سليم الحص: الضمير والكلمة
“يبقى المسؤول قوياً إلى أن يطلب أمراً لنفسه”
سليم الحص
مرّتان قدر لي أن أشارك بهما الاحتفاء بدولة الرئيس سليم الحص، الأولى– حين طلب مني تجمع اللجان والروابط الشعبيّة إلقاء كلمة بمناسبة تكريمه، وذلك في أيار/مايو2012. ومع أنني لم أحضر الاحتفالية إلا أنّني أرسلت كلمة بالمناسبة أرفق نصّها في خاتمة هذه المقالة*.
والثانية، حين قدّر لي أن أشارك في اختيار“المركز العربي لتطوير حكم القانون والنزاهة” لسليم الحص باعتباره “شخصية حكم القانون والإدارة الرشيدة”، في إطار لجنة ضمّت كلاًّ من د. وسيم حرب، د.عصام سليمان، د. عصام نعمان، د. ساسين عساف، وكاتب هذه السطور، وذلك في العام 2018، وأتشرّف بكوني عضواً في مجلس أمناء المركز.
وقد وضعت هذه اللجنة تقريراً خطياً يستعرض مبادىء ومؤشرات حكم القانون التي تم اعتمادها لقياس أداء الرئيس الحص، ورصد مدى احترامه والتزامه بهذه المبادىء سواء بمواقفه أو قراراته أثناء توليّه المناصب العامة والحكوميّة. وقد بيّن هذا التقرير مدى عمق التزام الرئيس الحص قولاً وفعلاً بمبادئ “حكم القانون”.
وكنت قد تابعت باهتمام بالغ مسيرة سليم الحص وهي حافلة بالعديد من المنجزات، خصوصاً حين أصبح رئيساً للوزراء للفترة من 1976 ولغاية العام 2000 حيث رافق كلاّ من رؤساء الجمهورية: إلياس سركيس وأمين الجميّل وإميل لحود، كما شغل وزارات، هي: الصناعة والنفط والإعلام والاقتصاد والتجارة والتربية الوطنية والفنون الجميلة والعمل والخارجية والمغتربين، إضافة إلى انتخابه نائباً عن بيروت لدورتين: في العام 1992 والعام 1996.
وضمن هذا السجل الحافل يُعتبر الحص ابن الدولة وخبيراً معتقّاً بجميع مفاصلها، إضافة إلى عمله في إطار المجتمع المدني بعد تركه العمل في الدولة، حيث شغل عدة مواقع منها رئيس مجلس أمناء المنظمة العربية لمكافحة الفساد التي تأسست في العام 2005 بمبادرة من نخبة من الشخصيات الفكرية والثقافية ودعوة كريمة من د. خيرالدين حسيب ومركز دراسات الوحدة العربية، وكان أمينها العام وما يزال د. عامر خيّاط، ويشرّفني أنني عضو في مجلس أمنائها.
إذا أردنا أن نرسم شكل لبنان العابر للطائفية والمذهبية، فيمكن أن نتخيّل شخصية سليم الحص بما تحمل من نقاء وصفاء سريرة وطيبة، وتلك تمثّل ملامح لبنان الذي نحبّه ونتمنّاه. وتعبّر تلك الصورة عن “ضمير لبنان” الحيّ والنابض بالوطنية والعروبة، ومثل تلك الصفات كانت غالبة على مجمل سلوكه خلال توليّه العديد من المناصب الرفيعة.
وقد عمل الحص على إعلاء شأن الدولة خلال ترؤسه لخمس حكومات لبنانية ضمن ما هو متاح من إمكانات وظروف وتحديات وضغوط، وهو القائل “لدينا الكثير من الحريّة والقليل من الديمقراطية”، لأنه يدرك أن الديمقراطية كأسلوب وإدارة حكم تتطلب قوانين وأنظمة ومؤسسات ديمقراطية وفصلاً للسلطات وقضاء مستقل ورقابة وشفافية، وهذه لن تتحقق إلا بقيام دولة أساسها الحق والمواطنة، ودولة من هذا القبيل تقوم على الحرية التي لا غنى عنها كأساس للمواطنة المتكافئة والحيوية، ومساواة ضرورية في جميع المجالات، لأن المواطنة لا تستقيم دون مساواة، وهذه تتطلّب عدم التمييز القانوني والواقعي أيّ المجتمعي المعلن والمُضمر، وتحتاج إلى عدالة ولاسيّما اجتماعية، وإلاّ ستكون ناقصة ومبتورة ومشوّهة، ولكي تكتمل صورة المواطنة، فلا بد من شراكة ومشاركة في اتخاذ القرار، وخصوصاً فيما هو مصيري من الشؤون العامة، وفي توليّ الوظائف العليا دون تمييز، أي شراكة في الوطن الواحد، وبهذه المنظومة يمكن الحديث عن مواطنة وعن توّجه ديمقراطي باحترام حقوق الإنسان، وكان الحص يدرك أن ذلك يتطلّب ثقافة وممارسة في آن، وربما يحتاج إلى تطور طويل الأمد.
