انسحاب القوات الأمريكية من العراق وتقطيع الأذن
« نقول إن العراقيين يستحقون حياة أفضل، ولدينا خيرات نريد أن ينعم بها أبناء شعبنا، إلا أن الصراع السياسي يكبّل أي تقدم». لنفترض ان هذا التصريح قد تم تقديمه في برنامج حزورات، يتساءل فيه مقدم البرنامج: «من قال هذا ؟» وهل هو رئيس اتحاد طلبة أو رئيسة منظمة مجتمع مدني أو مديرة جمعية خيرية، ما الذي سيكون عليه الجواب؟
هل سيتبادر إلى أذهان المتسابقين وجمهور البرنامج أن قائل التصريح المتباكي الذي يلقي اللوم في بؤس حياة العراقيين على «الصراع السياسي» هو رئيس وزراء العراق الذي يُعدّ، وفق شروط وظيفته، وحسب الدستور، وبكل المعايير، المسؤول التنفيذي المباشر عن السياسة العامة للحكومة والقائد العام للقوات المسلحة العراقية ؟ مما يعني انه المسؤول الأول عن الوضع العام في البلد، بكافة مستوياته الاقتصادية والصحية والتعليمية ناهيك عن الامنية والعسكرية. وهل هناك حاجة الى تذكيره بأنه مسؤول عن تنظيم عمل الوزارات بما يتماشى والوضع العام من اجل وضع الحلول المناسبة وحل القضايا العالقة؟ وهل هناك ما هو أكثر الحاحا من القضايا ذات العلاقة باستمرار الحياة، بشكل طبيعي، ووضع حد لسقوط الضحايا المتزايد إغتيالا، كما مئات المتظاهرين والناشطين، وحرقا كما في مستشفيات المصابين بالكورونا، وتفجيرا كما في ضحايا مدينة الصدر، ببغداد، أخيرا؟ وكيف انتهى العراق برئيس وزراء إما لا يعرف معنى مسؤوليته الوظيفية، ويعتقد إنها تقتصر على زيارة أهالي الضحايا والتقاط الصور مع أطفالهم، أو يعرف تماما حجم المسؤولية إلا أنه يتجاهلها، لأنه عاجز عن القيام بها أو لأنه يستهين بالعراقيين ويجد انهم يستحقون الموت؟
واذا ما نظرنا الى صورة العراق الأكبر وعلاقته بقوات الاحتلال والعالم، المتشابكة والمتغلغلة بمآسي الحياة اليومية، كيف انتهى العراق برئيس وزراء، يتعامل مع الأحداث وكأنه رئيس منظمة غير حكومية، ومع ذلك سيفاوض باسم العراق حول واحدة من أهم الاتفاقيات، وهي الاتفاقية الاستراتيجية وانسحاب قوات الاحتلال الأمريكي، مما يستدعي المقارنة النوعية مع شخصيات الوفد الفيتنامي المفاوض للغزاة الأمريكان والجزائري المفاوض للمستعمر الفرنسي، في ظل الغموض المحيط بتفاصيل الأتفاقية ولا سياسة حكومة مصطفى الكاظمي.
أعلن الكاظمي أن مهمته هي مناقشة جدولة انسحاب القوات الأمريكية القتالية ( التعبير الرسمي لقوات الاحتلال) من العراق، إذ لايزال هناك 2500 جندي أمريكي في البلد. والتفاوض حول انسحاب أية قوات أحتلال هو موقف وطني لا خلاف عليه. باستثناء ان واقع الحال، مغاير تماما، كما تدل تصريحات الكاظمي ووزير خارجيته المتناقضة مع بيانات قادة الميليشيات والعشائر وتصريحات مسؤولي الادارة الأمريكية، مما يثير الشكوك والألتباس حول أبسط المفاهيم كالوطنية والاحتلال والمصالح المشتركة بالاضافة الى حقيقة ما يتم الاتفاق عليه.
