدة) لمخاطبتها لتحمّل مسؤوليتها، وذلك في الذكرى الـ 100 للانتداب البريطاني على فلسطين (1922)، الذي أُقر في مؤتمر سان ريمو (1920)، لبحث السبل الممكنة للاعتذار عمّا أصاب الشعب العربي الفلسطيني من غبن وأضرار من جهة، ومن جهة أخرى تعويضه بتمكينه من تقرير مصيره وعلى أرض وطنه، بإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، فضلاً عن معاقبة المعتدي وذلك بإعلاء قيم التضامن الدولي وقيم العدالة الدولية.
ولعلّ هذه التطوّرات في الداخل الفلسطيني تضع على عاتق المثقفين مسؤوليات جديدة في إطار الدبلوماسية الشعبية على المستوى الدولي، وهذه تحتاج إلى استراتيجيات جديدة وجهد مشترك لاستنهاض التضامن الدولي لدعم الصمود الفلسطيني من جهة، ومن جهة أخرى تعزيز الوحدة الوطنية الفلسطينية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، وبتوجهات واضحة بعد فشل جميع مشاريع التسوية والسياسات التي اعتمدت على أساسها طيلة العقود المنصرمة.
إذا كانت القضية الفلسطينية كقضية معقدة وتاريخية وجزء من حركة التحرّر الوطني ولها خصوصيتها، فثمة خصوصيات فيها أيضاً، منها: حق العودة كحق قانوني وتاريخي، بموجب القرار 194 الصادر عن الأمم المتحدة، وحق “إقامة الدولة” والحق في التعويض، فإن القدس تبقى قضية “القضية” التي لا يمكن الحديث عن فلسطين من دونها، وليس الأمر لكونها القضية الأكثر عاطفية ورمزية، بل لأنها الأرسخ تجذراً في الوجدان العربي والإنساني، ليس لفلسطين وحدها، بل هي قضية دمشق والقاهرة وبغداد وبيروت وعمّان والرباط وتونس ونواكشوط والرياض والكويت والخرطوم وغيرها، كقضية حق وعدل وحرية.