فلسطين في القلب
في اليوم التالي لتحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي العام 2000 توّجه الحص وكان رئيساً للوزراء، مع أعضاء مجلس الوزراء لعقد جلسة في مدرسة بنت جبيل المُحررة، وكانت تلك خطوة شجاعة وجريئة، وفيها رمزية كبيرة، ناهيك عن تحدٍ وفعل مواجهة ثقافية، علماً بأنه كان في أشد لحظات الحرج حين اجتاحت إسرائيل الجنوب في “عملية الجليل” المعروفة في عام 1978وهو كان في سدة المسؤولية، وهو المعروف عنه وعلى طول تاريخه تأييده للمقاومة ورفضه للمشاريع الاستسلامية، تلك التي تريد “تحييد” لبنان تارة بحجة تجنيبه الصراع في المنطقة، أو كي لا يكون “ساحة مفتوحة” له، أو بزعم عدم “تكافؤ القوى”، وغير ذلك من الكلام الحق الذي يُراد به باطل.
كان رأي الحص أن أس المشاكل في المنطقة هو الاستعمار الاستيطاني حيث تتوّسع “إسرائيل” في الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، إضافة إلى القدس التي تعتبر قطب الرحى بالنسبة للعالمين العربي والإسلامي، ولذلك عارض اتفاقيات أوسلو العام 1993 من منطق أنها لم تستجب للمطالب الفلسطينية والعربية في حدها الأدنى، خصوصاً قيام دولة وطنية فلسطينية على حدود الرابع من حزيران /يونيو1967 وعاصمتها القدس الشرقية وتأمين حق العودة في إطار حق تقرير المصير.
الطائفيّة
تُعتبر الطائفيّة أحد ألد أعداء الحص، وعلى الرغم من أن النظام الطائفي مكرّس عُرفاً وبصورة أخرى قانوناً ضمن اتفاق الطائف 1989– وهو الاسم الذي تُعرف به “وثيقة الوفاق الوطني اللبناني”، التي وُضعت بين الأطراف المتنازعة في لبنان، وذلك بوساطة سعودية في 30 أيلول/سبتمبر1989 في مدينة الطائف وتم إقرارها بقانون بتاريخ 22 تشرين الأول/أكتوبر1989 مُنهيّاً الحرب الأهلية اللبنانية التي دامت 15 عاماً- إلا أن الحص لم يُسجّل في تاريخه أيّ موقف يحمل في ثناياه بُعداً طائفياً، في جميع مراحل حياته، سواءً حين تولّيه المسؤولية أو حين يكون خارجها، ولعل ذلك ما جعله شخصية جامعة وموّحدة بين مختلف الفرقاء السياسيين.
مذكرات الحص
النزاهة لا تستقيم أحياناً مع الاستقطابات الطائفية والمذهبية، فما بالك إذا كان النظام طائفياً، فثمة محاولات جرت لإزاحة الحص عن المشهد السياسي باسم الطائفة أحياناً. وفي مذكراته الموسومةSalim El Hoss: For Truth And History -2000: Experiences in Governance 1998 “للحقيقة والتاريخ- تجارب الحكم ما بين 1998 و2000″، يتناول المحاولات التي تعرّض لها لاغتياله سياسياً بقوله “لقد حاولوا اغتيالي لإزالتي من ذاكرة البلد، ولكن خدمتي لوطني هي أغلى ما أملك وأترك لأحفادي. ولستُ نادماً على شيء، ولم أعمل لنفسي، ويداي لم تتسخا وضميري مرتاح”.
أما الجهات التي حاولت إزاحته فهي جماعات لبنانية مختلفة، بعضها جرّاء مواقفه العروبية الرافضة للحلول الاستسلامية حيث كان موقفه داعما للمقاومة دائماً. والبعض الآخر المتورط بالفساد، ناهيك عن منافسات حول التمثيل السياسي لبيروت دون أن ننسى دور الأجهزة الأمنية السورية التي كانت متحكمة بالقرار اللبناني كما هو معروف.
وعلى الرغم من توافقه مع الرئيس إميل لحود إلا أن مذكرات الرئيس الحص تبيّن اختلافهما حول العديد من الأمور. وبسبب استقلاليته وتقديمه المصلحة اللبنانية على ما سواها تعرّض مرة أخرى لعملية اغتيال راح ضحيتها مرافقون له، كما تعرّض إلى تهديدات مباشرة وغير مباشرة من جهات مقرّبة من الأجهزة الأمنيّة السورّية.