تحت مسمى الشراكة «الناعم» سيبقى، اذن، الوضع كما هو تقريبا، إلى أجل غير مسمى، تحت الوصاية الأمريكية الإيرانية، مع تعديلات في نسب ومجالات المشاركة والصراع
فمن جهة أكد وزير الخارجية فؤاد حسين أن القوات الأمنيّة ما تزال في حاجة إلى البرامج التي تقدمها أمريكا في مجالات التدريب، والتسليح، والتجهيز، وتقديم المشورة في المجال الاستخباري، وبناء القدرات، وأهمية ديمومة الجهود الأمريكية العسكرية لمحاربة الأرهاب. وأن العراق يجدد تأكيده والتزامه بتعزيز شراكته الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية بوصفها شريكاً أساسياً في التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش. وشكر أمريكا لدعمها إجراءات مُراقبة الانتخابات المقبلة وضمان نزاهتها، موضحا بأنه، بالاضافة الى ذلك كله، قد تم إبرام العديد من مُذكرات التفاهم في قطاعات مُتعددة من بينها الاقتصادية والصحية ومجال الطاقة والاستثمار فضلا عن السياسة الأقليمية. كرر فؤاد حسين في تصريحاته ومقابلاته أن اتفاقية الإطار الاستراتيجي مبنية على « العمل المشترك» بين البلدين.
ولكن بدون ان يتطرق الى تفاصيل الفائدة التي سيجنيها « الشريك» الأمريكي. بل ترك التفاصيل مغيبة ساردا بتفصيل كبير ما سيجنيه العراق، مستبعدا واقع الهيمنة الكلية الممنوحة لأمريكا بكافة النواحي. مما يوحي وكأن ما يحصل عليه العراق هبة مجانية من قبل جمعية احسان تدعى الولايات المتحدة وليس، كما هو معروف تاريخيا، تعزيز لعنصرية المحتل وسيطرته وأخطرها رعاية التفرقة وتشجيع التمايز في المظلومية والظهور بمظهر حامي حقوق الانسان وبناء الديمقراطية.
اذا كان الكاظمي، يحاول استغلال مشاعر الميليشيات المدعومة إيرانيا، الأقوى من القوات الأمنية والجيش، والتي هددته احدى فصائلها بان «الوقت مناسب جدا لتقطيع أذنيه كما تقطع آذان الماعز» فان لمحاولته حدودا لا يستطيع تجاوزها. إذ ان الادارة الأمريكية لن تتخلى بسهولة عن بلد لديه ثاني أكبر احتياطي نفط في العالم، ويمكن الوصول إليه بسهولة، ويقع في المنطقة الرئيسية المنتجة للطاقة في العالم، وحلبة للمساومة مع إيران بصدد السلاح النووي. وكما نّوه وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، في مؤتمر صحافي، إن الشراكة مع العراق أكبر بكثير من الحرب ضد داعش.
تحت مسمى الشراكة «الناعم» سيبقى، اذن، الوضع كما هو تقريبا، إلى أجل غير مسمى، تحت الوصاية الأمريكية الإيرانية، مع تعديلات في نسب ومجالات المشاركة والصراع كما هو حاصل منذ احتلال العراق عام 2003. وسيواصل المسؤولون الأمريكيون والعراقيون اطلاق التصريحات عن تحول دور القوات الأمريكية من العسكري القتالي إلى الاستشاري، وهو عمليا ما تقوم به، حاليا، باستثناء القصف الجوي واستخدام الدرونز، الذي يدار كله من قواعد موجودة خارج العراق ولن يطرأ تغيير عليه وعلى دور قوات الناتو. وكل ما سيحدث هو التلاعب ببعض المفردات لأغراض اعلامية. بينما ستبقى الحقيقة مُغَيبة باتفاق الطرفين الأمريكي والحكومي العراقي على طمس مسؤولية أمريكا في غزو العراق الذي يشكل جريمة حرب، إذ لم يكن الغزو دفاعًا عن النفس ضد هجوم مسلح، ولم يقره مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي يجيز استخدام القوة من قبل الدول الأعضاء، وفقًا للجنة الحقوقيين الدولية في جنيف. مما يجعل توقيع أي مادة ضمن الاتفاقية الاستراتيجية شرعنة لجريمة الحرب وتمديدا لهيمنة المحتل والغاء لحق الشعب العراقي في اي تعويض قد يطالب به جراء الغزو والتخريب وخسارة الحياة الإنسانية. وكل هذا بموافقة حكومة تدّعي الوطنية.