وأخبرني الصديق الدكتور وسيم حرب أنه وفريقاً معه التقطوا الإشارة التي صدرت عن الرئيس الحص، وهي أقرب إلى شيفرة لا طائفية فقرروا العمل معه وإلى جانبه بحماسة واندفاعة كبيرتين، إلا أن الظروف لم تكن لتسمح بتطوير حالة عابرة للطائفية وتقاسم الوظائف، وهو ما أكدّه الدكتور عصام نعمان الذي عمل وزيراً في حكومة الحص وهو أحد المقربين الأساسيين منه. وكان الحص على رغبته في إنجاز عملية التغيير بالتدرج، إلا أنه كان يدرك المخاطر الجمّة التي تحيط به وبفريقه. ولذلك كان شديد الحرص والمسؤولية على فريقه الذي كان يحاول تنبيههم خشية حصول المحذور.
وعلى الرغم من تقدير الحص لمواقف سوريا، إلا أنه يشير إلى اختلافاته معها، وهو ما يذكره في الفصل الخاص الموسوم “بين سوريا وبيني”، ولعل ذلك كان مصدر احترام من جانب الرئيس حافظ الأسد الذي كان يقدّر نزاهة الحص ووطنيته وعروبته.
وعن آخر معركة انتخابية خاضها حتى وإن لم يكن مضطرا كما يقول، لكنه أراد طرح برنامج لمعالجة المشكلات الداخلية فضلاً عن مواجهة الهجمات الإسرائيلية التي سبقت الانسحاب في العام 2000.
زيارات ومشاركات
أذكر أنني زرته ثلاث مرات في منزله المتواضع ببيروت: مرة مع مجموعة شخصيات عربية كانت تشارك في مؤتمر ببيروت، وثانية برفقة الدكتور خيرالدين حسيب، وثالثة مع وفد من المركز العربي لتطوير حكم القانون والنزاهة برفقة الدكتور وسيم حرب.
كما شاركتُ معه في عدد من المؤتمرات داخل لبنان وخارجه، منها مؤتمر في الشارقة (الإمارات)، وأخرى في الدوحة (قطر)، وكنتُ في كل مرة أعجب بكلامه وإتزانه وحكمته وعمق تجربته فضلاً عن تواضعه وهدوئه. وكنت أنظر إليه من زاويتين: الأولى: كونه أستاذا للاقتصاد في الجامعة الأميركية ببيروت وظّف علمه لخدمة بلده. والثانية: كسياسيّ مستقل تمتّع بكفاءات إدارية نادرة ملّحها بظرافة شخصية استخدمها كوسيلة لتلطيف الأجواء في المواقف الصعبة. وهو ما يرويه الدكتور عصام نعمان عن خفّة دمه وسرعة بديهته.
الزهد “رئيساً”
اليوم، يعيش الرئيس الحص في منزله المتواضع في حيّ عائشة بكّار ببيروت، بعيداً عن الاستعراضات التي يقوم بها بعض السياسيين في لبنان، لجهة الحمايات والحراسات وقطع للطرقات. وعلى الرغم من ظروفه الصحية الصعبة ظل يستقبل أصدقاءه بين الفينة والأخرى، وقلبه على بيروت الجريحة التي أراد لها البعض تبديل ثوبها.
لم يعمد الحص إلى تأسيس حزب تابع له، ليستفد منه بعد خروجه من السلطة، ولم يفعل ذلك وهو في قمة السلطة أيضاً، فبقيّ زاهداً ومترفعاً وراقيّاً في تعامله، كما ظل حريصاً مثلما هو معروف على كونه ابن الدولة الحقيقي وخادمها الفعليّ، دون التفكير بأي امتياز خارج حكم القانون، فقد آثر أن يخدم لبنان بعيداً عن الحزبوية والتحزّب، ويكاد يكون من رجالات الدولة القلائل الذين عملوا حقيقة وواقعاً لإصلاح ما يمكن إصلاحه في بلد نظامه قائم على التجاذبات الخارجية الإقليمية والدولية.
* سليم أحمد الحص (20 كانون الأول /ديسمبر 1929)، وتزوج من ليلى فرعون (توفيت عام 1990) ولهما ابنة وحيدة: وداد.
من مؤلفاته:
The Development of Lebanon’s Financial Market (بيروت، 1974)
نافذة على المستقبل (بيروت، 1981)
لبنان على المفترق(بيروت، 1983)
نقاط على الحروف (بيروت، 1987)
حرب الضحايا على الضحايا (بيروت، 1988)
على طريق الجمهورية الجديدة (بيروت، 1991)
عهد القرار والهوى (بيروت، 1991)
زمن الأمل والخيبة (بيروت، 1992)
ذكريات وعِبَر(بيروت، 1994)
للحقيقة والتاريخ (بيروت، 2000)
محطات وطنية وقومية (بيروت، 2002)
نحن والطائفية (بيروت، 2003)
عصارة العمر (بيروت، 2004)
صوتٌ بِلا صدى(بيروت، 2004)
تعالوا إلى كلمة سواء (بيروت، 2005)
سلاح الموقف (بيروت، 2006)
في زمن الشدائد لبنانياً وعربياً (بيروت، 2007)
ما قل ودلّ (بيروت، 2008)
***
* كلمة تحية بمناسبة تكريم الدكتور سليم الحص
السيدات والسادة تجمّع اللجان والروابط الشعبية – مكتب المؤسسات الاجتماعية
أيها الحفل الكريم،
تحية حارة ومن خلالكم أحيّ الشخصية الوطنية العروبية الكبيرة الدكتور سليم الحص وأتمنى لاحتفالكم المهيب النجاح والتوفيق، وللدكتور الحص الصحة والسعادة، ولأمتنا العربية العزّ والسؤدد.
إن مبادرتكم بتكريم الدكتور الحص تستحق التقدير، ففي تكريمه تكريماً لمعاني الوطنية الحقة والعروبة الصادقة والإنسانية المخلصة، فقد أفنى الرجل حياته مكافحاً ومنافحاً عن حقوق العرب، ليس في لبنان فحسب، بل في جميع البلدان العربية، وخصوصاً دفاعه الذي لا يلين عن حقوق الشعب العربي الفلسطيني، ولاسيّما حقه في تقرير المصير وعودة اللاجئين وإقامة الدولة الوطنية الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف، تلك الحقوق الثابتة وغير القابلة للتصرّف أو التنازل تحت أي مبرر كان.
ولهذا فإن مبادرتكم هي مبادرة كريمة للمُثل والقيم التي ناضل من أجلها طويلاً الدكتور الحص، وإذْ أحييكم على هذا الاختيار، فإنما أعتبر هذه المبادرة تمثلنا جميعاً، وهي باسم كل من آمن بطريق الأمة العربية ومشروعها النهضوي الحضاري في الحرية والكرامة والاستقلال والتحرر وحقوق الإنسان والديمقراطية والتنمية والعدالة الاجتماعية والتجدد الحضاري. ولعل هذه هي الأهداف العامة للربيع العربي، حيث عانت بلداننا وأمتنا طويلاً من الهيمنة الأجنبية ومشاريعها الإمبريالية – الصهيونية، ومن الاستبداد والديكتاتوريات والقمع المعتّق، وآن الآوان لتعزيز مساهمتها ودورها، في اللحاق بركب العالم المتمدّن، وفي ظل القيم المشتركة للإنسانية!
لعلها خسارة لي في عدم حضور هذه الفرصة التاريخية والاستماع إلى كلمات وشهادات لمفكرين وقادة رأي وسياسيين مرموقين بحق الدكتور الحص، وعذري أنني كنت مرتبطاً في وقت سابق بمواعيد خارج لبنان، لهذا أقدّم اعتذاري، ولكم منّي خالص المودّة والاحترام وللدكتور الحص الصحة والسعادة.
ومعاً مع الدكتور الحص على طريق الحق والعدل والقيم الوطنية والإنسانية، تلك التي عمل وضحّى من أجلها، فكراً وكتابة وممارسة وخلقاً رفيعاً، سواءً كان في مسؤولياته الرسمية، أو في مهماته الشعبية، وتسنّى لي مثل الكثيرين من الذين يحضرون احتفالكم، التعرّف عليه منذ سنوات، فوجدت فيه التواضع الجمّ والإخلاص المنقطع النظير والنزاهة والاستقامة اللتان لا حدود لهما وعفّة اللسان والنبل، فضلاً عن مخزونه المعرفي الوفير ومساهماته الاقتصادية والحقوقية الرصينة، التي أغنى بها المكتبة العربية، وصدق من أطلق على الرئيس سليم الحص “ضمير لبنان”.
تحية لدولة الرئيس الحص وتحية لاحتفالكم، وشكراً لمنحي فرصة مخاطبتكم،
أصافحكم بحرارة
د. عبد الحسين شعبان
أيار/2012
*نشرت في جريدة الزمان “العراقية” بغداد- لندن بتاريخ 15 تموز/ يوليو2021